(الصورة من “رويترز“: نجوى أبو حمادة قُتل ابنها خليل البالغ من العمر 19 عاما عندما خرج إلى الشارع أمام منزلهم حيث تعرضت سيارة للقصف، “خليل طلع على الشارع زي كل الأولاد، سيارة انقصفت وهو استُشهد، كان واقف قريب منها”- – الفلسطينيون بشر أيضاً!)
*
لا المنفى، ولا الموت، هما أقصى، وأقسى، أحكام الآلهة في التراجيديات الإغريقية القديمة، بل العَبَث. هذا ما نعثر عليه في سيرة “سيزيف”، الذي عطل فعل الموت، فحكمت عليه آلهة الأولمب بحياة أبدية يقضيها في دحرجة صخرة ما أن يصل بها إلى قمّة جبل، حتى تتدحرج ثانية عائدة إلى السفح، ليعيد الكرّة المرّة تلو الأُخرى إلى ما لا نهاية.
في أقدار غزة، ومصائرها، ما يعيد التذكير بالتراجيديا الإغريقية. ولا نحتاج إلى ما هو أبعد من المجابهة الأخيرة للعثور على دلالة سيزيفية من نوع ما. ففي الأيام القليلة الماضية، جعلت حرب صغيرة مليونين من البشر ضحايا محتملين، وحكمت عليهم بالعيش، على مدار ثلاثة أيام، في كابوسٍ تتساوى فيه احتمالات الحياة والموت.
تقول الأرقام إن غزة فقدت 45 من أبنائها، وأن 360 منهم صاروا في عداد الجرحى. لا معنى للحرب إذا اختُزلت في أرقام كهذه، على أهميتها. فالصحيح أولاً: أن الحرب وسَمت جِلد وذاكرة مليونين من الناس بميسم النار، وأن بعض الوشم يبقى مدى الحياة.
والصحيح ثانياً: أن لا معنى للحرب ما لم نفكر في المليونين كأمهات، وآباء، وأولاد وبنات، وأحفاد وحفيدات، وأقارب وجيران وأصحاب وعائلات، وصبوات وشهوات، ورهانات وطموحات صغيرة وكبيرة. ثمة ملايين، وربما مليارات، حتى في ثلاثة أيام، من التفاصيل الصغيرة والفريدة في حياة يومية شخصية وعائلية صارت مهددة بالفناء.
ومع هذين الصحيحين في الذهن، تتجلى الدلالة السيزيفية لتراجيديا إغريقية في كل شيء ما عدا الاسم. فكل ما ذكرنا من المعاني العميقة للحرب، وما تفعل بميسم النار في ذاكرة، وعلى جلد، مليونين من الناس، يتكرر بطريقة صارت شبه روتينية، منذ استيلاء “حماس” على غزة قبل 15 عاماً، دون تعديلات جوهرية على السيناريو الأساسي، أو تحقيق نتائج تُذكر.
فهدف إسرائيل، ضمن أمور أُخرى، هو:
هدوء مقابل هدوء، و”تشذيب العشب” بلغة العسكريين الإسرائيليين، أي إضعاف القدرات القتالية لهذا الفصيل أو ذاك كلما استدعى الأمر. (عسكرة غزة مفيدة لاقتصاد الحرب الإسرائيلي، وزيادة موازنات الجيش). وفي المجابهة الأخيرة، قبل أيام، اختبروا فرضية أن تكون “حماس” قد “نضجت”، وصار لديها ما تخشى منه، وما تخشى عليه. لذا، تجنّبوا استهدافها، وتجنّبت هي استفزازهم (حتى بعد اقتحام المستوطنين للأقصى). وإذا أثبتت الأيام صحة الفرضية الإسرائيلية، فمن المتوقع أن تكون فاتحة لفصل جديد في العلاقة بين الطرفين.
