إن ما يجري في المملكة العربية السعودية منذ عام 2015 ليس أقل من ثورة هادئة. وقد تم الشروع بتغييراتٍ جذرية واسعة النطاق من شأنها أن تحدث تغييرات اجتماعية كان من المستحيل حدوثها في مثل هذا الوقت القياسي قبل عقد من الزمن.
واليوم يبدو أن هذه التغييرات تلهم الشباب في دولٍ إسلامية أخرى، منها إيران حيث يتفاقم الشعور بالإحباط من جمود نظام آيات الله.
مع نهاية القرن الماضي بدَت المملكة العربية السعودية للكثيرين وكأنها دولة عالقة في فقاعة العصور الوسطى. وكان وصفها بأنها “مجتمع محافظ” هو تعبير يقصر عن وصف واقعها. فقد كانت مجتمعاً فشل في السير مع الزمن، وكانت تبدو أكثر فأكثر وكأنها مفارقة تاريخية.
ومع أن الدافع لهذا الأمر كان التمسك بالإسلام، فقد أصبحت هذه الرجعية تهديداً حقيقياً للإسلام نفسه، فقد عبر بعض الشباب السعوديين، المحبطين والغاضبين من تصلب المجتمع الذي كان يخنق طاقاتهم ومواهبهم، عن رفضهم لهذا الواقع بشكلٍ صريح وغادر كثيرون منهم البلاد، وفي المقابل كان هنالك بعض من تأثر بتفسيرات خاطئة ومتشددة للإسلام دفعت بالمئات منهم نحو تبني نهج تنظيم القاعدة وأساليبه العنيفة. وقد أصبح من الضروري إجراء تغييرات حاسمة قبل فوات الأوان.
وقد جاء ظهور محمد بن سلمان كولي عهد وحاكم فعلي للبلاد في الوقت المناسب، فقد أدرك أنه من أجل الإسلام، ومن أجل المملكة ومن أجل الشباب السعودي، فإن التغييرات السطحية وأنصاف الإجراءات لن تفي بالغرض، وأنه لا بد من تغيير جذري وحملة شاملة على الفساد، واحتواء المؤسسة الدينية، وحل الشرطة الدينية التي أرهب أفرادها المتعصبون أجيالاً من السعوديين، وخاصة النساء، لعقودٍ من الزمن. كما أدرك ضرورة تشجيع الفن والثقافة والرياضة والابتكار. وقد نتج عن كل ذلك إصلاح شامل للمجتمع السعودي في وقتٍ قصير للغاية وبطريقة لم يتخيل أحد أنها ممكنة.
كانت النتيجة مذهلة. يمكنك أن تنتقد محمد بن سلمان بسبب بعض الزلات كما تفعل وسائل الإعلام الغربية في كثير من الأحيان، ولكن بغض النظر عن الطريقة التي تنظر بها إلى هذه الزلات، لا يمكن لأحد أن ينكر أنه قد أطلق العنان لرياح التغيير والتقدم التي لا تزال تزداد زخماً. وقد تجلت حيوية الأمة السعودية وشبابها بشكلٍ واضح في مجالات الفن والرياضة والابتكار والأعمال التجارية، ومختلف جوانب الحياة اليومية، ومن الواضح أن ما نشهده هو مجرد بداية عملية الإصلاح.
ولكن أحد العوامل التي لم يتوقعها أحد هو تأثير هذه التغييرات المجتمعية في المملكة العربية السعودية على أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، وخاصة على العملاق الآخر على الضفة المقابلة لخليج العربي. لا شك أن المنطقة شهدت في العقود الماضية منارات للتسامح والحداثة والانفتاح. وقد لعبت دبي هذا الدور على مدى خمسة عقود، حيث أدارت بذكاء التحديات التي يفرضها هذا الدور. ولكن دبي إمارة صغيرة وعالمية، بينما المملكة العربية السعودية كبيرة وقوية اقتصادياً، ولها خصوصيتها لأنها مهد الإسلام وموطن البيت الحرام بكل ما يحمله ذلك من رمزية. وحيثما نجحت دبي في أن تكون منارة، يمكن للمملكة أن تكون مثالاً يحتذى.
كانت إيران أيضاً، بعد ثورة 1979، معقلاً للتشدد الدّيني على النموذج الشيعي. فقد تم اختطاف تلك الثورة من قبل رجال دينٍ شيعة قاموا بفرض نظام ديني على البلاد، مرؤوسين بقائد ديني وبموازاته حكومة وجيشاً موازياً يتمثل بالحرس الثوري الإسلامي. وقام هذا النّظام بفرض رؤيته المغلقة للمجتمع على البلاد بأكملها، وصمد لعقودٍ عديدة مستخدماً الدّين لإضفاء الشرعية على ذاته. كان هذا النظام قادراً على التغلّب على الضغوط الخارجية والعقوبات الدولية والعزلة والفوضى الداخلية؛ ولكن الآن، ولأول مرة، يبدو أن هذا الصرح أصبح مهدداً.
يبدو الآن أن النظام الإيراني قد بلغ أقل درجات الاستقرار في تاريخه، وبات من الصعب التنبؤ برد فعله. فداخلياً، يواجه هذا النظام ما يبدو أنّه أكبر تحد له منذ ثورة عام 1979. منذ ذلك الحين، كانت المهمة الرئيسية هي بقاء النظام مهما كلّف ذلك الشّعب الإيراني.
