لم يكن التصريح الذي أدلى به مؤخرا رئيس الحكومة اليابانية الجديد فوميو كيشيدا والذي قال فيه أن بلاده سوف تتعامل بحزم مع الصين وأيضا مع روسيا آتيا من فراغ. فطوكيو، التي تراقب عن كثب تحركات بكين وموسكو البحرية في المحيط الهاديء، باتت قلقة من توافق التنين مع الدب على القضايا ذات الصلة بأمن منطقة شمال شرق آسيا، لاسيما وأنها مقيدة رسميا، حتى الآن، بدستور هو الوحيد في العالم الذي يمنع بلده من تأسيس جيش ذي قدرات هجومية رادعة.
وجاء مرور عشر سفن حربية روسية وصينية الشهر الماضي عبر مضيق تسوغارو الضيق الذي يفصل جزيرتي هوكايدو وهونشو اليابانيتين، معطوفا على أنباء أفادت باحتمال قيام الروس والصينيين بمناورات جوية مشتركة جديدة في المنطقة ليعزز مخاوف طوكيو ويزيد من توتر العلاقات الروسية اليابانية المتأزمة أصلا بسبب خلافات البلدين القديمة حول السيادة على جزر الكوريل. ولعل ما فاقم الأمر هو قيام روسيا مؤخرا بإجراء تحسينات على أسطولها في المحيط الهاديء وإنشاء منشآت ساحلية جديدة والإعلان عن عزمها على نشر المزيد من الغواصات التقليدية والنووية في المنطقة كرد على صفقة aukus الاستراتيجية بين واشنطن ولندن وكانبيرا.
صحيح أن علاقات اليابان بروسيا الاتحادية شهدت في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية تحسنا مطردا لجهة نزع السلاح والتعاون في مجال الطاقة ومصايد الأسماك، قبل أن تشهد في السنوات الأخيرة انفراجا واسعا على صعيد التبادل الإقتصادي والثقافي والسياحي، كنتيجة لجهود رئيس الحكومة اليابانية الأسبق شينزو آبي، الذي لم يلتفت إلى اعتراض الحليف الأمريكي زمن إدارة أوباما، ومضى ينسق مع نظيره فلاديمير بوتين ويعقد القمم المتتالية معه حتى وصلت إلى 27 قمة بينهما، بل ساهم في كسر عزلة روسيا الدولية في أعقاب الأزمة الأوكرانية في عامي 2014 و 2015. كان الهدف المستتر للزعيم الياباني آنذاك ان يمنع انزلاق موسكو باتجاه بكين، وأن يشجع الروس على لعب دور أقوى في نزع فتيل التوتر بين الكوريتين ذي الانعكاسات السلبية على أمن واستقرار بلاده، فيما كان هدف بوتين هو الحصول على المال والمزايا الاقتصادية دون تقديم أية تنازلات في قضية الأراضي المتنازع عليها
غير أن اليابان اليوم في عهدة زعيم جديد يحاول أن يثبت أقدامه في الساحة السياسية اليابانية المليئة بالساسة المتنافسين والطامحين من خلال أجندات وقرارات خارجية حازمة تتجاوب مع تطلعات قسم كبير من القوميين اليابانيين الذين يشعرون بالنقمة على الروس لإستمرارهم في السيطرة على جزر الكوريل (يطلق اليابانيون عليها اسم الأقاليم الشمالية) واستغلال مواردها وثرواتها، بل واستمرارهم أيضا في رفض إعادة أربع جزر (ايتوروب، كوناشير، شيكوتان، وهابوماي) محتلة تابعة لمحافظ هوكايدو اليابانية، خصوصا بعد ان لاحظوا تكثيف المسؤولين الروس زياراتهم لهذه الجزر والتي كان آخرها زيارة رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين خلال يوليو المنصرم. هذا ناهيك عن أن الدستور الروسي المعدل في يوليو عام 2020 بموجب استفتاء شعبي اشتمل على بند يحظر أي دعوات للتنازل عن الأراضي الروسية باستثناء إعادة ترسيم الحدود مع الدول المجاورة، الأمر الذي ترك مجالا للقول أن جزر الكوريل وغيرها لن يتم التفاوض عليها أو المساومة حولها.
في رأينا المتواضع، وربما في رأي العديد من المراقبين أيضا، أن طوكيو بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى استخدام لغة الحوار والدبلوماسية ــ بدلا من لغة التصعيد ــ مع موسكو على نحو ما كان قائما زمن شينزو آبي، وذلك من أجل استمالة الروس للتصدي للنفوذ المتعاظم للعملاق الصيني في منطقة المحيط الهاديء، ومنع التهديدات المتكررة من نظام بيونغيانغ المشاغب، ومواجهة السيناريوهات المزعجة المتعلقة بتايوان. وبعبارة أخرى ينبغي على راسمي الاستراتيجيات اليابانية أن يستعيدوا روح التعاون والثقة التي خيمت على العلاقات الروسية اليابانية إبان فترة تولي شينزو آبي زعامة اليابان. ولعل أفضل مدخل لذلك هو التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثمارات المشتركة.
أما موسكو، المستميتة لجني المكاسب الاقتصادية، فعليها أن تقابل ذلك بسياسات مرنة لجهة الاستجابة لبعض المطالب اليابانية. ومن المفيد هنا التذكير بأن آبي اقترح في اجتماعه مع بوتين في سنغافورة في نوفمبر 2018 تسريع مفاوضات السلام الرسمية وفقا للإعلان المشترك لعام 1956 بين اليابان والاتحاد السوفيتي السابق، وبذلك قدم تنازلا كبيرا للروس تمثل في تخلي بلاده عن المطالبة باستعادة الجزر الأربع والإكتفاء باستعادة جزيرتين فقط. كما يجب على موسكو ألا تضخم فكرة أن إعادتها للجزر اليابانية يعني فتح الطريق لوجود عسكري أمريكي على تخوم الأقاليم الشرقية لروسيا، وألا تصر على إلغاء اتفاقية الدفاع المشترك بين واشنطن وطوكيو كثمن لمعاهدة سلام رسمية مع اليابان.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين