ربما كانت كوريا الجنوبية هي الدولة الوحيدة في العالم التي أجرت إنتخاباتها العامة في تاريخها المحدد دون تأجيل أو إلغاء، مخالفة بذلك العديد من الدول التي قررت تأجيل إنتخاباتها المقررة إلى أجل غير مسمى بسبب الخوف من وباء كورونا المستجد.
فبينما كان الكوريون الشماليون يعيشون فترة حرجة من عدم اليقين حول مصير زعيمهم الأوحد المختفي عن الأنظار “كيم جونغ أون” معطوفا على أخبار غير دقيقة حول أرقام المصابين والمتوفين بالوباء داخل بلدهم، كان الكوريون الجنوبيون يتوجهون بكثافة أمام أنظار العالم إلى 14 ألف مركز من مراكز الإقتراع للإدلاء بأصواتهم دون خوف أو وجل، واثقين من أن حكومتهم التي ضربت المثل في تحويل البلاد من ثاني أكبر بؤرة في العالم للوباء بعد الصين في فبراير الماضي إلى أقل البؤر اليوم قادرة على ضمان سلامتهم من خلال الإجراءات الصحية والوقائية الصارمة التي واكبت الإستحقاق النيابي. وقد شملت تلك الإجراءات تعقيم مراكز الإقتراع وفرض إرتداء الأقنعة والقفازات على كل ناخب وإخضاعه لعملية قياس درجة حرارته وإلزامه بترك مسافة متر عن المقترع الآخر. كما أمنت الحكومة لكل من تزيد درجة حرارته عن 37 درجة مئوية غرفة خاصة للإدلاء بصوته. وكان اللافت للنظر أيضا أن أكثر من 13 ألف شخص من أولئك الخاضعين للحجر الصحي الذاتي سجلوا أسماءهم للمشاركة في العملية الإنتخابية، فاستجابت الحكومة لحقهم الدستوري وسمحت لهم بالحضور إلى مراكز الإقتراع بعد خلوها مساء.
وبهذا ضربت سيئول مثلا آخر على نجاحها في ما تخوفت منه بلدان أخرى، من بعد نجاحها في قلب مسار تفشي الوباء بفضل استراتيجيتها الواسعة لجهة كشف الإصابات وتتبع تاريخ المصابين ومن كانوا على إتصال بهم، دعك من نجاحها الآخر المتمثل في انتاج كميات ضخمة من معدات إجراء الفحوصات الطبية للكشف عن الفيروس الصيني وتصديرها إلى نحو عشرين بلدا.
والمعروف أن نتائج هذه الإنتخابات، التي عدت الأكبر في تاريخ كوريا الجنوبية منذ ثلاثة عقود تقريبا، بسب المشاركة الشعبية الواسعة فيها بنسبة تجاوزت 66 بالمائة، صبت في صالح “الحزب الديمقراطي” اليساري الحاكم الذي يتزعمه رئيس الجمهورية “مون جاي إن”، بحصوله على الأغلبية المطلقة في البرلمان للمرة الأولى منذ 12 عاما، علما بأن “مون جاي” أنتخب في عام 2017 رئيسا للدولة في ظل الظروف الاستثنائية التي أعقبت إقالة وسجن زعيمة البلاد السابقة “بارك غيون هي”.
في إعتقادنا أن الرئيس “مون جاي” وظف وباء كورونا جيدا في هذه الإنتخابات بحيث حقق له المراد وهو تغاضي الناخب الكوري الجنوبي عن كل ما كان يأخذه عليه مثل: فشله في تحقيق معدلات نمو إقتصادي لافتة، وإخفاق مبادراته الدبلوماسية تجاه النظام الكوري الشمالي، وتصعيد لهجته ضد اليابان دون جدوى. وبعبارة أخرى جعل من الانتخابات إستفساء على أسلوب إدارته وتقييمه للوضع الصحي في البلاد ونجاحه في التواصل مع شعبه بشفافية وإطلاعه أولا بأول بنتائج إتصالاته مع زعماء العالم حول كيفية التعامل مع الأزمة، الأمر الذي عزز ثقة الناخبين به وبحزبه الحاكم، خصوصا وأن بلادهم حظيت بإشادة دولية لجهة تعاملها الناجح في إدارة الوباء.
وإنْ كان هناك من عامل آخر جلب النصر للرئيس بحصول حزبه وحزب صغير متحالف معه على مجموع 180 مقعدا من أصل مقاعد البرلمان البالغ عددها 300 مقعد فهو نجاحه في إقناع شعبه بأن الوباء فرصة لكوريا الجنوبية كي تعيد هيكلة إقتصادها من خلال الإعتماد على الذكاء الصناعي والصيدلة الحيوية، طبقا لتحليل الأستاذة مينسيون كو من جامعة ولاية أوهايو الأمريكية.
إن المشهد الكوري الجنوبي هذا يدعونا للقول بأنه من الآن فصاعدا فإن نتائج الانتخابات العامة في الكثير من الدول الديمقراطية سيحددها مدى رضا الناخب من عدمه حول طريقة إدارة حكومته لكارثة كورونا وتداعياتها.
فعلى سبيل المثال سوف يستعيد الناخب قبل قيامه بالتصويت شريطا طويلا من الذكريات الموجعة التي ألمت به خلال الكارثة، وسيتساءل عما اتخذته وعما لم تتخذه حكومته من قرارات لإنقاذه أو التخفيف عنه.
ومن هنا فإن كوريا الجنوبية، رغم ما حققته من نجاحات على هذا الصعيد، لا تزال مهتمة بالتخفيف من التداعيات الإقتصادية والنفسية للأزمة على مواطنيها. ولهذا فإن أول ما ستطرحه حكومة الرئيس مون جاي على البرلمان الجديد حينما يفتتح جلساته في الأول من يونيو القادم هو مشروع إنفاق ما يعادل 2.9 بليون دولار أمريكي كمساعدات نقدية عاجلة تمنح لكافة أسر البلاد بغض النظر عن مستوى دخولها. ومن المؤكد أن هذا المشروع سوف يتم تمريره بسهولة بحكم الأغلبية التي يتمتع بها الحزب الديمقراطي في البرلمان الجديد. ويعتقد أن الحكومة ستوفر هذا المبلغ الضخم من خلال تأجيل دفع قيمة صفقة ضخمة لشراء مقاتلات وحوامات وفرقاطات أمريكية، وإصدار سندات حكومية، وإلغاء الإستثمار في مشاريع السكك الحديدية، وغيرها.
Elmadani@batelco.com.bh
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين