افي ٦ اب اتصلت بي « اليسار »، وهي طالبة هندسة مدنية في طرابلس، تسأل عن المشاركة في حملة المكانس في شوارع مار مخايل والجميزة والكرنتينا وغيرها من الشوارع والاحياء المنكوبة بفعل جريمة انفجار المرفأ المروعة التي عصفت ببيروت وادت الى حالة ذهول واستنكار وتضامن في معظم الحواضر العربية والعالمية. خصوصا ان هذا الوطن الصغير يمر اصلا باسوأ ازماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الكيانية منذ تأسيسه قبل مائة عام بالتمام. وقد ادت هذه الازمات الى ان ينتفض شبابه وشاباته في ١٧ ت١ من السنة الماضية ضد القهر والفساد والتسلط، بطريقة فريدة وعابرة للطوائف والمناطق، شكلت جاذبا للشباب في معظم زوايا المعمورة. اذ اعطت صورة ناصعة للبنان المأزوم، مختلفة عن صورة السلطة الميليشياوية والمافيوزية والطائفية المتلاعبة بسيادة البلد ومقدراته والتي اوصلته لحافة الانهيار الشامل. علما ان هذه الصورة الناصعة تجد صداها في اهم العواصم العالمية والتي خبرت نجاح وفرادة اللبنانيين في معظم المجالات العلمية والاقتصادية والثقافية.
« اليسار » هي واحدة من الاف اللبنانيات واللبنانيين والمقيمين في لبنان الذين تدفقوا الى بيروت الجريحة والمدمرة ليساعدوها على ان تقوم من بين الردم. وبالفعل، فبموازاة هذا التدفق الهائل من كل المناطق والذي اعاد ضخ بعض الدم في شرايين العاصمة المنكوبة، تدفق عشرات الوف المتظاهرين في سبت الحساب الى ساحات الحرية، معيدين بعض الالق الى انتفاضة الغضب بعد تراجعها بسبب السلبطة والبلطجة ومحاولات الاحتواء، خصوصا من القوى السياسية المتحكمة بالبلد والمستقوية بالسلاح، فضلا عن تأثير جائحة كورونا.
وقد اظهرت هذه المظاهرات تغيرا نوعيا في مقاربة المنتفضين للشعارات المرتبطة بقوى السلطة المتنوعة، حيث كسر « تابو » حزب الله وتراجعت المجموعات التي شكلت دريئة له، سواء المجموعات اليساروية سواء بعص مجموعات العسكر المتقاعد، فطالت المشانق المقدسين الثلاثة نصرالله وعون ونبيه بري مع الآخرين. كما طغى هتاف “نصرالله ارهابي” في الساحات، وهو ما عكس تحميل حزب الله المسؤولية عن جريمة المرفأ واعتباره واجهة للاحتلال الايراني للبنان، مع المطالبة بتحقيق دولي وحماية اللبنانيين عبر تنفيذ قرارات الامم المتحدة. علما ان هذه القرارات شكلت سببا للمشهدية الانقسامية في ٦ حزيران وما واكبها من اعمال تخريب في وسط العاصمة على يد جماعة موبيلات الحقد، بالمقارنة مع موبيلات المحبة التي تدفقت منذ الانفجار المجرم للمساهمة بنقل الاف المصابين من قلب بيروت واحيائها الى المستشفيات التي لم يدمر ها الانفجار. وقد لوحظ ان اندلاع العنف بالمناطق المواجهة للمجلس النيابي والرد بالرصاص من افراد ميليشيا المجلس على مرأى من القوى الامنية والعسكرية لم يضعف من عزيمة المنتفضين الذين استمروا صامدين الى وقت متأخر. وقد حاول النائب روكز ومرافقيه من العسكر المتقاعد استغلال زخم الانتفاضة المتجدد في صراع البلاط، متكئا على مسرحية احتلال وزارة الخارجية من قبل بعض الجنرلات السابقين والمتسلقين والموهومين بمشاركة عفوية من بعض المندفعين، فطُرد وأُهين، ولهذا دلالة في التوازن داخل الحراكات وفي شعاراتها الأكثر وضوحا وصلابة.
