شكلت فواتير النفط المستورد على الدوام معضلة لصانع القرار الهندي. فهذه السلعة الاستراتيجية مطلوبة أولا للوفاء بالإحتياجات اليومية لأكثر من مليار من البشر، وهي مطلوبة من ناحية أخرى للوفاء بإحتياجات عدد هائل من المصانع المنتشرة في طول البلاد وعرضها ، ومطلوبة ثالثا لتأمين حاجات قواتها المسلحة المهددة من الجارتين الباكستانية والصينية. وارتباطا بهذه المعضلة كانت هناك في العقود الماضية، يوم أن كانت البلاد دولة ذات نهج إشتراكي، مشكلة أخرى تمثلت في تأمين العملة الصعبة لسداد فواتير النفط المرتفعة. فالدول الموردة لئن كانت مستعدة للتزويد فإنها دائما تشترط الدفع فورا وبالعملة الصعبة.
لقد قاست الهند في فترات مختلفة من شح النفط المعروض في الأسواق العالمية أو من إرتفاع أسعارها أو من خواء خزينتها من العملة الصعبة أو من كل هذه العوامل مجتمعة مما أثر على أوضاعها الداخلية، ولاسيما في سنوات الحرب العراقية ــ الإيرانية، وفي فترة الإحتلال العراقي للكويت، ومن قبلهما فترة إيقاف إنتاج النفط وتصديره في منطقة الخليج تأييدا للقضية الفلسطينية.
ويتذكر معاصرو تلك الفترات كيف أن نيودلهي لجأت آنذاك إلى الإستيراد من دول نفطية بعيدة جغرافيا مثل فنزويلا والإكوادور لسد حاجتها رغم التكلفة المضاعفة بسبب بعد المصدر عن موانئها.
ولأن الدول الحكيمة هي تلك التي تتعلم وتتعظ من تجاربها السابقة، ولأن هند اليوم ليست كهند الأمس لجهة صعودها الإقتصادي وما يرتبط بهذا الصعود من زيادات مطردة في إستهلاك النفط ، ناهيك عن المؤشرات التي تقول أن عدد سكانها سيصل إلى مليار ونصف المليار نسمة بحلول عام 2030 فإن الحكومة الهندية تسعى إلى شراء كميات ضخمة من النفط وتخزينها تحسبا للطواريء، خصوصا في ظل السعر المنخفض نسبيا للبرميل من الخام حاليا. ولهذا فإن نيودلهي تبني اليوم تحت الأرض مستودعات ضخمة تضع فيها مشترياتها للنفط كمخزون إستراتيجي وكوسيلة لمواجهة تقلبات العرض الأسعار.
هذه المستودعات طبقا للكاتبة الهندية “براكتيني غوبتا” تتمثل في مجموعة من الكهوف ذات الجدران الأسمنتية الموجودة بسعات مختلفة في كل من فيساخابتنام (ولاية أندرا براديش) ومانغلور (ولاية كارناتاكا) وبادور(ولاية كيريلا)، والتي تستطيع في مجملها تخزين ما لا يقل عن 5.33 مليون طن من الخام.
على أن هذا ليس كل شيء، وإنما تخطط الهند أيضا لبناء منشآت أخرى لتخزين النفط: واحدة بسعة 4 ملايين طن في شانديكول بولاية أوديسا، وثانية في بادور بولاية كيريلا بسعة 2.5 مليون طن، وذلك تحسبا للأوقات التي قد تخرج فيها أسعار النفط عن السيطرة، أو تشهد البلاد المصدرة قلاقل واضطرابات داخلية.
ومما لا شك فيه أن هذه الخطوات سوف تؤمن للهند نفطا يكفيها لنحو أربعة أشهر علما بأنها تعتمد على 80 بالمائة على النفط المستورد فيما تؤمن حقولها النفطية النسبة المتبقية (تنتج الحقول النفطية الهندية مجتمعة أقل من مليون برميل من الخام يوميا).
ويقول المراقبون إنه اذا استمرت وتيرة النمو الاقتصادي الحالي في الهند على ما هي عليه اليوم فإنها سوف تحتاج بحلول عام 2030 إلى قدرة تخزينية إضافية بنحو 13.3 مليون طن متري. وهذا ما أكد عليه وزير النفط الهندي “دارمندرا برادان” مؤخرا حينما ذكر أن مضاعفة القدرة التخزينية للبلاد سوف تمكنها من إدارة مخاطر العرض، خصوصا في ظل ما يواجه العرض من تقلبات بسبب إضطرابات فنزويلا والحرب الأهلية في ليبيا والعقوبات الأمريكة المفروضة على النظام الإيراني.
والمعروف أن الهند ــ طبقا للكاتبة غوبتا ــ عضو جديد في نادي الدول الصناعية الساعية لبناء مخزونات نفطية إستراتيجية تحسبا للأوقات العصيبة. فقد سبقتها الولايات المتحدة التي لديها 95 مليون طن متري من الخام المخزون، واليابان التي تملك 44 مليون طن متري، والصين التي كان مخزونها حتى نوفمبر 2014 نحو 13.4 مليون طن متري.
لكن من هي الأقطار التي تساعد الهند في تكوين مخزوناتها النفطية؟
على رأس هذه الأقطار تأتي دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث وقعت شركة أبوظبي الوطنية إتفاقا مع هيئة الإحتياطيات البترولية الإستراتيجية الهندية على هامش زيارة رئيس الحكومة الهندية “ناريندرا مودي” للإمارات في فبراير 2018، تخزن بمقتضاه نحو 6 مليون برميل في ولاية كارناتاكا، علما بأن الشركة الإماراتية كانت قد تخلت في عام 2017 عن عقد لإستئجار مخزن للنفط الخام في كوريا الجنوبية واستعاضت عنه بمخزن في مانغلور الهندية بولاية كارناتاكا.
بعد الإمارات تأتي المملكة العربية السعودية التي تـُعتبر من أهم الدول النفطية الموردة للهند بدليل أنها في عام 2018 وحده زودت معامل التكرير الهندية بنحو 37 مليون طن متري ثم بدليل إتفاق البلدين على إقامة معمل مشترك لتكرير النفط على الساحل الغربي للهند بقيمة 44 مليار دولار.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين