التخطيط الإثيوبي لملء سد النهضة في الصيف المقبل يمكن أن يشكل الصاعق لنزاع إثيوبي – مصري – سوداني في حال لم تنجح الوساطة الأفريقية والتدخل الدولي في استباقه ومنعه.
تتسارع الأحداث في السودان وعلى حدوده وحوله، وهذا ليس بجديد بحد ذاته بسبب أهميته الجيوسياسية وموقعه ضمن منظمات البحر الأحمر ووادي النيل والقرن الأفريقي، ولتمتعه بمساحات شاسعة وأراض زراعية خصبة وموارد كبيرة من المعادن. لكن الأضواء ُتسلطُ الآن على هذا البلد العربي – الأفريقي الكبير نظراً للنزاع المستجد مع أثيوبيا خاصة حول الفشقة وملف سد النهضة الشائك، وسعي القوى الكبرى روسيا والولايات المتحدة والصين لتكريس قواعد أو مواطئ قدم لها على شواطئه، وقبل ذلك بداية التطبيع مع إسرائيل والاهتمام التركي بجزيرة سواكن.
وفي موازاة استقرار داخلي هش في مرحلة انتقالية صعبة، تبدو أعباء السودان كبيرة مع تفاقم التطلعات والصراعات الخارجية عليه وحوله. وبالطبع يمثل التنسيق المستجد مع الشقيقة والجارة الكبرى مصر، والعمق الاستراتيجي المتوفر في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والفضاء العربي – الأفريقي، عناصر إيجابية لكنها غير كافية في مواجهة حجم التحديات الكبرى ويفرض بناء استراتيجية داخلية لاستكمال إنجازات الحراك الثوري وتطوير سياسة خارجية واقعية تجعل السودان مركزاً لاستقطاب الاستثمارات وحاجة للاستقرار الإقليمي بدل أن يبقى ساحة صراعات وتجاذبات.
بعد استقلال جنوب السودان في 2011، لا يزال السودان من الدول العربية والأفريقية الكبرى (مساحته 1.865.813 كيلومتر مربع) وهو يقع في شمال شرق أفريقيا. تحده مصر من الشمال وليبيا من الشمال الغربي وتشاد من الغرب وجمهورية أفريقيا الوسطى من الجنوب الغربي وجنوب السودان من الجنوب وإثيوبيا من الجنوب الشرقي وإريتريا من الشرق والبحر الأحمر من الشمال الشرق. وبالرغم من “الدور الإيجابي” لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في مرحلة ما بعد الإطاحة بالبشير من خلال دوره في الاتحاد الأفريقي للوساطة بين الأطراف السودانية، بدأ التباعد حول ملف سد النهضة وتطورات إقليم تيغراي المحاذي لجمهورية السودان إذ شهدت الحدود السودانية الإثيوبية، منذ ديسمبر 2020 تطورات عديدة لافتة، وتمكنت القوات المسلحة السودانية من السيطرة على المنطقة الزراعية المتنازع عليها في منطقة الفشقة الزراعية الخصبة على الحدود، وهي جزءٌ من ولاية القضارف السودانية، وكانت قد استولت عليها الميليشيات الإثيوبية والمهجرين بشكل غير شرعي في تسعينات القرن الماضي من قبل، وكان ذلك ممكناً لتساهل حكم البشير حيال أديس بابا. ولم يأت بالصدفة تأكيد وزير الدفاع السوداني، الفريق ركن ياسين إبراهيم ياسين، أن “المماطلة الإثيوبية عامل مشترك بين مفاوضات سد النهضة، ونزاع الفشقة الحدودي”، وحسب خبير سوداني مستقل فإن اعتبار رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد وجود مناطق متنازع عليها، لا يستند إلى أي أساس لأن المناطق الحدودية واضحة منذ حقبة الاستعمار الإنجليزي ومنصوص عليها ضمن اتفاقيات معترف بها دوليا، ولو لم يحصل ترسيم نهائي بعد التحديد بدايات القرن الماضي.