اما التدفق الثالث فهو تدفق غير مسبوق لطائرات وسفن المساعدات الانسانية والطبية من الدول العربية والغربية والتي اتت لمساعدة الشعب اللبناني في مصابه الاليم، علما ان جميع المسؤولين الذين حضروا الى بيروت كانوا واضحين بدعمهم للشعب وليس للسلطة، والتي للمناسبة لم يتجرأ أحد اركانها لزيارة الاحياء المنكوبة والاختلاط بالمواطنين، كما فعل وللمفارقة الرئيس الفرنسي و دفيد هيل واخرون. اما من جرب حظه من وزراء الصدفة في حكومة الواجهة فقد نال نصيبه كما حصل مع وزيرة العدل ووزير التربية.
وامام هول الكارثة التي شبهها العالم ب١١ ايلول اللبناني، يصبح مستهجنا ومقززا ان يعتبر اركان السلطة ان للجريمة جانبا ايجابيا في كسر الحصار، مراهنين على حركة الرئيس الفرنسي وارتباطها بالواقع الاقليمي والدولي، فضلا عن زيارة « هيل » وموضوع ترسيم الحدود، غير عابئين بان ما تدمّر هو احياء بيروت التي حافظت الى حد كبير على تراثها المعماري والحضاري والثقافي، رغم الحروب والجشع والحقد الذي حاول نهشها وتعطيل نهضتها( الم يقل احدهم مرة ان وسط بيروت يكفيه تنكتين بنزين)، وان ما تهدم هو مرفأ بيروت الذي شكل اساس نهضة لبنان الاقتصادية، نظرا لدور البلد الاقتصادي والثقافي كجسر بين الشرق والغرب، خصوصا الشرق العربي. فعوض ان يصبح مرفأ بيروت طريقا للحرير في رؤية شي بينغ كما وعدنا نصرالله، ها هو يصبح طريقا للاساطيل وكأننا في مشهد استعادي ولكن بالمقلوب للقرن التاسع عشر.
بعد سماع ما قاله مرشد الجمهورية ورئيسها تعليقا على جريمة المرفأ، تذكر كثر تعليق اميل لحود على تفجير موكب الحريري بطنّين من المتفجرات حين وصفها بانها “ضرب رذالة”.
وللمصادفة ربما! فان جريمة المرفأ وقعت قبل بضعة ايام من اعلان المحكمة الدولية الخاصة بلبنان حكمها الذي قضى بان جريمة إغتيال نفذتها مجموعة محترفة، وفي مناخ سياسي يتعلق بمطالبة اجتماع بريستول٣ المدعوم من الحريري بانسحاب كامل للقوات السورية وفي مناخ التهديدات السورية للحريري، وان ادانت فقط(ونظرا لطبيعتها ولمعاييرها الدولية ولضعف التعاون بسبب سيطرة حزب الله في لبنان)احد القياديين العسكريين في حزب الله. فهذه “الرذالة” دفعت بالملايين لساحات الحرية وفجرت ثورة الارز وادت لخروج قوات الاحتلال السوري من لبنان قبل ان تنجح الهجمة المضادة بالسيطرة على البلد ويبدأ الانحدار نحو الهاوية وصولا للانهيار الإقتصادي ولانفجار الرابع من آب. ولمن يثق بالتحقيق اللبناني بإنفجار المرفأ نسأله هل من قاض يجرؤ على مطالبة السيد نصرالله بتسليم القديس المدان سليم عياش؟
بعد ١١ ايلول الاميركي، تساءل الاميركيون لماذا يكرهوننا؟
وبعد ٤ آب اللبناني، حبذا لو تساءل اركان السلطة المنبوذة لماذا يكرهوننا، بدل ان يعتبروا على طريقة اصدقائهم المستبدين ان الاستقالات النيابية هي مؤامرة على العهد نجحوا في افشالها، فيستعيد النائب باسيل بهلواناته رغم الدم والدمار والدموع، محذرا ومستعينا بذمية مار مخايل على الحلفاء والاخصام معا، وبالاصل على الناس المنكوبين، وخصوصا في الاحياء المسيحية التي لطالما ادعى العونيون ان الله بعثهم لحمايتها.
