لم يكد ينتهي الرئيس عون من مقابلته الاعلامية مع اعلاميين بارزين ومختارين بعناية الهية، حتى انفجر الشارع المنتفض غضبا، رافعا حرارة غضبه الى درجة غير مسبوقة منذ انفجار الانتفاضة في مساء ١٧ ت١. وقد اهتزت الساحات والشوارع رفضا لما جاء على لسان الرئيس، في الشكل حيث استعمل عبارات رأى فيها المنتفضون استفزازا لهم، وفي المضمون حيث رأوا فيها استهتارا بالدستور، واستخفافا بانتفاضتهم العفوية الموحدة والتي اذهلت القاصي والداني، وحولت “الشعوب اللبنانية” الى شعب واحد بهوية واحدة وعلم واحد ووطن واحد اسمه لبنان.
لذا لم يكن غريبا ان يتقاطر الشباب والصبايا بالالاف وفي كل المدن والمناطق الى الشوارع والاتوسترادات وتسكيرها بشتى الوسائل السلمية، ادانة واستنكارا لما رؤوا فيه من استهخفاف بحراكهم العفوي والمستمر اندفاعا وتوسعا وتصاعدا.
في هذا الجو العابق بالغضب، سقط في خلدة الثائر “علاء ابو فخر”، شهيد الغدر والاجرام والحقد، امام اعين زوجته وولده، ليتحول بسرعة ايقونة للثورة حتى ان الناس استعادت صورة الشهيد “”محمد الدرة الذي ايقظ استشهادة في انتفاضة فلسطينية طيبة الذكر ضمائر العالم الراكدة، ما جعل صورة علاء تقض مضاجع رموز السلطة، خصوصا الساعين للإيقاع بين الشعب المنتفض وجيشه الوطني.
واذ يسجل لوليد جنبلاط شجاعة الحضور الى الشويفات المفجوعة باستشهاد ولدها لدرء الفتنة، رغم معرفته بان الغضب يطاله، الا ان رفع صور الشهيد في كل المناطق والساحات واعتباره شهيدها كان له الوقع الاقوى في مواجهة قوى السلطة المذهبية.
هكذا يعبر الشباب والصبايا من مرحلة “الهويات القاتلة” الى مرحلة الهوية الواحدة، وليرتح حامل جائزة غونكور امين معلوف في محترفه الثقاف.
اما مدينة الجداريات طرابلس وعروس الثورة كما يحلو للجميع تسميتها، فقد سارعت بتنفيذ جدارية للشهيد تحولت الى مزار ومكان للتبريك واخذ الصور التذكارية لزوار ساحة الانتفاضة.
هكذا تحول علاء الى شهيد كل بيت، وتحول وداعه الى لحظة تضامن جماعي مع عائلته، وخصوصا مع زوجته التي اقسمت على متابعة الطريق وصولا للأهدف التي استشهد من أجلها.
ادت غزوة شبيحة حزب الله وامل في ٢٩ ت١ لساحة الشهداء الى ارباك المنتفضين وعموم اللبنانيين المذهولين من تلكؤ القوى الأمنية في حماية المعتصمين السلميين من بطش وارهاب المهاجمين. ذلك ان لساحتي الشهداء ورياض الصلح رمزية كبيرة تمتد جذورها لحراكات كثيرة طوال القرن الماضي، وصولا لانتفاضة الارز التي جذبت الملايين الى الساحتين والشوارع المؤدية لهما، دون ان ننسى بالطبع احتلال ساحة رياض الصلح من قبل حزب الله وحلفائه في اواخر ٢٠٠٦.
وقد تمدد الارتباك الى الساحات الثورية الأخرى، الا ان وهج طرابلس شكل قوة الدفع التي دفعت الدم الى التدفق غزيرا في شرايين الساحات. فكم كان عظيما ومعبرا في آن، في ان يستمد اهالي جل الديب والذوق وصيدا والنبطية وسائر ساحات الانتفاضة، القوة من النبض الطرابلسي ومن ساحة النور التي باتت محجة الشماليين من جميع الفئات والمناطق.
لم تعد طرابلس تشكل دليلا على لا مركزية الانتفاضة فقط، بل اصبحت تساهم في رسم الخريطة اللبنانية الجديدة بقبضات منتفضيها وبريشة فنانيها وبطيبة واصالة اهلها، مشكلة قوة مقاومة اساسية للبلد الرازح تحت قبضة الحزب الالهي، والمدار من سلطة فاسدة وعاجزة وحتى فاجرة، بات استمرارها في قمة الهرم يشكل وصفة اكيدة للانهيار الاقتصادي والمالي وتغيير في رسالة وطبيعة البلد التاريخية الذي شكل جسرا بين الحضارات، وصولا ربما للفوضى ولانهيارات كيانية لا يحمد عقباها، في منطقة شاهدة على حماوة التحولات العالمية الكبرى.
