في مناقشتنا لصلب موضوع توقيف المطران موسى الحاج والتحقيق معه على معبر الناقورة، فلنتفق اولا على المفاهيم المتداولة. العمالة هي العمل لصالح دولة أخرى وبإمرتها، فيما التطبيع هو التعامل مع دولة عدوة، وليس بالضرورة أبدا العمل لصالحها أو بإمرتها.
المطران الحاج يقوم بمهام كنسية خدمةً للمسيحيين في حيفا والقدس وفي الأراضي المحتلة والاردن، ويجلب معه إلى لبنان أموالا وأدوية ووحدات غذائية، بعضها يرسلها لأهاليهم، لبنانيون كانوا عملاء لإسرائيل عندما كانت تحتل لبنان، وذهبوا معها عندما انسحبت. فهل يُعتبر المطران عميلا لأنه قام بما قام به؟
المطران “مطبِّع” مع إسرائيل بحكم عمله الكنسي بإرادة الفاتيكان وبكركي، وحرصا منه على بقاء المسيحيين الفلسطينيين على أرض فلسطين وعدم هجرتهم، كما الكثير من المسيحيين الذين سبقوهم، ليس من فلسطين فقط بل من جميع البلدان العربية.
“تطبيع” المطران لا يختلف عن “تطبيع” الفلسطينيين انفسهم، الذين يذهبون كل يوم للعمل في إسرائيل ويتقاضون أجورهم بالعملة الإسرائيلية، ويتبضعون سلعا إسرائيلية.
لا أدلة على الإطلاق أن المطران يعمل لصالح إسرائيل وبإمرتها، لا هو ولا بكركي ولا الفاتيكان، في حين أن تعريف العمالة أعلاه ينطبق على الكثير من اللبنانيين في علاقتهم ببعض الدول الأخرى، وهم للمفارقة المعبّرة سيكولوجيا، يشكلون أغلبية الذين يطلقون تهمة العمالة على المطران.
هل المشكلة أن الأموال التي يحملها المطران هي من عملاء إسرائيل اللبنانيين، وان المواد الغذائية والطبية هي من صناعة إسرائيلية؟
اعتتبر القاضي فادي عقيقي “أنّ الأموال التي كان ينقلها (المطران) والتي بلغت نحو 460 ألف دولار، هي ليست ملك الكنيسة إنّما مصدرها من عملاء مقيمين في إسرائيل، يعمل غالبيتهم لصالح العدو في الأراضي المحتلة، وهي تخضع للأحكام القانونية اللبنانية المتعلّقة بكلّ ما يدخل لبنان من الأراضي المحتلة وتطبق على كلّ قادم منها”، كما أكّد القاضي احترامه للكنيسة، قائلاً: “أحترم الكنيسة، ولكن هناك قانون هو قانون مقاطعة إسرائيل ومن واجبي بصفتي قاضيا أن أطبّقه”.
لماذا لم يطبق القاضي القانون في السابق ويريد تطبيقه اليوم، مع ان المطران، والذي سبقه، اعتادا على نقل المساعدات معهما عبر الحدود؟ أليس من واجب القضاء أن يسائله عن تقصيره في السابق؟ الواقع ان قوانين الكنائس الشرقية، التي مصدرها دولة الفاتيكان، والنافذة في دولة لبنان منذ عُهود، وخصوصاً المادة ١٠٦٠، تعطي البابا حصريا صلاحية محاكمة الأسقف في المواضيع الجزائية وليس القضاء اللبناني. سبق أن أوقف المطران الحاج في بداية السنة، ولم يُحاكم بسبب عدم صلاحية القانون اللبناني. وقد صدر قرار في 5 أيار الماضي عن القاضي فادي صوان يعتبر أن لا صلاحية للمحكمة العسكرية في محاكمة المطران الحاج.
فما الذي تغير ولماذا هذا الإصرار على التعرض للمطران اليوم؟
وبعد، ما هو المقصود بمقاطعة إسرائيل؟ هو عدم تعامل اللبنانيين التجاري معها وعدم شرائهم بضاعة إسرائيلية وحصر التبادل التجاري مع الدول الأخرى. لكن ما يحمله المطران معه ليس للتبادل التجاري بل لمساعدة العائلات اللبنانية التي منعها تأزم التبادل التجاري مع العالم أجمع، من الحصول على الدواء المقطوع والغذاء المرتفع الأسعار.
