سأل الصحفي سليم اللوزي، الذي اغتيل في (4 مارس 1980)، سماحة الإمام موسى الصدر عن علاقته بإيران ومدى إرتباطه بها؟ وأجابه: بصراحة ووضوح “…الشيعة في لبنان، لبنانيون عرب قبل كل شيء، والرابط السياسي بينهم وبين أي بلد غير لبنان لا سيما البلاد غير العربية خطر كبير بل خطيئة، وهل نشكو في لبنان من قلة الولاءات حتى نحاول إضافة محور سياسي جديد؟
لم يقدّر بعد حزب الله، وحليفه العوني، حجم ومدى الغضب المتراكم وخصوصا المسيحي، بعد انفجار 4 أغسطس. يتعامل مع المسألة باستخفاف معتقدا أن أدواته التقليدية ستنفع. وهذا ما برهنت عليه الشعارات التي رفعت في تظاهرة 8 أغسطس رافضة لسلاح الحزب وللعهد وسياسييه، الذين علقت لهم المشانق، وتجرأوا على وضع السيد نصرالله بينهم.
في تظاهرات، يوم الثلاثاء الماضي، التي أشعلت لبنان، وربما أريد لها عكس ما حصل، إذ رفع المتظاهرون بوجه الحزب والعهد: خيي انتم تتحركون انطلاقاً من تكليف شرعي اليس كذلك؟ ونحن أيضاً نتحرك مثلكم بتكليف شرعي، البطريرك قال لا تسكتوا!! ألا يحق لنا التصرف مثلكم؟
لا شك أن مواقف البطريرك الراعي فاجأت حزب الله وأربكته، فهو قطع الطريق على الفيدرالية وعلى المؤتمر التأسيسي، وقال: نريد تطبيق الدستور، ولبنان الطائف وطن نهائي للجميع. أعادنا إلى خطاب البطريرك الحويك: نريد دولة ينتسب إليها المسيحي والمسلم كمواطنين. وما غذّى المشهد الذي رأيناه في بكركي، بتاريخ 27 فبراير، الرد المتسرع للسيد نصرالله باعتباره خطاب الراعي مزحة، مهدداً: أنه إعلان حرب. فواجههم الجمهور ولسان حالهم: أي وضع لن يكون أسوأ مما نحن فيه.
ما يحصل بلغ درجة من الاستهتار السوريالي الذي يفوق الخيال. تحوّل لبنان إلى أدنى درجات السلم بكل مقياس ممكن أو معروف عالميا وعلى جميع الأصعدة.
يتعامل الحزب، بواسطة مقربين منه، مع مطلب الحياد بخفة. يردّ عبر الشيخ صادق النابلسي: الحياد مطروح لتفجير البلد لأنه يعني الحماية والوصاية. بالطبع سيرفض الحياد من يرسل ميليشياته، بأمر من إيران، لتقاتل من سوريا إلى اليمن مرورا بالعراق. وبالطبع سيعلمنا الشيخ قبلان “أن الحياد خيانة والمؤتمر الدولي إذا كان بنسخة “سايكس بيكو” فنحن ضده”. وهو سبق ان رفض دولة لبنان الكبير لعام 1920. هذا يؤكد أنهم ضد الكيان اللبناني أصلا إلا إذا كان لخدمتهم. اما استغلال مرجعية “سايكس بيكو”، فتثبت المقولة البعثية إن “لبنان كيان مصطنع”. وتعني أنهم مع “هدم الحدود المصطنعة” بين سوريا ولبنان وصولا إلى إيران.
وبالتالي لا معنى لمزايدة الشيخ النابلسي، على من سمّاهم “بقايا 14”: بكيف يستقيم رفع شعار الحياد مع شعار الحرية والسيادة والاستقلال”؟ هو مجرد لغو ممن يعتدي على السيادة في كل لحظة. ومبادرة البطريرك بمؤتمر دولي برعاية الامم المتحدة هو تحديدا لاستعادة السيادة.
