يتصرف ملالي طهران على غرار المثل القائل “إن الله خلقهم وكسر القالب”. يحكمون بتكليف من الخالق نفسه. وثورتهم مختلفة عن كل الثورات التي سبقتها، لن تعرف لها نهاية. فهم لا يخضعون لقوانين لا التاريخ ولا الاجتماع. إذن هم باقون إلى أبد الآبدين. أوجدوا نظاما إلهيا لا يقهر. وكل من يعترض عليه تنتظره المقصلة. فالإعدامات أصبحت عادة لهم منذ بداية تسلمهم الحكم. أليس إحدى شعاراتهم: القتل لنا عادة؟
منذ أن قام هذا النظام والعالم لا يعرف كيف يتعامل معه. فهو نظام متفلت من جميع الضوابط سواء كانت قانونية أو دينية أو أخلاقية. عندما يعجزون عن الوصول إلى من يتهمونه، يعاقبون أقرباءه. مع أن كتابهم، أي القرآن نهاهم عن ذلك بوضوح : “ولا تزر وازرة وزر أخرى”.
إيران الدولة المارقة، وإيران الدولة الراعية للإرهاب، وإيران قائدة محور الشر. إيران تستدعي الضيوف لتسجنهم وقد تعدمهم، وتخطف الرهائن خلف واجهة من عملاء أغلبهم من حاملي جنسيات دول عربية تحتقرها. إيران تخوض جميع الحروب، سواء الإعلامية أو الفعلية، بالوكالة، وبواسطة أدوات محلية أوجدتها لتقوم مقامها. من اليمن إلى العراق وخصوصا سوريا. أما أدواتها اللبنانية، فتعفيها حتى من الظهور في إطار الصورة، إلا لماماً. لأنهم يستبقون حاجاتها ويقومون مقامها في المهمات الصعبة. لذا باستطاعتها أن تمارس عبرهم إرهابها وسلوكياتها الخارجة عن القانون في جميع بلدان العالم. مؤخراً، اركبت الخطأ المميت، فوسّعت بيكار تدخلاتها وأوصلت مسيّراتها (المسروقة تقنياتها من الشيطان الأكبر) إلى تخوم أوروبا عبر حليفتها روسيا.
إيران الدولة المعزولة عن معظم دول العالم، لديها الآلاف من السجناء السياسيين، ولديها النسبة الأعلى عالمياً من الإعدامات. لا تسبقها الصين إلا بسبب ملايينها الهائلة من السكان.
عملت منذ البداية تحت شعار “تصدير الثورة” وطموحها أن تؤدي دور قائد عالمي لثورتها الإسلامية. وباسم “الجامعة الشيعية” لم تتكفل فقط بالتنسيق بين الطوائف الشيعية، بل استحوذت عليها. إيران تريد تشييع العالم.
لكن إيران هذه تفشل في إقناع مواطنيها برسالتها العظيمة تلك. فتواجه ثورتهم بأقسى أنواع القمع للجم الشابات والشبان. جيل الألفية الثالثة، المتعلم والذي يريد أن يعيش كبقية الخلق، يتمتع بالحقوق والحريات على أنواعها وعلى رأسها الحريات الشخصية والسياسية. لكن الملالي العجائز الذين يحكمون بأفكار بائدة، يظنون أنهم سينجحون باستخدام العنف وباستغلال التكنولوجيا الحديثة وأدواتها الرقمية للقضاء بالتحديد على من هم أكثر أهلية منهم لاستخدامها وتطويرها من الأجيال المحتجة.
في هذا الوقت تتفرج الدول الغربية وتتمهل في مساندة هذا الشعب الثائر ومعاقبة المنظومة الحاكمة في إيران وأشباحها المندسة بين ظهرانيهم.
لقد أخطأت تلك الدول منذ البداية في تعاملها مع إيران، حاربت الإرهاب السني، وتغاضت عن الإرهاب الشيعي. تجاهلت طويلاً خصوصية النظام الإيراني الذي يتبع سياسة خارجية خاصة منذ قيام الثورة. فهناك إيران الدولة وإيران الثورة. إيران الدبلوماسية وإيران الأيديولوجيا. لقد استمرت سياستها التقليدية كدولة لها تمثيلها الديبلوماسي ومصالحها. لكنها بنت في نفس الوقت أجهزتها الثورية الموازية التي تنافس مؤسسات الدولة وتعزلها او تعطلها.
تساهل الغرب وقبل التعامل مع أجهزة الحرس الثوري والعناصر المشبوهة؛ قبل أن يضعه بعضها على لائحة الإرهاب. بينما لا يزال بعضها الآخر يتردد في ذلك. كما أنها تسمح بنشاط سفاراتها غير الرسمية كمستشاريات وجمعيات مشبوهة وغيرها. هذه الدول الغربية (من دول أوروبا إلى أميركا وكندا…) لا تزال الملاذ الآمن لشخصيات نافذة في النظام ولبناتهم وأبنائهم، بهدف الدراسة والطبابة والترفيه.