ولذا لا تعترف الحكومة السودانية بوجود نزاع حتى يجري التفاوض حوله، مع التشديد على رفض السودان أي شروط إثيوبية، ويمكن عبر وساطة أو تحكيم دولي قبول وضع العلامات على الحدود المعينة مسبقاً ليعرف كل طرف مسؤولياته.. ومن الواضح أن إثيوبيا التي تعاني من مشاكل داخلية تحاول أن تبرز أنيابها في ملف النيل وملف الحدود وأبي أحمد الذي نال جائزة نوبل للسلام وسرعان ما تغير مساره مع أحداث تيغراي والإدانات الدولية له، وكذلك ربما أراد إرضاء قبائل الأمهرة والأورو على حساب السودان وأراضيه والتوطين النهائي للنازحين المزارعين هناك.
بيد أن التخطيط الإثيوبي لملء سد النهضة في الصيف المقبل، يمكن أن يشكل الصاعق لنزاع إثيوبي – مصري – سوداني في حال لم تنجح الوساطة الأفريقية والتدخل الدولي في استباقه ومنعه. وأكدت مصر والسودان في أكثر من مناسبة على أهمية التوصل لـ”اتفاق قانوني ملزم” حول ملء وتشغيل السد الإثيوبي، بما “يُحقق مصالح الدول الثلاث، ويحفظ الحقوق المائية لمصر والسودان، ويحد من أضرار هذا المشروع على دولتي المصب”. وفي الأسبوع الماضي بينما تواصلت المعارك العنيفة على الحدود الشرقية بين الجيش السوداني والقوات الإثيوبية، ألمحت إثيوبيا مجدداً إلى دور طرف ثالث، لم تسمّه، في توتر العلاقات بينها وبين السودان، في إشارة خفية للتعاون العسكري بين مصر والسودان. وفي غضون ذلك، وقّع السودان ومصر في الثاني من مارس الحالي اتفاقية للتعاون العسكري بين البلدين، وذلك في أثناء زيارة قام بها إلى الخرطوم رئيس هيئة أركان الجيش المصري.
على صعيد أشمل تستقطب منظومة البحر الأحمر الكثير من الاهتمام وسط صراعات القوى الكبرى والإقليمية للنفوذ والطاقة المتصلة مع أوضاع القرن الأفريقي والخليج العربي أي طرقات نقل الطاقة والأمن الاستراتيجي ومنافذ طرق الحرير الجديدة واستمرار النفوذ الأميركي والوجود الأوروبي وتغلغل الجانب الروسي. يمكن أن نفسر زيارة السفينتين الأميركيتين إلى بورتسودان بأنها تأتي في إطار التفاهمات بين القيادة العسكرية السودانية وقيادة أفريكوم، لكنها يمكن أن تكون رداً غير مباشر على سعي موسكو لتدعيم المركز اللوجستي الروسي هناك خاصة أن موسكو نشطت مؤخرا في الحديث عن اتفاقية وقعتها مع حكم البشير في أوائل 2019 لإقامة قاعدة عسكرية روسية في السودان. وما يزيد من تفاقم هذا الصراع الخفي والعلني في أن معاً أن القواعد الفرنسية والأميركية والصينية وغيرها في جيبوتي لم تعد كافية بالنسبة لأطراف اللعبة الدولية – الإقليمية ومن هنا تعمل الصين أيضا من دون إعلانات وترويج على التواجد العسكري والاقتصادي في الموانئ الأفريقية.
زيادة على موقع البحر الأحمر المميز، يمكن أن يكون السودان مزرعة غذاء أفريقيا والعالم العربي ويجعله محط الأنظار، وزيادة على ذلك يعتبر السودان زاخرا بثروة معدنية نادرة وغير مستغلة: معدن الذهب (المركز الثّالث في أفريقيا لإنتاج الذّهب بعد جنوب أفريقيا وغانا)، الفضة، الأسبستوس، التلك، الجبس، القصدير، التنجستن، التنتالوم، ومعدن اليورانيوم المتواجد في مناطق دارفور وجنوب وغرب كردفان وفي البحر الأحمر.
يستحق السودان حكما رشيدا وتسوية متجددة ووفاقا داخليا جديرا بتضحيات شعبه وغير خاضع لنفوذ الخارج من أجل استغلال خيراته وعدالة توزيعها والدفاع عن مصالحه العليا والاستقرار الإقليمي.