وفي الشهور الأولى من عهد بشار عاد السوريون لممارسة السياسة “من قريبو”، فصاروا يتحدثون علنا ويناقشون موضوعات ومسائل كانت محرمة عليهم الى وقت قريب. جرى كل ذلك تيمّناً بالعهد الجديد الذي سمح فيه رئيسه بالحديث الحر وبأمر مباشر منه!لكن ما ان مضت ستة شهور بالعدد حتى “ذاب الثلج وبان المرج”، وانقشعت الحقيقة عن فخ كبير نصبه أولو الأمر للمثقفين الجريئين، فخ سقط فيه عديد من السياسيين والنشطاء المعارضين فوصلوا إلى فروع المخابرات والمعتقلات زرافات ووحدانا. وهو ما كان نذيراً بالعودة الى حالة اغلاق الافواه والخوف الذي اعتاد عليه السوريين عقودا في جمهورية الصمت العتيدة التي دشنها الاسد الاب…قيل يومها ان اغلاق المنتديات وايقاف موجة “الربيع الدمشقي” جاءت بناءً على اجتهاد من نائب الرئيس عبد الحليم خدام الذي تخوّف من “جزأرة” سورية، اي إدخالها في مسار مشابه للحالة الجزائرية بعد فوز الاسلاميين بالانتخابات كنتيجة مباشرة لسيادة عهد من الحريات السياسية..
لكن الحقيقة ان هكذا اجراء اي ايقاف المتتديات السياسية والثقافية ما كان ليتم الا بقرار من اعلى سلطة في البلاد… يحتار السوريون حتى الان في تحديد هوية تلك السلطة العليا في ذلك الوقت: هل هو الرئيس الشاب؟ ام ما سمي انذاك بالحرس القديم؟عادت إذا أجهزة الأمن لتتحكم بكل نشاط سياسي أو لقاء اجتماعي ثقافي، فتمنع أو تسمح أو تغض النظر أو تعتقل بحسب الظرف الداخلي أو الدولي ووفق مصلحة النظام بل أيضا وفق توازنات مراكز القوى والأجهزة داخل النظام..بعد الثورة، تكشّف النظام الأمني بكامل عنفه وهمشريته فعاد الى ممارسة ما يمكن تسميته “ما بعد العنف” او “ما فوق العنف”، فراح يمارس الإبادة، مستذكرا سيرته الأولى في”حماه” قبل ثلاثة عقود، لكن هذه المرة ليحوّل سورية كلها إلى “حماه” كبيرة اصبحت فيها مجزرة”حماه” نقطة في بحر مجازر لا تتوقف..فعل النظام الهمشري الهمجي كل ما يمكن فعله في الشعب السوري اعتقالا قتلا تهجيرا تطهيرا عرقيا طائفيا بالمذابح أو الغازات المحرمة دوليا، وانتصرت له قوى إقليمية ودولية حتى وصل رئيس النظام الى رشوة كتاب وصحفيين غربيين ووسائل اعلام غربية فظهر شخصيا على شاشاتها وصفحاتها أكثر من أربعين مرة خلال سنتين أتاحت له تلميع صورته امام الرأي العام الغربي. وهو ما لم يتح في التاريخ لاي ديكتاتور، يذبح شعبه ويدلي في نفس الوقت بحديث لصحيفة او شبكة تلفزة غربية يدافع فيه عن “سياسته” التي لا تعدو عن ان تكون سياسة ارتكاب المجازر بجميع انواع الأسلحة…
خاض النظام حربه ضد شعبه بنجاح ليس بفضل قوته وعنفه وهمشريته، فهذه قد تنفع لبعض الوقت لكنها لا تنفع طوال سنوات متواصلة كان يفقد خلالها الافا من جنوده ومرتزقته، انما بفضل دعم ايران وروسيا العلني العسكري ودعم آخرين السياسي أو الدبلوماسي…
