لن نختلف على تسمية ما يقوم به شعب لبنان العظيم منذ شهور.
ثورة ام انتفاضة أم حراك، علما ان لكل تسمية معنى، ليس فقط لغويا، بل حتى علميا او اكاديميا واكيد تاريخيا.
فمن يسمونها “ثورة”، هم بمعظمهم يرغبون أن يحصلوا على تغيير مجتمعي وسياسي كامل، يطيح بالنظام الطائفي السياسي لاستبداله بنظام علماني ديمقراطي عابر للطوائف والمناطق. وهم مستعدون لأعمال اكثر جرأة وإثارة وتأثير في كامل بنى المجتمع والسلطة والدولة، رغم اصرارهم على “الطابع السلمي” لفعالياتهم الثورية، والتي تبدأ بالتحشد والتظاهر وقطع الطرقات، وحتى اقفال المؤسسات والمرافق العامة(وربما اقتحام بعضها)، وصولا لعصيان مدني شامل. وهؤلاء هم بمعظمهم من الشباب والصبايا ومن فئات شبابية مختلفة، وإن كان يغلب عليها الطلابي.
أما من يعتبرها “انتفاضة”، بمعناها العفوي والشعبي، والذي نتج عن طفح الكيل من اداء السلطة السياسي والاداري والاخلاقي، فهؤلاء، وهم الأكثرية، يطمحون للتغيير أيضا، وإن كان من خلال المؤسسات الدستورية، وذلك عن طريق انشاء حكومة اختصاص انتقالية ومستقلة، تعمل بالدرجة الاولى على وقف الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي والبيئي، وانجاز انتخابات مبكرة وغير مفخخة لاعادة تشكيل السلطة، آملين بترجمة التغيير المجتمعي الدراماتيكي، خصوصا في صفوف الشباب، اصواتا هادرة في صناديق الاقتراع.
البعض يطلق على الإنتفاضة لقب “الحراك”، وهؤلاء بمعظمهم عملوا على التخفيف من دلالاتها وقوتها تمهيدا لاحتوائها، مع اعتبارها قوة سياسية جديدة، يمكن اجتذابها لتصبح “طائفة الحراك”.
لقد شعرت قوى السلطة بالخطر، اذ ان كرة الثلج الشعبية كبرت بسرعة قياسية، مخترقة جميع المناطق في البداية، بما فيها قلب الضاحية الجنوبية وغيرها من المدن والبلدات والضواحي، متوسعة افقيا وعاموديا، بطريقة بدت وكانها تلف الوطن الصغير، وتغرف من كل فئاته وشرائحه، موحدة اياهم تحت علم واحد وهوية واحدة وطائفة واحدة اسمها لبنان.
ما حاول أن يقوم به اليساريون الرومانسيون في عقود، لجهة الغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص (على ما كان يقول البطرك صفير) حاشدين ترسانات فكرية وفلسفية، وركاما من التنظيمات والبرامج والوثائق والمبادرات، سالكين كل الدروب، بما فيها العنف الثوري، ضد القهر والإحتلالات والنظام الطائفي، بدا للوهلة الأولى ممكنا على يد آلاف الشباب والصبايا الذين ضاقوا ذرعا بذكرى الحروب الاهلية التي خاضها او عاشها وعانى منها اهاليهم، واورثتهم تداعياتها ووصاياتها الاقليمية والدولية، بلدا متداعيا مفككا على شفير الانهيار الاقتصادي والسياسي وحتى الكياني. علما أن فترة اعادة البناء والإعمار رافقها نشوء النظام الأمني السوري اللبناني، وانتهت باغتيال الرئيس رفيق الحريري ووضع البلد الصغير في مواجهة المجتمع الدولي في مرحلة التحولات الكبرى التي تنتقل فيها الصراعات والمواجهات والتجمعات الاقتصادية نحو الشرق الصاعد مع المارد الصيني ومشاريع طرق الحرير والحزام.
وبهذا المعنى فإنّ الإنتفاضة اللبنانية تشكل جزءا من الربيع العربي المستعاد في الجزائر والسودان والعراق، والذي يقول فيه المنتفضون والثائرون، انهم يريدون أن يكونوا طرفا فاعلا في هذه التحولات لا وقودا لها.
وهؤلاء الشباب طفح كيلهم من سلطة سياسية، فاسدة وعاجزة وفاجرة، حتى وصفها أحد رؤساء الحكومات بأنها نفايات سياسية.