وهذا هو الحال الآن، وإلى حدٍ أكبر أيضاً. فالحفاظ على السلطة، وخاصّة في زمنٍ تبدو فيه ملامح الانقسامات الداخليّة واضحة، يتطلّب القمع حصراً. ولكن، للقمع حدود، فلم يتمكّن أي نظام من البقاء اعتماداً على سياسة القمع فحسب، ولا يمكن استثناء إيران من ذلك. تبدو الموجة الأخيرة من الاحتجاجات -التي بدأت عقب مقتل الشابّة مهسا أميني على يد ما يسمّى الشرطة الأخلاقية- أنّها مختلفة عن تلك التي سبقتها، فهي ذات نطاق أوسع وأكثر استدامة، على الرّغم من افتقارها للقيادة الموحّدة.
والمدهش حقّاً، هو رؤية الشباب الإيراني يستقي إلهامه من شباب المملكة العربية السعودية. فالصور والقصص القوية للشباب السعوديين الذين تمكنوا أخيراً من التعبير عن مواهبهم في الفنون والموسيقى والرياضة والثقافة هي ببساطة قوية جداً، وأكثر صلةً بالشباب الإيراني من أي شيء يمكن أن يروه في أماكن بعيدة وغريبة، مثل أوروبا أو أمريكا الشمالية.
إن التغيّرات الاجتماعية الجذريّة الواسعة النطاق في المملكة العربية السعودية، والتي حدثت في مثل هذا الوقت القصير تحت قيادة محمد بن سلمان، هي بلا شك مصدر إلهام للشباب الإيراني في خروجهم إلى الشوارع والاحتجاج. ولسخرية القدر، انقلبت الأدوار الآن؛ فليست إيران الثورية هي التي تلهم عرب الخليج للثورة والتغيير، بل إنّ المملكة العربية السعودية الإصلاحية هي التي تؤثر على الشباب الإيراني للمطالبة بالتغيير.
وبالتالي، فمن الواضح أنّ نجاح هذه الإصلاحات سيؤثّر على أكثر بكثيرٍ من مجرّد مستقبل المملكة العربية السعودية وحدها.
التغييرات حقيقية بالتأكيد، لكن هل هي كافية؟ بالطبع يمكن للمرء دائماً أن يفعل المزيد، ويمكنه دائماً التحرك بشكلٍ أسرع، ولكن لا ينبغي الاستهانة بالمخاطر. أولئك الذين يعارضون محمد بن سلمان، إمّا لأنهم لا يحبون الإصلاحات التي يقوم بها، أو أنهم لا يحبونه شخصياً، أو لأنهم يعتقدون أنه يجب أن يكون ولي العهد شخصاً آخر، أو لأنهم يعتقدون أنه لا ينبغي أن يكون هناك ولي للعهد في الأساس لتكون السعوديّة مثل سويسرا، سوف يستغلّون كل خطأ وكل مشكلة تظهر نتيجةً للتغيير لمحاولة عرقلته.
لذلك يجب أن تتم العملية بشكلٍ جيد ومُحكم للغاية. يمكن للمرء أن يناقش لفترة طويلة ما إذا كانت المملكة العربية السعودية تمثّل نصف الكأس الممتلئ أم الفارغ. ما أعرفه بالتأكيد هو أنه حتى وقت قريب كانت تمثّل كأساً فارغاً تماماً، لذلك يجب الاعتراف بهذا التقدم.
من المُتَداول أن الإصلاحات غير مستدامة، وأن ردود الفعل المتزايدة من الأوساط المحافظة ستجبر محمد بن سلمان على عكس مسارها، في أحسن الأحوال. كل يوم يمر يقلّل من احتمال ذلك. تحظى الإصلاحات التي أطلقها محمد بن سلمان بدعمٍ شعبي حقيقي، وخاصة بين الشباب. سوف تستغرق العملية بضع سنواتٍ أخرى حتى تؤتي ثمارها، وخاصة من الناحية الاقتصادية. العملية قد بدأت بجميع الأحوال، وهي ليست أقل من ثورة هادئة.
لم يعد العالم يرى الشباب السعودي كشباب غاضبين يصدمون مباني نيويورك بالطائرات، كما حدث في 11 سبتمبر، أو كعملاء للقاعدة في أوروبا، ولكن كأشخاص موهوبين، يتركون بصماتهم في الفنون والثقافة.
أخيراً، انضم الشبّان السعوديون، والشابّات السعوديات إلى أقرانهم، بل وأكثر من ذلك، باتوا يلهمونهم في أجزاء أخرى من العالم العربي والإسلامي وغيرها. لم يتم تقدير وفهم قوة هذه الرسالة بشكلٍ كامل حتى الآن، ولكن إذا كان ما يحدث في إيران في الآونة الأخيرة مؤشّراً، فالرسالة قوية بالفعل.
♦مدير موقع LINKS Europe ومدير تحرير موقع commonspace.eu.، يكتب ويعلق بشكلٍ منتظم حول القضايا الخارجية والأمنية الأوروبية، وعلاقات أوروبا مع جيرانها وشؤون دول الخليج.
لقراءة الأصل الإنكليزي: The Quiet Revolution