بماذا تُفكِّر إذا قال شخص ما: إن منظمة التحرير صناعة ماسونية كان الغرض من إنشائها ضمان بقاء إسرائيل؟ جوابي الشخصي: قليل العِلم و“الأدب“. ومع ذلك، فلننتبه إلى حقيقة أننا نمشي على خيط رفيع إذا شئنا بلورة مرافعات منطقية في معرض التعامل مع أمر كهذا.
فدعوى قلّة “الأدب“ مسألة إشكالية، وثمة ضرورة للتفكير في جدوى التدليل عليها في الحقل السياسي. فلا أحد يمتلك حقاً حصرياً في تعريف “الأدب“، حتى إذا تطاول شخص ما على قيم وطنية، ويتعقّد الأمر أكثر إذا كان المُتطاول عاملاً في الحقل العام، ففي الحالتين ثمة مشكلة تتعلّق بحدود حريّة التعبير والتفكير، حتى وإن كان في أيديولوجيا المُتطاول نفسه ما يُهدد حريّة كهذه.
مبرر هذه التحفظات أن الهوية الوطنية، إذا كانت قويّة وعفيّة، لا تفزع من التطاول، ولا تخشى النقد. ومع ذلك، ثمة ما هو أبعد، فاحتكار تمثيل الهوية، والدفاع عنها، يُقوّض معنى ومبنى الثقافة الديمقراطية، ويُميت الحق في حريّة التعبير والتفكير، حتى وإن مورس هذا الحق، أحياناً، بخفّة وسوء نيّة وطوية. ولنحتفظ في الذهن، دائماً، بقناعة أن الثقافة الديمقراطية لا تبني عالماً مثالياً يتعايش فيه الذئب مع الحمل، ولكنها، على علاّتها، تحمي الناس من الدكتاتورية باسم الدين، أو الوطن، أو القومية، أو الاشتراكية..الخ.
وبهذا المعنى يتموضع الكلام، حول نقصان العِلم و“الأدب“، بوصفه تمريناً في توسيع الحقل الدلالي للأفكار بدلاً من اختزالها بطريقة اعتباطية. فإذا تنطّح شخص للكلام عن منظمة التحرير بوصفها مؤامرة ماسونية، نُفكِّر أنه فعل ثلاثة أشياء في وقت واحد: استعان بالتاريخ، وبنظرية تُفسِّره، للتدليل على قناعة سياسية من نوع ما.
وفي هذا نوع من المنطق، فالعلاقة بين العّلة والمعلول من مقوّمات التفكير المنطقي. بيد أن تشخيصَ علاقة كهذه يستدعي مهارات إضافية، فالعثور على تفسير للعلاقة يتأثر بما توفّر من أدوات مهنية من ناحية، وبالمصلحة الذاتية للمفسِّر من ناحية ثانية. وفي هذا ما يفتح الباب أمام احتمال التفكير الرغبي، مثلاً، وضرورة الاختصاص، أيضاً.
لذا، تشعّبت العلوم والمناهج، ووُلد التأريخ بوصفه مهنة. وإذا تصادف أن القائل إن منظمة التحرير، مثلاً، وُلدت على فراش مؤامرة، لا يمتهن مهنة التاريخ، تفقد مرافعته صدقيتها وقيمتها المهنية. فالبقّال قد يكون صاحب رأي في القوانين السارية، ولكنه لا يستطيع العمل كمحام، أو الإفتاء في فقه القانون.
غياب المؤهلات المهنية يُشجّع على خفّة اليد، أي التعامل بروح رياضية عالية مع ضوابط مهنية كثيرة. هذا في أفضل الأحوال. ففي أسوأها ينتقص من النزاهة الأخلاقية، ويشجع على التلفيق. وكلاهما وثيق الصلة بسوء النيّة، فلا أحد يُلفق، أو يلوي عنق حقيقة ما، إشباعاً للذة عقلية مجرّدة، بل يفعل هذا وذاك ليضفي على التفكير الرغبي مهابة الحقيقة. ولأمر كهذا، في الحقل السياسي، خاصة، حيث صراع المصالح والرهانات والأيديولوجيات، غواية لا تُقاوم.
وفي سياق كهذا تتجلى بضاعة نظرية المؤامرة بوصفها وسيلة إيضاح مثالية. فهي لا تستدعي مؤهلات مهنية، ولا نزاهة شخصية، ولا حتى ممارسة لمنهج البحث العلمي، أي معارضة الفرضية بفرضية مضادة وقياس هذه وتلك بمسطرة الأسانيد المادية، والبراهين المنطقية. كل عالم الإنسان القديم كان مؤامرة من جانب قوى غامضة طبيعية، وما فوق طبيعية، تهدده أو تتحالف معه. هذا ما كان عليه الحال قبل ولادة العلوم في الأزمنة الحديثة، والمناهج، والمختبرات، والأرشيفات. ولكن بقايا العالم السحري القديم، وسحره، بقيا فينا ومعنا.
لا نريد الاستفاضة بل استعادة الأرواح الشريرة الغامضة، التي تجعل من العتمة عنصراً رئيساً لا تستقيم مؤامرة من دونه، وفي عتمة كهذه ثمة مساحة لا نهائية للانتخاب والحذف والإقصاء، كلما اقتضت الحاجة. ولأنها كذلك يمكن لنظرية المؤامرة أن تبرهن على الشيء ونقيضه، وأن تكون حجة لك وعليك في آن.
فإذا استعنت بمنطقها للقول إن منظمة التحرير وُلدت على فراش مؤامرة ماسونية (لا ترد عبارة المؤامرة الماسونية، عادة، في أدبيات « الإخوان » والإسلاميين، وكل الأدبيات المعادية للسامية، في الشرق والغرب على حد سواء، إلا سابقة أو لاحقة لصفة اليهودية) يمكن لشخص آخر الاستعانة بنظرية المؤامرة للتدليل على كونك أنت الماسوني المتآمر.
ولكي لا نذهب بعيداً، لا بأس من هذا التمرين. تقول العرب في مثل شائع: “رَمَتني بدائها وانسلت“ بمعنى أن تُسقط على شخص عيباً فيك. وبالتداعي الحر يمكن الخروج بما لا يحصى من دلالات “تآمرية“ استناداً إلى مَثَلٍ كهذا. ولنقترب أكثر، ففي كتاب بعنوان “سر المعبد“ صدر قبل سنوات، حاول « ثروت الخرباوي »، العضو السابق في جماعة الإخوان، التدليل على صلة الجماعة بالماسونية، حلّل ودلّل، وساق ما يخطر، ولا يخطر، على البال من أسانيد تحتاج، بدورها، إلى أسانيد.
ويمكن لمناكف آخر مستعيناً، ومستشهداً، بكتاب الخرباوي، أن يرد على المُفسِّر لتاريخ منظمة التحرير بوصفها مؤامرة ماسونية بالقول: “رمتني بدائها وانسلت“. فكل كلام عن العتمة، وفي العتمة، مع كل ما ينطوي عليه من تدني الكفاءة المهنية، والتفكير الرغبي، وخفّة اليد، وانعدام النزاهة الأخلاقية، يصلح برهاناً لك أو عليك. لا أعتقد أن جماعة الإخوان ماسونية، ولا ذلك الشخص الذي شوّه تاريخ منظمة التحرير، ولكن في مجرّد اتهامه لها ما يضمن له مكاناً مريحاً في سلّة واحدة مع صاحب “سر المعبد“. فكلاهما يُفتي بما لا يعلم خدمة لمصلحة سياسية، في لعبة تحوّل المُتَهِم إلى مُتَّهَمٍ بالمؤامرة نفسها ليرتد سهمه عليه. ولنا أكثر من عودة.
khaderhas1@hotmail.com