ورغم أن خلفية الانتفاضة اجتماعية وإصلاحية، فإن السيد نصرلله تصدى للمنتفضين بمسلسل من الخطابات، راوحت بين الاحتواء والتحذير والتهديد المباشر. ومن اليوم الثاني اقفل الضاحية الجنوبية في وجه المنتفضين، بينما جرت محاولات عنفية لمنع الانتفاضة في صور والنبطية وبعلبك وبنت حبيل. كما انطلقت غزوات من الخندق الغميق على الرينغ وساحتي الشهداء ورياض الصلح وامام القوى الامنية والعسكرية التي تعمل في ظروف بالغة التعقيد والحذر للحفاظ على حرية التظاهر، وان بدا في اكثر من مكان، بأّنّ هذه القوى تكيل بأكثر من مكيال.
وحين فشلت الغزوات في كسر الإنتفاضة، عملت ميليشيات ما يسمّى “الثنائي الشيعي” على الانغماس في صفوف المنتفضين لتحريم الهتاف ضد نصرلله وبري، وأضاف العونيون الرئيس عون للائحة المحرمات. ومع ذلك فإن شعار “كلن يعني كلن” عنى أنهم جميعا مسؤولون عن ادارة التوحش السلطوي،خصوصا مع فرض العهد الكارثي.
وقد منعت التظاهرات من الاقتراب من مقر رئيس المجلس ومن القصر الجمهوري، حتى بدا وكأن الاحتجاجات امام المنازل ومقرات المسؤولين هي حكر على بيوت المسؤولين السنة.
الرئيس نبيه بري استشعر نفس الانتفاضة العميق وخطرها على النظام السياسي الطائفي واستطرادا على ما يسمّى “الشيعية السياسية” منذ البداية. اذ أطلق مبكرا ارنب مشاركة ممثلين عن” طائفة الحراك” في الحكومة، منذ استقالة الرئيس الحريري تحت ضغط المنتفضين المتصاعد، وحتى ما قبل الاستقالة حين كان البحث يدور حول تعديل حكومي يطيح بالشخصية الاكثر كرها من المنتفضين والذي ابتدعت لازمة هيلا هيلا هو من أجله.
تراجع زخم الانتفاضة تحت ضغط عوامل متعددة، خصوصا مع استحضار الشوارع المضادة والعصبيات المذهبية تحت مسميات “الحقوق المسيحية” وهتافات “شيعة شيعة”، حتى بدا وكأن الانتفاضة باتت حكرا على المناطق ذات الغالبية السنية كطرابلس وعكار وصيدا والاقليم وبعض البقاع. فبينما تركت هذه المناطق نسبيا “لمصيرها الثوري”، قمعت جل الديب والذوق وغيرهما، ولم تقصر شبيحة “التيار الحر”، ما جعل ثوارها يتنقلون بين بيروت وطرابلس، فضلا عن ساحة “صار الوقت”.
وبعد فشل الحريري في انجاز تسوية مع “الثنائي” بشروط حكومة مستقلين اختصاصيين، محاولا توظيف قوة دفع المنتفضين، وانسحابه الرسمي من السباق، خصوصا بعد موقف “القوات” المفاجئ وتكليف د. دياب الاكثر مفاجأة، انفجر الشارع السني، ما عرض الانتفاضة لمزيد من التعقيدات، خصوصا أن قوتها الاساسية تكمن في عدم طائفيتها واختراقها جميع شرائح المجتمع اللبناني.
في ١٤ آذار ٢٠٠٥ شارك ثلث الشعب اللبناني في انتفاضة الاستقلال الثاني واكثرية من الباقين ايدت المنتفضين، فضلا عن متابعة جماهيرية عربية لهذا الحدث الإستثنائي.
ومع أنّ المتظاهرين كانوا موحدين على قسم الشهيد جبران تويني، إلاّ أنّ رائحة الإنقسامات الفئوية ظلت تفوح في الهواء الملوث. نجحت ثورة الارز في اخراج جيش النظام السوري من لبنان ووجهت ضربة قاسية للنظام الأمني الذي أسسه ورعاه، إلاّ أنها لم تؤد الى تغيير نوعي في النسيج الاجتماعي والاهلي وفي الذهنية الطائفية التي ظلت تعصف في عقول اللبنانيين. وهذا ما سهل نجاح الثورة المضادة التي قادها حزب الله ورعاته، خصوصا بعد حرب ٢٠٠٦ واحتلال وسط بيروت وصولا لأحداث ٧ ايار واتفاق الدوحة، والباقي أصبح معروفا.
