كان شعار “لا شرقية، لا غربية، جمهورية إسلامية” من أبرز تعاليم الخميني مؤسس الحكم الحالي في إيران. لكن بعد أكثر من أربعة عقود يتضح بما لا يقبل الشك أن الاستقلالية لم تتحقق وأن مسعى إعادة المجد الإمبراطوري دفع لتحويل إيران إلى مدى جيوسياسي يخضع لضغوط صراع القوى الكبرى.
بينما كانت تتركز الأنظار على العودة للعمل بالاتفاق النووي للعام 2015 إثر تمركز إدارة بايدن، بدا الأمر متعذرا أو متأخراً، وإذ بطهران توقع اتفاقاً للتعاون الإستراتيجي مع بكين لمدة ربع قرن. للوهلة الأولى يبدو الأمر إنجازاً كبيرا لطهران يخرجها من عزلتها ويمثل ورقة في التفاوض مع إدارة بايدن لاحقاً. لكن الواقع أكثر تعقيداً لأن هذا الاتفاق ينطوي على الكثير من التضخيم المقصود لأهداف داخلية وخارجية، لكنه سيجعل العلاقة الإيرانية مع الجار الروسي أصعب ولأن الصين غير مستعدة ليكون ذلك مفتاحا للصدام مع واشنطن بشكل مباشر على أبرز ممرات “طرق الحرير الجديدة”.
بالرغم من كل المتاعب والتعرجات والتجاذب المفتوح صعوداً وهبوطاً مع واشنطن، نجحت إيران في فنون المناورة كي لا تكون أراضيها مسرحا مباشرا لصراعات الآخرين وذلك بعد معاناتها خلال الحرب مع العراق. بيد أنه منذ 2010 أخذت إيران تتعرض لهجمات داخل أراضيها متصلة ببرامجها النووية والصاروخية وبالإرهاب، لكن تمددها الإقليمي ومشروعها الإمبراطوري جعل من دول عربية مجاورة مركزا للصراعات. والآن في خضم تنافس أميركي – صيني محتدم تجد إيران نفسها في قلب المعمعة وهكذا بعدما كانت بلاد فارس تاريخيا محط اهتمام روسي وأنجلو – سكسوني، ها هو صراع جديد يرتسم حول إيران بين القطبين الأميركي والصيني.
كانت العلاقة مع واشنطن زئبقية ووصلت إلى ذروتها مع رهان باراك أوباما على الشراكة بالرغم من كل إسطوانة العداء والخصومة، لكنها تمر بامتحان عسير تبعا لتضارب المصالح بعد تعاون غير مباشر بدأ في 2001 بزخم وتصاعد خلال حرب العراق وبعدها، لكنه أخذ يتراجع منذ حقبة ترامب. ولذا نظرا لعدم وجود إمكانات اقتصادية كافية عند روسيا وتبعاً لعدم قدرة أوروبا على التغريد بمفردها بعيداً عن واشنطن، وجدت طهران في “مبادرة الحزام والطريق” الصينية وسيلة للانفتاح على بكين ومجاراة طموحاتها في التوسع الاقتصادي والإستراتيجية، علماً أنه تجمع بين الصين وإيران علاقات وثيقة ولكنها معقدة. والبلدان متشابهان من نواح متعددة. فهما حضارتان قديمتان. ويتم التأكيد من الجانبين على أهمية علاقاتهما السياسية والثقافية مع التشديد على القواسم المشتركة في تراثهما القديم والتعاون بينهما في القضايا المعاصرة إذ تلتقي إيران والصين في الحقبة الحالية على رفض هيمنة الولايات المتحدة (حسب وصية الخميني).
في العودة إلى الوثيقة التي وقع عليها يوم 28 مارس الماضي وزيرا خارجية الصين وروسيا في طهران، فهي وثيقة من خمس صفحات مكتوبة بالصينية والفارسية وتحدد خارطة الطريق لمجالات التعاون بين البلدين لمدة 25 عاماً. منذ يونيو 2020 قدمت الصحافة الإيرانية الرسمية النص كمشروع بقيمة 400 مليار دولار من الاستثمارات الصينية في إيران في صناعة النفط والغاز وشبكة الطرق والسكك الحديدية والمطارات وقطاع التكنولوجيا. في المقابل تعهدت طهران التي منعتها واشنطن من تصدير نفطها بإمداد بكين بالمحروقات بأسعار مخفضة. لكن ذلك أثار حفيظة الأوساط القومية متهمة الجمهورية الإسلامية المخنوقة بالعقوبات الأميركية بـ”بيع البلاد” إلى “التنين الصيني”، ووصل الأمر إلى التذكير بأنه خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر فقدت إيران العديد من أراضيها في القوقاز لصالح الإمبراطورية الروسية جارتها المنافسة بعد حروب بينهما.
وهذه الصفقة التي أراد الجانبان كتم تفاصيلها ليست معاهدة دولية، بل مذكرة تفاهم تتعلق بثلاثة مجالات محددة للتعاون بين البلدين.