هناك من كان يعتقد ربما، ان حزب الله هو حزب مقاوم، وان لايران التي اسسته في سفارة دمشق على يد السفير محتشمي سنة ٨٢ ايديولوجية مقاومة .طبعا يضم الحزب مقاومين وسقط له شهداء بوجه اسرائيل التي حصر به المواجهة معها، بعد تطويع كل صنوف المقاومة الوطنية، مستخدما كل الوسائل، بما فيها القتل والتهجير.
فالحزب هو لواء من الحرس الثوري ويعمل ضمن الاستراتيجية الايرانية. بالطبع هناك صراع استراتيجي بين ايران و اسرائيل، كما مع الولايات المتحدة، بسبب المصالح الجيوسياسية والصراع الاقليمي والدولي على خلفية التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى التي عمقها صعود المارد الصيني وعودة القيصر الروسي وظهور الخليفة العثماني، وليس بسبب الايديولوجيا التي تستعمل كرافعة ويستعمل حاملوها البسطاء كوقود لهذه المصالح. وهذه المصالح هي التي جمعت اميركا وايران على تدمير العراق، كما جمعت اسرائيل وايران في بعض مراحل الحرب العراقية الايرانية، وهي التي تدفع ايران لتخريب المنطقة عن طريق الميليشيات التي ترعاها لتنفذ اجندتها، كما حصل في سوريا واليمن، وفي لبنان عبر حزب الله الذي اوصل البلد الى الخراب واضعا اياه ورقة بيد الولي الفقيه، مستعينا “بذمية مار مخايل”، والذي للمناسبة وقعت غداة مظاهرة الاشرفية السيئة الذكر والمشبوهة الإعداد، فظهرت كحلف للأقليات بوجه السنة والعرب عموما، وقد استثمرها طرفاها بكل الشرور الممكنة، مصحوبين باحقاد يصعب وصفها ولكن تبدو نتائجها التدميرية ابوكاليبتية.
مرت اسابيع على فاجعة ٤ آب، الا ان المشهد يزداد سوريالية، فمن جهة تتواتر معلومات مذهلة عن الجريمة والمسؤولية الرئيسية فيها للقابض على خناق البلد، ومشاركة معظم اركان السلطة فيها، البعض اهمالا والبعض تواطؤا وكثر طأطأة.
ومن جهة تزداد حركة الاساطيل ويتخوف كثر من ابتلاع التماسيح لبعض الدول، كابتلاع لبنان من ايران وابتلاع فلسطين من اسرائيل وابتلاع سوريا من روسيا بتواطؤ روسي وصيني واسرائيلي، وبغض نظر من ضابط المنافسة الاميركي في المتوسط وعجز عربي واروروبي.
ومع ذلك فان الانفصال عن الواقع مستمر، ليس فقط في اوساط ما يسمى بالاكثرية، بل يمتد داخل المعارضة الميني السيادية التي تزداد تفككا وتقوقعا وللأسف طائفية، وصولا لكثير من النخب ضمن الانتفاضة الشعبية وعلى اطرافها، علما ان سيد بكركي قد رفع السقف في ادانة السلاح وداعميه، وصولا لمطالبة الرئيس الماروني بالتفتيش عن مخازن السلاح الغير الشرعي، مكررا طرح الحياد الايجابي، ومتمسكا بالدستور والقرارات الدولية، مما يخلخل ذمية مار مخايل ويضع كثير من القوى السياسية في مواجهة الحقيقة، وقد لحقه المفتي دريان في خطبة رأس السنة الهجرية.
هناك ديناميتان تتنافسان في لبنان.
واحدة تعمل على تغيير طبيعة ودور وتاريخ البلد وعلاقاته العربية والدولية، وصولا للاطباق السياسي والاقتصادي والدستوري، وقد قطعت اشواطا كبيرة في كثير من مجالات الحياة الثقافية والاجتماعية والتربوية، وهي تتغذى من الحقد والمذهبية والشخصانية والمافيوية والتبعية المستندة على فائض القوة الميليشياوية، كما تتغذى من صراع الهويات القاتلة.