في الانتفاضة الاجتماعية الحالية، رمى المنتفضون الشباب الطائفية وراءهم، ولكنهم واجهوا خصما شرسا،متغطرسا ومنفوشا، رغم كوارث الأزمات التي تهز الوطن الصغير والمنطقة عموما، حتى بتنا نستحضر قصيدة “الطاووس” للبياتي حيث يقول:
حروب ودمار في كل مكان
وحضارات وعروش تنهار
لكن الطاووس بلا خجل
يظهر عورته للناس
ويكفي أن نتأمل في مهزلة تشكيل الحكومة، فهي اذا ولدت اصلا، ستكون حكومة عاجزة. وهذا سيعجل بمسلسل الإنهيارات الاقتصادية، وسيؤدي لانفجارات اجتماعية غير مسبوقة بدأت بوادرها في اكثر من مكان.
قد يسر البعض، من أنّ لبنان الذي نعرفه كبلد الإقتصاد الحر والمصارف الجاذبة والخدمات المتنوعة بات في دائرة الخطر الشديد. وقد تنتعش بعض النظريات التي طوتها التحولات الإقتصادية والجيوسياسية الكبرى وولوج عالم الذكاء الاصطناعي. ولكن سينقلب هذا السرور وجوما، حين تدرك هذه المجموعات، بأنّ استمرار طواويس السلطة الفاسدة بنفش ريشها لن يساعد في تطوير الإنتاج الزراعي أو الصناعي، وبالطبع لن يساعد في إقتصاد التكنولوجيا الناعمة. وبالنظر لضعف الموارد ولعنة الموقع اللتين “يتمتع” بهما لبنان، قد نترحم على فنزويلا. ولهذا السبب ينظر اللبنانيون للإنتفاضة على أنها طائر الفينيق، وإن اصبحت مهمتها اكثر صعوبة، مع تراجع في التأييد الشعبي، خصوصا داخل البيئة الشيعية، والى حد ما داخل البيئة المسيحية، ومع تعقيدات تكليف د.دياب داخل البيئة السنية. وربما يؤدي “قصف”نصرالله في اعقاب اغتيال الجنرال سليماني وهدير التهديدات المتبادلة بين الولايات المتحدة وايران، وصمت المسؤولين اللبنانيين المفجع عن هذا الصراخ الى مزيد من التعقيدات، وعوض ان يلتفت السيد نصر الله لتصاعد ظاهرة الانتحار، فقد يجر البلد الى انتحار سياسي واقتصادي جماعي بوضعه ورقة تفاوض او تفجير بيد خامنئي ومساعديه.
وهنا نطرح مجموعة من الأسئلة سيكون على الانتفاضة ومنوعاتها الاجابة عليها.
اولا: الكل أجمع على عفوية الإنتفاضة، والكل يعرف أنّ إعادة الزخم الحقيقي لها مرتبط بردود فعل الشباب والناس العاديين على التطورات السياسية والحكومية وبالطبع الاقتصادية والإجتماعية وهو ما شهدنا بعضا منه مؤخرا في ثلاثاء الغضب، وبعض نذر هذا الغضب يتحول لشغب وتخريب وصدامات خطرة مع القوى الأمنية والعسكرية وربما صدامات متفلتة بين الأهالي بعضها طائفي في بلد متشلع، علما أن الإختراقات والإستثمارات في الإنتفاضة تتوسع وقد لوحظ غض نظر على قطع الطرقات، حتى على ساحل جبل لبنان الشمالي .
ثانيا: إن أحد أهم نقاط قوة الانتفاضة هو عدم وجود قيادة تنطق باسمها، رغم مشاركة قوى ومجموعات وحراكات فيها، فضلا عن نشوء تنسيقيات شبابية ومجموعات تواصل داخلها، مما عقد مهمة احتوائها.