الأمر الذي كان النظام الهمشري يتجنبه على الدوام هو الجلوس الى طاولة المفاوضات في مواجهة المعارضة، لسببين. الأول، هو انه لم يعترف في تاريخه بوجود معارضة سياسية. فليس في سورية إلا شعب مطيع محب مؤيد لقيادته السياسية والا كيف يمكن أن يحصل راس النظام على ٩٩ بالمئة من اصوات الناخبين في كل انتخاب؟ انتخاب هو في الحقيقة “تجديد بيعة”، فـ”المعارضة” في عرف النظام خيانة ليس للنظام والرئيس فحسب، بل للوطن، لسورية، لان الرئيس اختزل الوطن بشخصه. فكيف بعد ذلك يمكن للنظام أن يجلس وجها لوجه مع المعارضة؟
الثاني أن النظام الهمشري هو في طبيعته وتكوينه ضد السياسة كسياسة من حيث المبدأ، من حيث الشكل والمضمون. فلا سياسة في دولة المخابرات والمافيا سوى سياسة الرضوخ والعنف. فالرئيس هو رجل أمن ثانيا وعسكري أولا وسياسي ثالثا وان كان يشاركه الأمن والعسكرية كثيرون لكنه هو السياسي الوحيد في الوطن. فليس مسموحا حتى لأقرب المقربين له أن يمارس السياسة بما هي رأي آخر أو اجتهاد في الرأي.
بعد تحقيق شيء من التوازن على الارض بدات هدنة وبدات فكرة المناطق الآمنة كان لا بد للنظام من الخضوع إلى داعمه ومرشده ومعلمه الروسي بالذهاب إلى طاولة المفاوضات في “استانا” ثم في “سوتشي”, وهو بهذا يكون كمن يُساق الى حتفه، فكيف يمكن لرجل امن بذهنية لص أو مجرم محترف أن يتحدث في السياسة؟ ليس فقط هو يرفض السياسة بل هو اساساً لا يعرف شيئا عنها لانه في اعتقاده لا يوجد شيء في السلطة سوى القتل والاذلال والنهب. والسياسة الوحيدة الحلال هي التي تجعله امنا اطول وقت ممكن في كرسي الحكم والسلطة. فالمعنى الوحيد للسياسة هو القمع.
قدم “الجعفري”، الذراع الدبلوماسي الخارجي للنظام الهمشري، ابلغ صورة عما نقوله. فهو، رغم انه مجاز في أكثر من اختصاص ومن غير جامعة شهيرة، غير انه تحوّل إلى شوارعي أو “شبّيح” في أكثر من مناسبة أُجبر فيها على لقاء وفد من المعارضة السورية. وهو في احسن الحالات حين لم يمارس التشبيح الدبلوماسي كان يتبع المغالطات المنطقية أو التنكر للبدهيات كي لا يمنح وفد المعارضة اي كلمة أو نقطة لصالحها. الأمر الذي دفع وزير خارجية روسيا في لقاء “أستانا” أن يخاطب الجعفري قائلا له، امام محمد علوش رئيس وفد المعارضة، “إن حكومتك خارج التاريخ”، بمعنى ان منطقكم كسلطة لا علاقة له بالواقع…
تستطيع روسيا أن تدعم النظام في الحرب لكن كيف يمكن لها أن تدعمه في السياسة أن كان نظام غير سياسي وغير قابل لاي سياسة بحيث تشكل السياسة الضد منه، ربما الضد المطلق.
من هنا يمكننا تفسير توجه النظام الفوري إلى مواجهة الثورة بالعنف ومحاول جره الثوار إلى الرد عليه بالعنف. ومن هنا تتأكد صوابية موقف الذين اتهموا الثوار المسلحين الذين انجروا إلى المواجهة العسكرية بأنهم يقاتلون ضد النظام آنيا لكنهم يقاتلون لصالحه على المدى البعيد!
فالعنف والعسكرة والكراهية والتشبيح هي أسلحة النظام وميدانه واختصاصه الاصلي الذي لا يمكن لسوري أن يبزّه فيه.
انتهت الحرب بلا رابح فهل يكون النظام رابحا في استحقاق الانتقال السياسي القادم الذي سيدخله مكرها؟
نوفمبر 2017