وإذ تنفي أوساط صينية احتواءها على جوانب أمنية سرية، يتهم « مركز راند » الأميركي الصين بدعم قمع “الانتفاضة الخضراء” الإيرانية في 2009 متناسيا أن إدارة باراك أوباما حينئذ فضلت عدم التدخل لدعمها. وفي سعي للتبرير في الداخل الإيراني يقول محمود واعظي مدير مكتب الرئيس حسن روحاني إن “الاتفاق هو خارطة طريق لعلاقاتنا واستثماراتنا وتجارتنا المشتركة مع الصين وستستكمل خلال الأشهر والسنوات المقبلة (…) هذه الوثيقة ليست اتفاقية أو صفقة، إنما هي إطار عام لرسم العلاقات بين البلدين للعقود المقبلة وهي ليست ملزمة للطرفين”. أما المتحدثة باسم وزارة الخارجية فقد حرصت على القول “لا تسعى الصين أبدا إلى أي مصلحة خاصة في الشرق الأوسط، ولا تحدد مناطق لفرض النفوذ، ولا تدخل في معارك جيوسياسية”. وفي ما يتعدى الأهداف الحقيقية للجانبين يأتي توقيت الإعلان عن اتفاق يتم التفاوض عليه منذ 2016، ليتناسب مع رغبة إيران في توجيه رسائل للغرب ومع رغبة الصين في تطبيق إستراتيجياتها ومنافسة واشنطن في هذه المنطقة الحيوية.
من الناحية الاقتصادية لا بد من تقييمه عبر مقارنه هذا الاتفاق بأمثاله في الإقليم، ففي العام 2016 جرى توقيع اتفاق مماثل بين الصين والمملكة العربية السعودية أكبر مورد للنفط وأكبر مزود للمخزون الصيني الإستراتيجي. ويشار إلى أن وزير الخارجية الصيني بدأ جولته الإقليمية في الرياض وليس في طهران. ولا يقتصر القلق الأميركي والأوروبي حيال هذا الاتفاق على الجانب الاقتصادي، إذ أن الخبراء الأوروبيين المتابعين لبرنامجي إيران النووي والباليستي يخشون من تسرب التكنولوجيا الصينية إلى إيران عبر كوريا الشمالية، لكن أوساط الصناعات الدفاعية تركز على أدوار موسكو وبيونغ يانغ مشيرة إلى التعاون الكبير في نقل التكنولوجيا من إسرائيل نحو الصين. وهذا التنوع في العلاقات الصينية يشمل مصر والجزائر والعراق وكذلك إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. ولذا يعتبر أحد المتابعين للسياسة الخارجية الصينية أن “الصين لا تدعم أي طرف في منطقة الشرق الأوسط على حساب أطراف أخرى وترفض مفهوم الأحلاف وإنشاء التكتلات، كونها تحمل عقلية الحرب الباردة وَتعزّز احتمالية حدوث التوترات والحروب، وهي تُفضّل في المقابل التركيز على بناء شبكة واسعة من الشراكات الإستراتيجية معتمدة في ذلك على قوّتها الاقتصادية المتنامية”.
بالرغم من أهمية التبادل الصيني – الإيراني (الصين أكبر شريك تجاري لإيران، في حين أن طهران هي ثالث أكبر زبون لبكين في الشرق الأوسط) فقد خفضت الصين بشكل كبير تبادلاتها الاقتصادية مع إيران منذ عام 2018 امتثالًا للعقوبات الأميركية. والآن مع التوتر الأميركي – الصيني وفي سباق مع انفتاح واشنطن المنتظر على طهران تنتهز بكين الفرصة، إذ قامت إيران بشحن كميات قياسية من النفط إلى الصين خلال الأشهر القليلة الماضية بطرق غير مباشرة، وأفاد متعاملون ومحلّلون في سوق الطاقة بأن الصين تلقت تدفقاً كبيراً آخر من النفط الإيراني الرخيص في مارس الماضي، الذي يأتيها على أنه خام من مناشئ أخرى، ويمكن أن يصل ما يقرب من مليون برميل يومياً من الخام الإيراني إلى الصين أي ما يقرب من نصف الكمية التي أتت من السعودية، أكبر مصدّر في العالم، إلى الصين في أول شهرين من هذا العام. وهذه الأرقام بحد ذاتها تقلق روسيا المنتجة للنفط مثلما تقلق واشنطن.
إنها إذا لعبة مصالح وتوازنات في المقام الأول ولا مكان فيها للأيديولوجيات بعيداً عن إرث الخميني وظل ماو، لأن الصيغة الجديدة للعولمة التي ترفع لواءها بكين وتسلم بها طهران تراعي تدفق الرساميل والسلع والمصالح الوطنية وما الشعوب فيها إلا مادة صراع دولي سيحتدم في غرب آسيا وأقصاها خلال هذا القرن.