ثالثا: رغم السقوف والشعارات العالية من “كلن يعني كلن” وصولا لشعار اسقاط النظام، لم تطرح الانتفاضة اشكالية حزب الله وسلاحه، رغم ان الحزب قاد فعليا حملات التصدي والترهيب، حتى قيل أن هناك خلية منوط بها مهمة التخريب والثورة المضادة (د.حبيب فياض وصف الشباب والصبايا الذين قطعوا الطرق باجسادهم في ثلاثاء الغضب “بشوية زعران”، ومساء قام شبيحة اصدقائه في الثنائي وبعض المجموعات “اليساروية” بالتخريب أمام مصرف لبنان وفي شارع الحمرا، ومن المؤسف أن تخفف د. حليمة قعقور من طابع التخريب أو حتى تبرر وتجهل الفاعل على أنه يحصل في فرنسا أيضا). فهل سيبقى هذا الموضوع محيّدا، خصوصا بعد تصريحات نصرلله التي وضعت لبنان بمواجهة الولايات المتحدة؟ وهل مهادنة البعض داخل الحراك تؤشر لنوع من القبول بإعطاء فرصة لد.دياب التكنوقرطي؟
رابعا: بوجود معارضة، وإن ملتبسة، للأكثرية من بعض الاحزاب الطائفية. كيف ستتعامل الإنتفاضة مع الواقع الجديد والتباساته وتداعياته السياسية والحزبية والطائفية والمناطقية؟
هل ستتصاعد الإنتفاضة في “لبنان المفيد”؟ وهل ثلاثاء الغضب مؤشر لعودة فعلية لبعض الساحات؟ ثم كيف سيتم التواصل والتأثير في مناطق سيطرة الثنائي، اذ لا يعقل ان تخسر الانتفاضة حرية العمل في كل هذه المناطق. فلخسارتها تداعيات على وحدة الحراكات والقائمين بها.
خامسا: ما هي التكتيكات التي سيلجأ لها الشباب والمنتفضين عموما، تعويضا لتراجع المشاركة الشعبية؟ذلك ان بعض النشاطات والتكتيكات ساهمت، رغم مشروعيتها أحيانا، في انفضاض شرائح واسعة عن المشاركة وليس بالضرورة عن التأييد.
ففي طرابلس وعكار ومناطق مشابهة، تعطلت مصالح المواطنين والجامعات وبعض المؤسسات، بينما كانت تسير في بيروت وجبل لبنان ومعظم البقاع والجنوب بشكل شبه طبيعي ما ترك شروخا في وحدة الانتفاضة.
جيد أن تساهم طرابلس بتصليب الساحات الأخرى. إلا أنّ الفرق الثورية الجوالة لن تعوض نهوض الساحات، علما أن انكماش المشاركة في ساحة النور(كما في ساحة الشهداء) واضح، وتكاد تقتصر على خيم ومقاهي الحوار والتثقيف وبعض المظاهرات والإعتصامات أمام بعض المرافق والمحلات، مما يتطلب تبصرا بكيفية اعادة الزخم والحياة للنفس الطرابلسي والشمالي الجميل والذي اكسبها لقب عروس الانتفاضة.
إنّ بعض الممارسات تعتبر الغائية، وفي بعض الاماكن والمرافق والمؤسسات والمصارف تصبح مسيئة وتخريبية، فضلا انها تشكل خطرا على وحدة المدينة المأزومة، خصوصا مع تصاعد الأزمة الإجتماعية وتداعياتها. وهذا الموضوع يتكرر حتى في عاصمة الإنتفاضة بيروت، حيث تظهر كثيرمن الممارسات وكأنها بدل عن ضائع. وما شهدناه في ويك اند الغضب في تحويل وسط بيروت لساحة حرب وتخريب ينذر بحرف الإنتفاضة عن سلميتها ويكاد يلغي قدرتها على الجذب الشعبي الواسع والمتنوع، وهو ما شكل قوتها الرئيسية. كما أن الإفراط في القوة من قبل القوى الأمنية واستعمال الرصاص المطاطي عن قرب وفي الوجه غير مقبول بتاتا، حتى لو كان دفاعيا، بينما تعجز عن مواجهة من يحرق الخيم ويعتدي على المتظاهرين السلميين من شرطة مجلس وممن يخرب المصارف في الحمرا وفي وسط بيروت من شبيحة الثنائي وغيرهم.
علما أن موضوع العصيان المدني الذي يكرر الدعوة له البعض يشكل خطرا على الدولة أكثر من السلطة ويسىرع في الإنهيار المالي والإجتماعي، وسيكون بداية النهاية لحلم الخلاص.
الجواب على هذه الاسئلة وغيرها هو مهمة مركبة ومتحركة، ذلك ان المواجهة طويلة ومعقدة وخطرة ايضا ومفتوحة على كل الإحتمالات. وهذا يضع على اكتاف المنتفضين وكوادرهم الرئيسية اثقالا كبيرة، ما يتطلب التمتع بالمرونة والنفس الطويل، فضلا عن تقبل تعدد الافكار والاراء والحوار بين مختلف الشرائح والفئات، علما أنّ الأهداف الأساسية هي واحدة منذ انطلاق انتفاضة الغضب، فهل تبقى كذلك؟