لم يتكون الجاذب الطرابلسي من العدم، وان كانت الصورة النمطية التي طبعت المدينة في اذهان الكثيرين (خصوصا في مرحلة جولات التقاتل بين الاهل في التبانة وبعل محسن، على وقع تحول الثورة السورية المجيدة الى صراع اهلي دموي نتيجة القمع العاري للنظام السوري) قد ساهمت وللمفارقة في اعلاء هذا الجاذب.
فطرابلس هي الاقرب للفوالق السورية الجيوسياسة، وقد دفعت الاثمان منذ نشوء الكيان اللبناني وتراجع دورها التاريخي، لصالح بيروت عاصمة الكيان الجديد ومحيطه في جبل لبنان، وهو ما أسس لمظلومية زاد من وقعها تخلف اقطاعها السياسي واستتباعه لقسم كبير من نخبها. وفي الحقيقة فان المدينة لم تتوقف عن المقاومة طوال المئة سنة الماضية، بما فيها في مرحلة الانتداب والاستقلال.
في الحرب الاهلية ابتدعت المدينة التجمع الوطني للعمل الاجتماعي العابر للطوائف، بعد ان تفككت مؤسسات الدولة الضعيفة شمالا اصلا، وهي قاومت النظام السوري الحاقد على المدينة واهلها، كما انها لم تتكيف مع فترة “التوحيد” المظلمة، والتي اعقبها تسلط النظام السوري وجماعاته على المدينة، وقد تبعثرت نخبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت ثقل هذا التسلط، رغم انها قاومت وبالصدر العاري كثيرا من مظاهره القمعية.
لذا كان طبيعيا ان تكون المدينة طليعية في انتفاضة الارز عقب زلزال اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، رغم محاولات اقطاعها السياسي المرتبك الحاقها قسرا بمحور الممانعة.
لقد كان للمدينة وللشمال عموما باع واسع في كل الحراكات الحديثة نسبيا، سواء ضد جولات العنف، سواء في الحراكات الاخرى خصوصا في قضية النفايات، “قال لي احد الاصدقاء المخضرمين الذين شاركوا في قيادة المواجهة لمنع اقامة مطمر في تربل، ان اليأس كاد ان يتملكهم حين رأوا الشاحنات المحمية من قوى الامن ترمي النفايات في الموقع، الا ان مئات الصبايا والشباب تدفقوا في صباح اليوم التالي من كل مكان الى الموقع فارضين معادلة ادت لتصليب المواجهين ولوقف المطمر وروائحه السياسية والمالية”.
هكذا نرى ان الجاذب الطرابلسي ليس وليد الصدفة، بل وليد النبض الطرابلسي المتغذي من ارادة صلبة في مواجهة القهر المتمادي والذي جعل المدينة التاريخية الجميلة تتقلب على كل انواع الصفائح الساخنة، علما أنه لا يجود عمليا قوى وازنة في طرابلس ضد الإنتفاضة بخلاف المناطق الأخرى.
تحول الجاذب الى سيندروم
ما هو نوعي وجديد في الحقيقة الطرابلسية، هو تطور في الدور، حيث تحولت ساحة الانتفاضة وشوارع المدينة التي لا تخلو من التظاهر اليومي، الى قوة دفع لتصليب الساحات الأخرى، خصوصا وان معظمها تعرض وما زال يتعرض لشتى انواع الضغوط والاحتواء وصولا للقمع المباشر والاعتقالات، فضلا عن محاولات التخويف باستحضار الفتنة عن طريق الشبيحة، كما حصل في “جل الديب” وقبله في “الرينغ” وساحة الشهداء والنبطية وصور وبنت جبيل ومناطق أخرى. ولا ننسى استحضار العامل المذهبي واعادة ضخ عامل الاقليات، بتحشيدات فئوية كما حصل في جوار قصر بعبدا. اما طريقة التعامل مع بوسطة الحرية العكارية الطرابلسية فهو يدل على الارتباك وعلى تنامي منسوب القلق من اي حركة انفتاحية عابرة للمذاهب والمناطق.
فجأة تحولت ساحة النور ( كرامي) الى ساحة للتضامن مع النبطية وصور وبيروت وجل الديب والذوق ويؤمها وفود “الثوار” من هذه المناطق وكأنها مركز عامية انطلياس او كومونة باريس، كما يؤمها الفنانون من كل حدب وصوب صادحين باغانيهم الثورية والوطنية التي ارقصت المنتفضين والمنتفضات تحت راية العلم اللبناني الجامع. وقد اذهلني ان ارى حناجر الالوف تردد مع احمد قعبور، والى جانبه اسير محرر، رائعة توفيق زياد “اناديكم اشد على اياديكم وابوس الارض تحت نعالكم”. فطرابلس “الإكسترا اللبنانية” تعشق العروبة وتنبض لفلسطين أيضا.
وعلى اطراف ساحة الغضب الطرابلسي التي امتلأت بالحيوية والحياة، اقيمت حلقات الحوار والتثقيف التي جذبت المحاضرين والمحاورين والمناضلين والمهتمين من كل مكان ومن كل المجموعات، خصوصا من ام الدنيا بيروت، فضلا عن اصحاب السوابق اليسارية الذين انعش امالهم اصوات الشباب والصبايا وهي تغني رائعة الشيخ امام “شيد قصورك عالمزارع من كدنا وعرق جبينا”. وللتذكير، فان المدينة لم تكتف بارسال وفودها لقلب الإنتفاضة بيروت وبقية الساحات، بل ارسلت اليها هتيفيها وفرقها الموسيقية ( DJ) حتى اصبحت وكأنها ساحة واحدة بنبض واحد.
انه “تربيولي سيندروم” الذي حمله الثوار الجدد، الشباب والصبايا النابضين بالحياة والامل والمعرفة، والمصممين على المساهمة في انقاذ البلد من الدرك الذي وصل اليه، والذي يهدد ليس مستقبلهم فقط، بل بات البلد كله مهددا باقتصاده واجتماعه وبرسالته وحتى بكيانه.
هؤلاء الشباب لا يهمهم لعنة الموقع اللبناني او نعمته، ولا يهمهم الحسابات الكلاسيكية “للثوار الحزبيين القدامى ومكاتبهم السياسية”، ولا تكتيكات سلطة الاحزاب الطائفية التي اوصلت البلد الى هذا الدرك بنظريات الاكثريات والاقليات وارتباطاتها الخارجية. خصوصا من ظن أن فائض القوة تدوم. وهم لا يكترثون لاحباط معظم النخب التي تبلطت او تدجنت او تعربشت! هم يريدون وطنا لا مزرعة ودولة مدنية طبيعية، مثلهم مثل جميع الشباب المنتفضين في الدول العربية ضد القهر والفساد ومثل كل الشباب في العالم الجديد. يريدون ان يساهموا بتقدم بلدهم في مرحلة التحولات الكبرى، لا ان تسحقهم هذه التحولات وتحولهم وقودا لها. ولهذا لا قيادة مباشرة لهم ولا برامج تفصيلية بل توثب دائم، رغم محاولات بعض المتسلقين والمغرورين والموهومين تركيب مجالس ثورجية، وبعضهم يحاول جر الشباب المنتفض لأعمال وتجاوزات فردية مضرة بصورة الحراك والبلد، ويخدم وان بطريقة غير مباشرة بعض الاجهزة والفئات التي تحاول احداث اختراقات داخل المنتفضين، وبعضها يحصل في طرابلس التي لا يجب ان تدفع اثمانا اضافية ويكفيها انها الاكثر معاناة، فطرابلس بحاجة لغنم الجاذب الثوري وليس لغرمه.
هؤلاء المنتفضون يبتدعون يوميا وسائل نضالية واليات عمل متحركة، ورغم سقوفهم العالية في الشكل، الا انهم ليسوا هواة حرق مراحل وليسوا عدميين. هم يتابعون الضغط من اجل حكومة مستقلة تعمل على وقف الإنهيار الاقتصادي والمالي، كما على وقف فوري للفساد وحفظ الدولة من السقوط والفشل، دون ان ينسوا موضوع الانتخابات الحرة التي تكمن اهميتها، حين تستطيع دينامية هذه الانتفاضة لاحقا توليد قوى سياسية جديدة تشبه المنتفضين وقادرة على الاستقطاب الديمقراطي في هذا الطريق الصعب والمتدرج والذي يحافظ على ما هو غني وجميل في هذا البلد الرائع. وإذ يؤشر انتخاب الناشط المميز ملحم خلف نقيبا للمحامين في بيروت الى ظهور الضوء في نهاية النفق الطويل، فقد سبقه إنتخاب جاد تابت نقيبا للمهندسين في بيروت، ما يؤكد أن البلد لم يكن جافا، وأن نخبه لم تكن كلها عدمية.
أما مكابرة معظم اركان السلطة، رغم استقالة الحكومة والعجز عن عقد المجلس النيابي تحت ضغط المتظاهرين، فلن تؤدي سوى لتعريض البلد لمزيد من الأخطار، وسيحاسب المنتفضون و”الثوار الجدد” وغالبية الشعب اللبناني جميع المكابرين والمتلاعبين بمصير الوطن.