ثم ما معنى رفضهم للمؤتمر الدولي الذي يطالب به البطريرك لدعم استقلال لبنان ووثيقة الإتفاق الوطني، التي انقلبوا عليها وعلى الدستور اللبناني، ورفض تنفيذ قرارات الشرعية الدولية خصوصا 1559،1680 و 1701، بينما هم يعيشون في كنف هذا التدويل وفي رعاية القرار 1701؟
هل خرج لبنان يوما، في كل مرة تعرّض فيها لأزمة وطريق مسدود، إلا عن طريق التدخل الدولي؟ منذ إنشائه إلى مؤتمر الطائف إلى تفاهم أبريل عام 1996 إلى وقف الأعمال العدائية عام 2006 وصدور القرار 1701 الشهير الذي ناشد رئيس الجمهورية، في الصيف الماضي، باسم حزب الله، الأمم المتحدة لتطبيقه، مروراً بمؤتمر الدوحة!!
كل ذلك ليس تدويلاً!! لكن مطالبة الأمم المتحدة التدخل لإنقاذ لبنان من دوامة الانهيار، هو تدويل وخيانة. لم يستوعب بعد حزب الله أن أوراق التين سقطت جميعها بالنسبة للبنانيين منذ انفجار 4 أغسطس المشؤوم. لا يريد أن يصدّق أن الشعارات التي أطلقت في بكركي وفي التظاهرات التالية: “إيران برا، وحزب الله إرهابي”، هي لسان حال معظم اللبنانيين؛ فيتوهم ان اساليبه التقليدية في التهديد والتخوين ستنفعه. لم يعرف أنه بعد أن أوصل، مع حلفائه، اللبنانيين إلى درجة التعارك على علبة حليب للأطفال! تجعل تهديداته أخف وطأة مما ينتظرهم من كوابيس.
نعم الشعب اللبناني في خطر ويحتاج لحماية صحته وحياته ومعيشته وماضيه ومستقبله من سلطة عدوة تحكمه. أصبح لبنان مساحة يعيش فيها اللبناني كما في البراري. دولة سائبة بلا حدود ولا مؤسسات. في ظل سلطة خزنت مواد ممنوعة متفجرة في المرفأ وبين السكان في قلب العاصمة. ومن تجرأ واشار الى خطرها، إما رميت تحذيراته في الادراج، وإما سجن وإما قتل. وهي تماطل منذ 7 أشهر في التحقيق لتمييعه. حتى أن السيد نصرالله أعلن انتهاء التحقيق والتزمت السلطة بعرقلة التحقيق. قرروا شراء الناس بتعويضهم بحفنة ليرات بلا قيمة.
التفجيرات المماثلة لا تزال تهدد حياة اللبنانيين. فالفيديوهات والأنباء تشير إلى مناطق بعينها تخزن فيها الأسلحة ومصانع الصواريخ المعرضة للانفجار، كما حصل في عين قانا، في قلب بيروت وبين السكان. ولا تعليق. بعد جولة الصحافيين إثر فيديو نتنياهو ليقوموا، سرّبت صوراً لأكياس أمونيوم نسبت لبجاني الذي اغتيل قرب بيته؛ هذا ولم تتجرأ زوجته، التي تخاف على حياتها الآن، على دحض ما يشاع في أن لا علاقة له بالمرفا وليس مصوراً أصلاً. سوى بعد اغتيال لقمان سليم.
ورد اسم لقمان سليم على لائحة سميت “شيعة السفارة” لهدر دمهم كخونة، ومن ثم قتل!! وألحقت باثنتين جديدتين. فهل فكرت نياباتنا العامة أو نقابة المحامين أو أي جهاز قضائي أو أمني على مساءلة الجهة التي صدّرت هذه اللائحة وما تلاها مع أسماء جديدة؟ هل وجدوا المسدس الذي قتله بدل ملاحقة اسرته وشيطنتها بمسلسل الهاتف؟
وبعد كل ذلك يخوّنون مبادرة البطريرك الانقاذية؛ لأنهم ويخافون من إشارته للسلاح غير الشرعي ومن مطالبته بالسلام بصيغة القمة العربية في بيروت عام 2002.