ودينامية أخرى تقوم على حماية البلد من السقوط النهائي في قبضة الفشل والتخلف. يغذيها عشرات الوف الشباب المنتفض والمتطلع للمواطنة والحياة الكريمة، والعابر للطوائف والهويات، والمتأبط للمكنسة والمعول لكفكفة دموع اهالي بيروت. ويغذيها مجتمع مدني ونقابي وثقافي يمتاز بحيوية وتضامن قل مثيله، ويغذيها الوف اللبنانيين في المغتربات الذين حولوا بيوتهم اماكن للتضامن وجمع المساعدات، وفي مناخ من الالتفاف العربي والعالمي مع المدينة الجريحة، شارك فيها فنانون ومثقفون وناشطون بارزون ويضاء من أجل بيروت أهم المواقع العالمية، وتتغذى من عروبة واقعية محتضنة ومتحررة من الإيديولوجيات بمواجهة مشرقية مزعومة، ويغذيه انغراز مؤسسة الجيش وقوى الأمن وغيرها من المؤسسات الشرعية في وجدان اللبنانيين، رغم كل الإلتباسات والإختراقات والممارسات لإضعاف هذه المؤسسات ووضعها في مواجهة المنتفضين، كما يغذيها ايضا مئات المثقفين وعشرات الشعراء والمطربين الذين كتبوا وغنوا لأم الدنيا بيروت، حاضنة الحياة والثقافة وعاصمة الحرية والإبداع.
بين دينامية الهويات القاتلة ودينامية الحياة الكريمة لا شك بانتصار الثانية، خصوصا في بلد اشتهر اهله بحب الحياة، وبإطلاق المبادرات الإقتصادية رغم تكلس وفساد واعاقة الطبقة السياسية، ونجح مغتربوه المتعلقين بالوطن في ولوج ارقى مفاصل الحداثة والعلوم، بما فيها ولوج الذكاء الاصطناعي والانسان دو البعد التكنولوجي، والامثلة كثيرة. ومع ذلك فإن كلفة المواجهة تبدو عالية جدا، خصوصا أن الخصم لا يقيم وزنا للحياة، ولا يتوقف عن اي وسيلة في تحقيق الهدف، وقد شهدنا ردة الفعل الباردة على الكارثة الأضخم، مصحوبة بشماتة وإسفاف في وسائل التواصل الاجتماعي، علما اننا نشهد تكرار الحوادث المشبوهة في اكثر من منطقة وبعض التوتير الحدودي، والتي تذكر بمعادلة السكوت مقابل الأمن، وهي معادلة لن تستقيم بعد جريمة 4آب.
وبالنظر للعنة الموقع التي تضرب لبنان منذ نصف قرن، فان طريق الاستقلال الثالث ليست مفروشة بالورود، بل هي طريق معقدة ومتدرجة وتسرح فيها الوحوش الكاسرة، ومع ذلك فهي تشكل ممرا اجباريا لاستعادة هذا الوطن الجميل(إسمعوا ما قاله مايكل كاين وجورج كلوني ويسرا وعشرات السوبر ستار في وصف بيروت ولبنان)
قد يتهم البعض جيلنا بالرومانسية الثورية في عصر التكنولوجيا الرقمية، وهي تهمة نفخر بها، فبمواجهة الشعبوية لا بأس باستحضار بعض من الرومانسية، فهي تشكل حافزا على تحمل الآلام وبذل التضحيات من أجل إعادة وضع لبنان على خريطة الدول الحديثة وإن بعد حين، ولبنان كان في مقدمها قبل أن يتحول موقعه الجيوثقافي من نعمة إلى نقمة. وربما وجب أن ننتبه لنبض الشباب وقوة الرومانسية الشعبية حين جرى التلاعب بكلمات أغنية يا بيروت، فإن الثورة تنهض من بين الأحزان.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس في 27\8\2020