قانون المقاطعة يهدف إلى الضغط الاقتصادي على إسرائيل وليس إلى الضغط المعيشي على اللبنانيين، الذين حرمتهم السلطة، المتهمة بتحريك القاضي عقيقي، من ابسط الاحتياجات المعيشية والصحية.
أما بالنسبة لكون مصدر الأموال عملاء اسرائيل، فلا اعتقد أن على أهالي العملاء تحمل تبعات تصرف ابنائهم، لا سيما في ظل الظروف المأسوية التي يعيشونها، كما أني لا أعتقد أيضا ان من حق القضاء اللبناني حرمان العملاء من مساعدة اهلهم عند الحاجة، فالعميل لا يفقد جميع حقوقه الإنسانية، وخاصة تلك المتعلقة بمساعدة ذويه.
أضف الى ذلك أن مسألة التقصي عن مصدر الأموال يجب تعميمها على كل ما يحصل عليه لبنان من مساعدات، إذ انه يحصل على أموال تساهم بها إسرائيل، عبر مؤسسات الأمم المتحدة أو المؤسسات الدولية المالية، وتشكل المساهمات الأميركية، حليف إسرائيل الأول، الجزء الأكبر من هذه الأموال.
على ضوء ما تقدم، اميل الى الاعتقاد مع الكثيرين، أن توقيف المطران موسى الحاج والتحقيق معه، في هذا التوقيت بالذات، هدفهما التهويل على بكركي والضغط عليها بسبب مواقفها السياسية بشكل عام، ومواقفها من انتخابات رئاسة الجمهورية بشكل خاص. كما اميل إلى الظن أن الجهتين، من اوقف ومن حقق، لا يطاردان فعليا عملاء اسرائيل، بعد مسخرة العميلين فاخوري وكرم اللذين أُطلق سراحهما، ومأساة زياد عيتاني الذي سُجن ظلما نتيجة تلفيق ضابط في الأمن الداخلي تهمة العمالة لإسرائيل.
أستغرب، نعم لا أزال أستغرب، مواقف البعض من “علمانيين” و”يسار” و”تغييريين”، الذي انجرفوا سريعا في موجة تخوين المطران، معتقدين في الوقت نفسه انهم يقومون بواجب “علماني” من خلال نقدهم المؤسسات الدينية وسعيها للتعالي على القانون، مع العلم أن العلمانية طُرحت تاريخيا لوقف ظلم الكنيسة للناس وليس لوقف مساعدتها لهم. كما ان التهجم على الكنيسة بدون حجج مقنعة، يدعم مباشرة السلطة التي هي من يجب الحد من تسلطها في ظرفنا الحالي وليس الكنيسة كما كان الأمر في العصور الوسطى. ورغم تغطية بكركي المستَنكرة لإرتكابات ميشال عون ورياض سلامه، وعدم مطالبتها بإستقالة الاول وإقالة الثاني، يجب الإعتراف، دون مكابرة، أن الكنيسة المارونية بعد الطائف، هي في صراع حاد مع السلطة السياسية، وخاصة الطرف الماروني فيها، وضرورة عدم الخلط بين مواقفها السياسية والوطنية ومواقفها الإجتماعية المحافظة، في مجال قوانين الاحوال الشخصية مثلا.
وعلى القوى “العلمانية” أن تتعظ من تجارب البلدان الأخرى، ولا تسلم رقابها إلى الأمن والعسكر الشرعي او غير الشرعي، والعسكر الديني خاصة، بحجة صراعها مع المؤسسات الدينية. وعليها ان تتعامل مع رجل الدين، في نظام غير ديني كما في لبنان، كمواطن عادي مرفوضةٌ إهانته في التحقيقات، كما درجت العادة أخيرا في لبنان مع جميع الموقوفين.
إن المتهجمين عشوائيا على الكنيسة المارونية تحديدا، هم غير مدركين خطورة أن تأتي معظم الإدانات للمطران من أطراف مسلمة وشيعية تحديدا، وما يخلقه ذلك من ظرف مناسب لتعاظم النزعات المذهبية في البيئة المارونية، والتي بدأت بالتفاقم بعد التعرض للمطران، وهي في حالة توسع.
لا يغيِر في الامر تزيّن الإدانات من قبل أطراف مسلمة، بإدانات مبيّتة أو ملطفة أطلقها مسيحيو “التيار الوطني الحر”، المتهم هو و”حزب الله” باستخدام القضاء للضغط على بكركي.