يجري التركيز حالياً على إعادة تشغيل “خط الغاز العربي” انطلاقاً من مصر نحو الأردن وسورية ولبنان، وتتم هذه الخطوة بموافقة أميركية مبدئية في تزامن مع وصول المازوت الإيراني إلى لبنان، وتتم مقاربتها كمدخل إلى التطبيع مع النظام السوري.
ولا يعتبر ذلك غريبا؛ً لأنه منذ بداية النزاع السوري متعدد الأَوجُه، كان هناك من يربط بين الغاز الطبيعي والتدخل الروسي، وبعد ذلك كان هناك ربط بين بقاء القوات الأميركية والثروة النفطية السورية. وفي مطلق الأحوال تلعب موارد الطاقة دوراً أساسياً في أسباب النزاعات ومجريات الحروب. ولذلك سيكون لمورد الغاز من دون شك تأثير على رسم خريطة سورية المستقبلية كما خرائط الشرق الأوسط الجديد.
إن الجهد الروسي في التحكُّم بمَسارات الغاز نحو سورية للسيطرة على حيِّز مُهِمّ من سوق الطاقة، ومسعى الولايات المتحدة الأميركية لربط أمن الطاقة لدى الحلفاء بدبلوماسيتها ومظلتها الأمنية، يمثلان نموذجين لأدوات الصراع بحلته الجديدة.
في هذا السياق، تؤكد نظريات الأمن الإستراتيجي المعاصرة على أهمية الطاقة ليس من الناحية الاقتصادية فحسب، بل كونها محرّكاً للصراعات ومؤشراً على عناصر القوة لدول المنشأ أو دول الممر أو المصب.
ولذا ترتبط عدة اضطرابات راهنة بالسيطرة على حقول النفط والغاز وأسواقها وممراتها، وعلى الأرجح عند أي تعيين أو ترسيم جديد للحدود ستكون موارد الطاقة من غاز ونفط ومياه مأخوذة بعين الاعتبار.
يُشكِّل الغاز الطبيعي فعلياً مادة الطاقة الرئيسة في القرن الواحد والعشرين، سواء من حيث كونه بديلاً مناسباً للنفط الذي تم تراجع احتياطيه عالمياً، أو من حيث كونه أقل ضرراً للبيئة من الغاز الصخري، ولهذا فإن التحكم أو السيطرة على المناطق الغنية بالغاز في الخليج والشرق الأوسط، أو على دول إفريقية معينة، يعتبر بالنسبة إلى القوى الكبرى وجهاً أساسياً للصراع الدولي في أبعاده الحالية.
فوَفْق تقرير لوكالة الطاقة الدولية الصادر في العام 2011، بدأ العالم يدخل فيما أطلق عليه التقرير “عصر الغاز الذهبي”، وذلك بالتزامن مع انطلاق ما يمكن تسميته بــ”ثورة الغاز الصخري” في الولايات المتحدة الأميركية.
ونتيجة لقوتها البحرية المهيمنة ونفوذها السياسي، تملك واشنطن الكثير من العناصر في أية مواجهة حول مصادر الطاقة أو أسواقها. في المقابل تتمتع روسيا، والكثير من الدول المنتجة، بميزات احتياطيها الإستراتيجي، لكنها تعاني من تبعية اقتصادها لصادراتها من المحروقات ومشتقاتها.
هكذا يرتسم اختبار القوة منذ ٢٠١٤ من الشواطئ السورية في شرق البحر الأبيض المتوسط إلى شِبه جزيرة القرم على البحر الأسود. مع التأكيد على أن الخلفية التي تكمن وراء اختبارات القوة أو الصراعات المستجدة ليست سياسية بحتة، إنما تتعلق أيضاً بالغاز وموارد الطاقة الأخرى.
ضِمن هذا المدى الجغرافي الواسع من خريطة حقول وأسواق وممرات مادة الغاز الطبيعي، تكتسب سورية موقعاً خاصاً لأنها في قلب المشرق، ولأن بحرها وسواحلها كما باقي الدول في “حوض شرق البحر الأبيض المتوسط” تزخر بالثروات، إذ تشير بعض التوقعات إلى أن هذه المنطقة فيها أكثر من 200 تريليون قدم احتياطي من الغاز. ومن هنا تحظى اكتشافات الغاز الجديدة في شرق البحر المتوسط منذ ٢٠٠٩ بأبعادٍ جيوسياسية ومالية واقتصادية وإستراتيجية.
فقد يصبح الغاز عماداً مهماً لاقتصاد العديد من الدول العربية، وهو في المقابل، قد يعطي فرصة لإسرائيل للاندماج اقتصادياً في المحيط ، كما سيجعل كلاً من إيران وقطر قلقتين على دورهما في سوق الغاز، وسيؤدي ذلك أيضاً لتخوُّف تركيا من فِقْدان دورها لناحية كونها تقاطُعاً مهماً لمصب أنابيب الطاقة من روسيا أو من العراق.
في بداية الأحداث السورية، سادَ تصوُّر أن روسيا قررت السيطرة على سورية من أجل الحفاظ على صدارتها في سوق الغاز، لاسيما في مواجهة اقتراح إنشاء خط أنابيب قطري يمرّ عَبْر الأراضي السورية نحو تركيا وبالتالي نحو أوروبا، خاصة أن الدولة الروسية عَبْر “غازبروم” تُصدِّر نحو ٣٠ في المئة من سوق الغاز الأوروبية.
وفي سياق أهمية سورية بالنسبة لاحتفاظ الغاز الروسي بتفوقه لأن هناك سيناريو ثانياً مقلقاً لموسكو قِوامه مدّ خط أنابيب من إيران مروراً بالعراق وصولاً إلى سورية ومن هناك إلى بلدان أخرى؛ في حين أن هناك سيناريو ثالثاً مُطَمئناً لموسكو ومرتبطاً باكتشاف حقول نفطية في المياه الإقليمية السورية في البحر المتوسط، وتطويرها. بالرغم من كل أهمية الساحة السورية اقتصادياً، تبقى الدوافع السياسية والإستراتيجية هي الأساسية لفهم التدخل الروسي من أجل عودة روسيا إلى الساحة الدولية.
ليس من باب الصدفة أن تصبح صراعات النفوذ مرادفة للصراعات حول الطاقة. ولاحظنا أن نشأة “منظمة غاز شرق المتوسط” في ٢٠٢٠ والتي تضم 7 دول هي كل من مصر وإسرائيل وقبرص واليونان، إضافة إلى الأردن وفلسطين وإيطاليا (مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا بمثابة مراقبين) أتت تطويراً للمنتدى الذي أخذ نفس الاسم في ٢٠١٥.
وسرعان ما فسرت أنقرة ذلك بأنه استقواء ضد تركيا في حال نُشوب أي خلافات أو نزاعات حول ثروات المنطقة، خاصة بعد توقيع عدة اتفاقيات ثنائية لترسيم الحدود البحرية وآخِرها توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان وبين اليونان وإيطاليا.
وفي تلك الفترة احتدم النزاع على حقوق التنقيب في الحوض الشرقي للمتوسط. وقد سبق وأعقب ذلك اندفاعة تركية في شرق المتوسط وغربه عَبْر تحديد الحدود البحرية مع ليبيا أو عَبْر نزاعات حدودية مع قبرص واليونان، وتزامن الأمر مع اطمئنان روسيا عبر انتزاع عقود استكشاف وتطوير حقول النفط والغاز داخل سورية وعلى سواحلها وحدودها البحرية مع لبنان.
وشهد العام الماضي استئناف مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل خاصة أنها تضم عدة بلوكات للغاز وخاصة البلوك رقم ٩ الذي هو محور نزاع بين البلدين.
من خلال هذه البانوراما نستنتج أن إحياء فكرة خط الغاز العربي بعد عَقْدين من الزمن لا يمكن أن يتم من دون تفاهُم مبدئي أو رضا متبادل بين الولايات المتحدة وروسيا.
وفي ما يتعدى ذلك تعتبر روسيا أن وجودها على الساحل السوري ونفوذها المكتسب يتيحان بقاءها لاعباً أساسياً في الشرق الأوسط ويمنع المنتجين في حوض شرق المتوسط من المسّ بمصالحها.
لكن ديمومة النفوذ الروسي العسكري أو السياسي في سورية لن تمنح موسكو وحدها القدرة على التحكم بمشهد الطاقة المتغير والمرتبط بطلبات السوق وازدحام المصالح. ولذا فإن تقديم الحرب في العراق سابقاً -على أنها من أجل البترول- لم يكن دقيقاً، وينطبق نفس الشيء على النزاع السوري الذي له جوانب تتصل بالسيطرة على موارد الطاقة وطرقها، لكن وظيفته الأساسية اتصلت بتغيير وجه الإقليم وإعادة تشكيله.