توقفنا عند مشهد على باب السفارة الأميركية في طهران. وفسّرنا، قليلاً، مدى ما أثار من فزع في نفوس الأميركيين وحلفائهم. ومع ذلك، فإن ما يعنينا يتمثل في تفسير ردود هؤلاء على المشهد، لا في إيران وحسب، بل وفي كل مكان آخر، أيضاً. ولا يبدو من السابق لأوانه القول إن الردود لم تتوقف حتى الآن، وأن ما طرأ على المنطقة من تحوّلات، في عقود لاحقة، نجم عمّا أثارت الردود من تفاعلات، وخلقت من وقائع، وأحدثت من فوضى، وجلبت من كوارث.
ولنحتفظ في الذهن، قبل تشخيص الردود، أننا نسلط الضوء على لحظة في أواخر العام 1979، الذي شهد توقيع معاهدة الصلح المصرية ـ الإسرائيلية في بدايته. لذا، لا معنى للتفكير في الردود، ولماذا هي دون غيرها، دون البحث عن صلة ما بينها وبين لحظة التوقيع على المعاهدة في ربيع ذلك العام، أي التحوّل الاستراتيجي الكبير الذي حاول الأميركيون، على هديه، هندسة الشرق الأوسط بطريقة تضمن ديمومته من ناحية، وتصب في مصلحة إسرائيل في ناحية ثانية. ويمكن العثور في كتاب مارتن إندك “الحريّف” أو “سيد اللعبة: هنري كيسنجر وفن دبلوماسية الشرق الأوسط” الصادر في تشرين أوّل (أكتوبر) 2021 على أكثر من دليل وبرهان.
ولنحتفظ في الذهن، أيضاً، بذاكرة آخر معارك الحرب الباردة، وأكثرها دموية، التي افتتحها الاجتياح السوفياتي لأفغانستان في أواخر 1979 بوصفها التحوّل الاستراتيجي الكبير الثاني، الذي سعى الأميركيون لهندسة الشرق على هديه بطريقة تضمن حسم الصراع مع السوفيات والكتلة الاشتراكية من ناحية، وديمومة السلام المصري ـ الإسرائيلي، وتفوّق إسرائيل من ناحية ثانية.
المراجع بشأن آخر الحروب الكبرى في أفغانستان أكثر من الهم على القلب، ولكن يعنيني منها على نحو خاص كتاب محمود ممداني (أوغندي من مواليد الهند) المعنون “مسلم جيد، مسلم رديء: أميركا، الحرب الباردة وجذور الإرهاب” (2004) لما له من صلة وثيقة بردود الأميركيين وحلفائهم على مشهد سبق ذكره على باب السفارة.
أما الحدث الثالث في سلسلة التحوّلات الكبرى، الذي تبلورت الردود على هديها، فيتمثل في محاولة الاستيلاء على الحرم المكي، في أواخر 1979 على يد جماعة وهابية متمردة تزعّمها شخص عابس الوجه يُدعى جهيمان. وقد جعلت تداعيات، ومصادفات مختلفة من هذا التحوّل مركز الثقل، الذي ارتكز عليه الضلعان الأوّل والثاني. فبعد سقوط الشاه، صارت السعودية بحكم الأمر الواقع، لا الخيار الاستراتيجي، الحليف الأهم (بعد إسرائيل، طبعاً، وأهم منها بقدر ما يتعلّق الأمر بالعالم الإسلامي والعربي في حينها)، وهذا ما أضفى على أمنها في عيون الأميركيين أهمية استثنائية، أُضيفت إلى أهمية ما لديها من مخزون النفط وصادراته.
وعلى صعيد آخر، خرج الطرفان الأميركي والسعودي من الثورة الإيرانية، ومحاولة الاستيلاء على الحرم المكي، بدروس تكاد تكون متشابهة، مع اختلاف التأويل واللغة بطبيعة الحال. كانت فكرة التحديث الاجتماعي، والتعليم، والتنمية الاقتصادية، مدخلاً لاستقرار النظم السياسية حسب نظرية التحديث، التي سبق وتكلمنا عنها. ومع ذلك، استخلص الطرفان بعد سقوط الشاه أن النظرية تنطوي على مخاطر كثيرة، وأن التحديث السريع قد يكون مصدراً لزعزعة وتقويض أركان النظام السياسي. لذا، نشأت ضرورة لوضع ضوابط للحد من التداعيات “السلبية” للتحديث الاقتصادي السريع، وتداعياته الاجتماعية والسياسية.
وفي سياق كهذا، لن يتمكن أحد، على الأرجح، من الكلام عمّا رافق وأحاط بتمرّد جهيمان ونجم عنه من تداعيات، بعيدة المدى، دون التوقّف عند كتاب صار كلاسيكياً تقريباً بين الأدبيات ذات الصلة، أعني “داخل المملكة: ملوك، رجال دين، محدّثون، إرهابيون والصراع على العربية السعودية” لروبرت لاسي (2010) الذي استعيرُ منه، لأغراض وثيقة الصلة بموضوعنا، عبارة مفادها أن حكّام السعودية استخلصوا من ركوب الملالي لموجة الثورة الإيرانية، ومما تجلى في تمرّد جهيمان من تشدد بالمعنى الديني، أن “الرد على التشدد قد يكون بمزيد منه“.
وعلى الرغم من حقيقة أن الأميركيين فقدوا الثقة بنظرية التحديث، إلا أنهم فكّروا في، وصاغوا، ردوداً متداخلة ومتعددة الطبقات، تعمل على طريقة الأواني المستطرقة. ولا أجد أكثر تمثيلاً، في هذا الصدد، من تقرير اللجنة الثلاثية Trilateral Commission الصادر في 1981 بعنوان “الشرق الأوسط وبلدان اللجنة الثلاثية“.
لن أتوقف عند دلالة وتاريخ وأهمية اللجنة المذكورة (تحتاج معالجة مستقلة) بل يعنيني التذكير بكون “إيلاء الإسلام أهمية خاصة” في السياسة الخارجية لبلدان اللجنة الثلاثية كان البند الثاني في باب التوصيات. والواقع أن حرب “الجهاد الأفغاني”، والحملة الاستثمارية الهائلة بالدولارات النفطية لأسلمة العالم العربي (التي بدأت في مصر، ونجحت فيها بما يفوق الخيال، وأصابت فلسطين في مقتل) وتمكين جماعة الإخوان في حقول سياسية مختلفة، وإعادة النظر في سياسات الإعلام، ومناهج التعليم، بما يجعلها محافظة، لن تكون مفهومة دون العودة إلى التقرير المذكور.
صار لدينا، إذاً، ثلاثة تحوّلات استراتيجية تلوح في أفق كل محاولة لاستخلاص دروس، وبلورة ردود محتملة على الثورة الإيرانية، والمشهد الذي صوّره هيكل على باب السفارة الأميركية في طهران. ومع هذه التحوّلات، وما تنطوي عليه من دلالات، وما تراكم لدينا من الشواهد بأثر رجعي، صار الكلام عن استيلاء أيديولوجيا دينية متقشفة بلا ثقافة، منفصلة عن الزمان والمكان، على حقلي الدين والسياسة في المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي ممكناً، وصارت الوهابية مرشحاً طبيعياً.
ما زال لدينا الكثير، فإلى خطوة جديدة في معالجة لاحقة.
khaderhas1@hotmail.com