وثالث الصحيحين: دخول الفلسطينيين، شعباً وقضية، في سيرورة تدهور من سيء إلى أسوأ منذ ذلك التاريخ، بداية من تدهور الأوضاع المعيشية والاجتماعية للناس في غزة (إضافة إلى دفع فواتير الحصار والحرب)، وانتهاء بتآكل الثقل السياسي للمسألة الفلسطينية في كل مكان آخر. وقد وصل الأمر إلى حد أن بعض الإبراهيميين برر تحالفه مع إسرائيل بضرورة إنقاذ الفلسطينيين من “قياداتهم”.
وما يعزز من البعد الدرامي للدلالة السيزيفية أن لا ضوء، فعلاً، في نهاية النفق. فما حدث على مدار 15 عاماً مضت يمكن أن يستمر لفترة مماثلة من الزمن. وهذه المرّة، مع وجود أكثر من غطاء إبراهيمي فوق الطاولة وتحتها. ومع قناعة لدى الإسرائيليين (نجمت عن رفاهية تعددية الخيارات لا ندرتها) باستحالة الوصول إلى حل نهائي مع الفلسطينيين، وضرورة العمل على إدارة الصراع، بدلا من حله، بمنطق أن أفضل حل دائم هو المؤقت. ولا يبدو أن ثمة ضرورة للتخلي عن “مؤقت” غزة في وقت قريب.
ومع هذا كله في الذهن، يبقى أن نظرة الفلسطينيين لا في قطاع غزة وحسب، بل وفي كل مكان آخر، إلى جماعة “الجهاد الإسلامي” تختلف عن نظرتهم إلى “حماس”، خاصة بعد كل ما مر من مياه تحت الجسر منذ الانقلاب، وما تلاه من حصار وحروب. فالجماعة المذكورة لم تكن ذراعاً للإخوان المسلمين، ولا شاركت في الانقلاب، كما نأت بنفسها، دائماً، عن لعبة الحقل السياسي الفلسطيني، وتعالت على لغته وصراعاته، ولم تخلق لنفسها عداوات أيديولوجية وسياسية في أوساط الفلسطينيين، رغم أن علاقتها بالإيرانيين، ونظام آل الأسد، تتجلى كبطن رخوة من حين إلى آخر.
وتبقى، أيضاً، مسألة التوقيت والسياق. فتآكل الثقل السياسي، والرمزي، للمسألة الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في تقرير المصير، تجلى بطريقة مؤلمة، تماماً، بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وما نجم عنها من حملة تضامن دولية واسعة مع الأوكرانيين، بينما تبدو سلسلة الحروب الإسرائيلية، في نظر الأوساط الدولية نفسها، نوعاً من الدفاع المشروع عن النفس.
وكأن ما فينا لا يكفينا، ترافق هذا، أيضاً، مع دلائل مادية ورمزية، يصعب حصرها، عن اندفاع الإبراهيميين تجاه إسرائيل، ورهانهم عليها، فوق الطاولة وتحتها، بطريقة تحرّض على التفكير في عودة مكبوت من نوع ما. وأعتقد أن ثمة عبارة تختزل هذا كله، وقد جاءت من مصدر غير متوقّع. ففي زيارته لـ”بيت لحم” أفلتت من الرئيس الأميركي بايدن عبارة: “يشعر الفلسطينيون بالحزن الآن”، وقد تجلّت في ذهنه، بلا شك، كاعتراف من عجوز حسن النيّة، وطيّب القلب، بعدم القدرة على إنصافهم، حتى بالكلام عن أفق ينفتح على احتمال السلام.
شعر الفلسطينيون، في مراحل مختلفة وحاسمة في تاريخهم بـ”الحزن الآن”، بعد النكبة، والهزيمة الحزيرانية، وتمكنوا، بقوّة الساعد، من اجتراح معجزة البقاء، وبه يمكنهم العودة إلى، والقبض على، ما في التراجيديا الإغريقية من دلالات، فعلى الرغم من أحكام آلهة الأولمب، إلا أن بني البشر تحايلوا عليها، ومن عنادهم وُلد المعنى، ومجدُ الإنسان.
khaderhas1@hotmail.com