أما العلمانيين الذين جرح شعورهم “تدخل البطريرك كرجل دين بالسياسة”، فيا سادة، هذا ما يحصل عندما تفشل الطبقة السياسية بالقيام بواجبها، يقوم رجال الدين بما عجزوا عنه. ثم لماذا تغضون الطرف عن تعليمات وتهديدات السيد نصرالله، أليس رجل دين؟
أيها “العلمانيون”، لقد جعلتم من العلمانية ديناً متعصباً.
العلماني شخص ليس لديه أي تحفظ ضد أي معتقد كان. حرية المعتقد حق مقدس. سواء كان إيمانيا دينيا أو إلحادا، عقائديا حزبيا أو أيديولوجيا، يؤمن بالله أو بالصدفة… ومن المستغرب أن يرفض مؤمنا بنظريات فرويد أو ماركس أو نيتشة أو داروين للمتدين إيمانه بالله، كما لا أجد أن الايمان بـ”الطبيعة الأم” يختلف في شيء عن الإيمان بخالق. في الحالتين لن نعرف السبب ولا ماذا يوجد قبل البيغ بانغ، لذا لا فرق بين المعتقدات مهما كانت: دين إبراهيمي أو أي من أديان آسيا من بوذية وكونفوشية وغيرها، حتى الغنوصية.
ما هو غير مقبول أن يجبرني هذا الآخر على الإيمان بمعتقداته أو اتباعها، سواء بالقوة والسلاح أو بالحيلة أو بالرشوة. أما فيما يتعلق بخطاب البطريرك الراعي التاريخي، فأؤيده لأنه يعبر عن موقفي كمواطنة لبنانية همها إنقاذ لبنان أولا قبل أي شيء آخر.
ولا يوجد حتى الآن طريق آخر لبلوغ ذلك.
ففي زمننا الحالي يا سادة لا وجود لكم خارج هوية وجنسية لبلد معين. إن اي شخص من دون وطن وجنسية هذا الوطن يعني أنه غير موجود، غير موجود على أي سجل معترف به دوليا ولا يملك اي حق، مطلق حق، لا يتطبب ولا يتعلم ولا يسافر ولا يعمل. اللهم إلا عبداً في زريبة أحدهم. الراعي عبر عن موقف فئة وازنة من اللبنانيين ومن جميع الطوائف والمناطق والانتماءات … هو موقف وليس قانونا يلزمك بطاعته وليس دينا يقتلك إذا ارتددت عنه، وليس تهديدا يرفع إصبعه ليخيفك به أو يرفقه بـ”سنقتلكم” عندما نخالفه.
إنه موقف ورأي ولكل شخص حرية قبوله أو رفضه، لكن أن يرفض لأن صاحبه رجل دين ولا يحق له التدخل في السياسة! فهذا موقف مجحف وغير مقبول. لرجل الدين الحق بإبداء رأي سياسي، ما لا يحق له إجباري على طاعته. إن ما نطالب به فصل الدين عن الدولة، وليس منع رجال الدين من اتخاذ مواقف غير ملزمة لأحد إلا باختياره الحر.
من الملاحظ أن بعض المعترضين باسم العلمانية أو الشيوعية يقبلون من يلوح لهم بلاءاته وهو مدجج بالسلاح الديني المقدس ولا يجرؤ على الاعتراض، مع أنه يلزم الدولة جميعها ويلزمهم شخصياً بخياراته ويجبرهم على الخضوع لسلاح ممول من دولة أجنبية تتبجح باحتلالها لبنان.
يمكنك أن تكون ضد موقف البطريرك، لكن كن ضده بالسياسة وبشجاعة ولا تتلطى خلف معتقدك الذي لا أرى أنه يختلف عن الإيمان الديني الذي ترفضه.
هل يمكن لعلماني موضوعي وعاقل أن يرفض كلام وموقف البطريرك الذي يطالب بتطبيق الدستور اللبناني الذي يحفظ حق مواطنيه بحرية المعتقد؟ أي أن يكون مسلما أو مسيحيا، ملحدا أو علمانيا أو بهائيا أو يهوديا أو بوذيا؟
monafayad@hotmail.com