الشعب الثائر عميل. يحركه الغرب. لكن هل الوضع الداخلي الإيراني منسجم ومستتب؟ هل يحصل المواطن الإيراني على حاجاته الأساسية في دولة توزع مغانمها على امتداداتها العسكرية الداخلية والخارجية؟ وهل نجحت سياساتها في مواجهة أنواع المشكلات التي طالما كانت في جوهر الوجود الإيراني؟
فإيران تتخبط على عدة مستويات وتعاني من تناقضات على مستوى الهوية القومية\ والهوية الدينية وعلى مستوى الدولة\ الثورة او الدولة\ الحزب والمخابرات. وما يبرز بقوة مؤخرا: ازدواجية هوية فارسية \ إسلامية .
الإشكالية الأولى التي تعاني منها إيران هي إشكالية الهوية القومية التي كانت دائما متنافرة؛ فهي كبلد متعدد الإثنيات واللغات (في إيران 75 لغة حية) عانت دائماً من صعوبة في استيعاب مختلف هذه الهويات. ومن أجل استقرارها عليها أن تبحث عن المشترك عبر هوية وطنية جامعة، لكنها ستواجه عندها بهيمنة الثقافة والعنصر الفارسيين، خصوصاً بعد أن سقط الخطاب الإسلامي المثالي الذي كانت تتذرع به بعد لجوئها إلى الخطاب الفارسي والحلم باسترجاع مجد الإمبراطورية البائد.
فعلى مدار القرن العشرين أدى بروز الخطاب الإسلامي إلى جانب الخطاب القومي، إلى تجاذب في الهوية. ذلك أن جزءا من الخطاب القومي في الحقبة البهلوية، الذي أراد تمكين النظام الملكي، بني على أساس من تمجيد التراث ما قبل الإسلامي واعتبرت الثقافة واللغة الفارسية كجزء أصيل من الهوية الإيرانية.
تاريخياً، هناك توافق على أن إيران المعاصرة تأسست في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، على يد الشاه إسماعيل الصفوي. قبل ذلك كانت إيران بلدا متعدد الممالك والأقاليم والدويلات والإمارات، وتضم قوميات غير متجانسة ومستقلة عن بعضها وتعيش ارتباطات عضوية.
إذن يبدأ تاريخ إيران الحديث مع الصفوية (1501)، حيث قام الشاه إسماعيل الصفوي بتوحيد القبائل التركية الآذرية وشكل منها جيشا منظما بقيادة واحدة واتجه بهذا الجيش إلى مختلف الأقاليم وأخضعها لحكمه.
ثم تبعت الصفوية عدة سلالات حتى وصل الحكم إلى سلالة القاجار التي مكنت في عام 1770 القبائل التركية الآذرية في مناطق أذربيجان، لتبسط سلطتها بعد ذلك على عموم إيران.
لقد أسس القاجار نظاما جديدا عرف باسم «الممالك المحروسة الإيرانية» وهو نظام فيدرالي تقليدي حافظ على التعدد القومي والثقافي واللغوي والديني بشكل رسمي. واكتفى بإرسال ممثل واحد، «والٍ»، لجمع الضرائب.
في العهد القاجاري أيضا انطلقت مبادئ الحركة الدستورية (ثورة المشروطة)، وجاء في مقدمة الدستور المقترح استقلال الأقاليم «الفيدرالية»، عبر تشكيل مجالس الأقاليم والولايات وفقاً للدستور الذي صاغته القوى الثورية الديمقراطية عام 1906.
يجمع الباحثون أن الدولة القومية الفارسية، أو الدولة الأمة الحالية، أقيمت في إيران في نهاية الربع الأول من القرن العشرين على أنقاض الدولة القاجارية. اسم إيران أطلق في مارس 1935.
رضا خان، شارك في انقلاب 22 فبراير 1921. وبعد الانقلاب، أصبح رضا بهلوي الشاه في 1925. قام بتعريف الدولة القومية بأنها “دولة ذات لغة واحدة وقومية واحدة وبلد واحد”، منتهكاً بذلك دستور ثورة المشروطة (1906- 1909)، الذي ينص على تعدد الممالك والقوميات في إيران، ويمنحها نوعاً من الحكم الذاتي.
رسخ رضا شاه، مؤسس حكم آل بهلوي (1925-1979) الوطنية المستندة إلى الهوية مع تشييد الدولة الحديثة. ومن أجل التوحيد الثقافي لإيران المتعددة الإثنيات واللغات، أصبحت اللغة الفارسية إجبارية في الإداره ومؤسسات التعليم. ثم تم حظر استعمال اللغات غير الفارسية. وكان الهدف المنشود هو محو الهويات الإثنية لصالح الفارسية.
لكن مشكلة هذا الخطاب القومي أنه عمل على تأكيد القيم الثقافية لماضٍ يفترض أنه مشترك، وفي نفس الوقت يقدم نفسه على أنه مشروع حديث من شأنه أن يلغي الروابط التقليدية لصالح هويات جديدة.