في الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة التي أفضت نتائجها الهزيلة إلى فوز إبراهيم رئيسي المنتمي إلى ما يسمى “التيار المتشدد”، أي كما أراده وخطط له المرشد الأعلى ذو الصلاحيات التي تفوق صلاحيات أي شخصية أخرى في نظامه الكهنوتي، احتدم الجدل وتصارع المترشحون حول عدة ملفات.
لكن الملف الأبرز الذي دارت حوله نقاشات كثيرة ومطولة هو ملف « مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب ». حيث قام مرشحو من يسمون أنفسهم بـ “التيار المعتدل” أو “التيار الإصلاحي” بإلقاء اللوم على زملائهم من “التيار المتشدد” متهمين إياهم بعرقلة التصديق على مشاريع القوانين ذات الصلة بمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، وبالتالي إعاقة تطبيع علاقات إيران المصرفية والتجارية مع العالم الخارجي، ما أدى إلى استمرار معاناة الشعب اقتصاديا ومعيشيا.
والمعروف أن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى قد أسست في عام 1989 هيئة حكومية دولية تحت إسم “مجموعة العمل المالي” على أن يكون مقرها باريس ومهمتها وضع سياسات وانظمة ملزمة لمكافحة غسيل الأموال. وفي عام 2001 تم توسيع مهام المجموعة لتشمل أيضا وضع قواعد لمكافحة تمويل الإرهاب. علما بأن مجرد إدراج أي دولة في القائمة السوداء للمجموعة ( تضم حاليا دولتين فقط هما إيران وكوريا الشمالية) يعني منع الدول الأخرى من التعامل معها وتوخي الحذر منها حماية للنظام المالي الدولي من غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
والمعروف أيضا، في السياق نفسه، أنه بعد الإتفاق النووي بين طهران والقوى الكبرى في يوليو 2015، وضعت مجموعة العمل المالي خطة عمل لإيران من 40 توصية ومنها التصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة والمعروفة بإتفاقية باليرمو، والاتفاقية الدولية لمكافحة تمويل الإرهاب، بل منحتها مهلة محددة لإعتماد تلك المعايير والتوصيات بحيث تطهر نظامها المصرفي كي يكون مؤهلا للإندماج في النظام المالي الدولي.
غير أن ما حدث هو أن طهران حاولت كسب الوقت لأن الإستجابة لما هو مطلوب منها تعني إصابة إحدى ركائز الجمهورية الخمينية في مقتل. ونعني بتلك الركيزة تصدير الثورة وزعزعة الإستقرار في المنطقة عبر تمويل الميليشيات الإرهابية بالمال القذر. وهكذا، بدلا من التصديق على ما هو مطلوب منها، اشتبك “المتشددون” مع “الإصلاحيين” في سجال برلماني وإعلامي عقيم إلى أن وضعت إدارة روحاني تشريعات ورفعتها إلى البرلمان للتصديق، لكن البرلمان رفعها إلى ما يسمى “مجلس صيانة الدستور”، فرفضها الأخير وأحالها في سبتمبر 2018 إلى ما يـُعرف بـ”مجلس تشخيص مصلحة النظام” الذي لم يبت في الأمر، في عملية تسويف ومماطلة فاقعة من أجل كسب الوقت كما قلنا، وإنْ قيل أن الموضوع وصل إلى طريق مسدود بسبب تباين المصالح الحزبية.
وهكذا لوحظ في الحملات التي سبقت الانتخابات الرئاسية خلال هذا الشهر والشهر الماضي عودة الموضوع إلى الواجهة. حيث راح “المعتدلون” يدغدغون عواطف الشارع بالقول أن الأوضاع الإقتصادية والمعيشية الصعبة في البلاد ما كانت لتصل إلى المستوى الراهن من التدهور لولا المحافظين ورموز التيار المتشدد من أعضاء “مجلس تشخيص مصلحة النظام” الذين أعاقوا تطبيع علاقات إيران المصرفية والتجارية مع النظام الدولي بترددهم في التصديق على ما تمّ تحويله إليهم من تشريعات. أما “المتشددون” فقد راهنوا على كسب الجمهور المؤدلج الواقع تحت سطوة الشعارات والخرافات والأساطير الطائفية بقولهم أنهم تماهوا، في مواقفهم، مع مواقف المرشد الأعلى المعارضة لـ “الإستكبار العالمي” وللخضوع لإملاءات الولايات المتحدة والغرب. بل راح البعض منهم إلى حد مصارحة جمهوره بأن الإلتزام بتوصيات مجموعة العمل المالي معناه تكبيل يد الجمهورية الإسلامية لجهة توفير الأموال لوكلائها وأتباعها وأنصارها في الدول العربية مثل حماس في غزة وحزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن والحشد الشعبي في العراق والميليشيات الشيعية العاملة في سوريا.
والحقيقة أن النظام الإيراني بمختلف رموزه وأجنحته لا يريد أن يلتزم أصلا بأي شيء يؤدي إلى فقدانه الأساليب التي ابتدعها للتحايل على العقوبات الأمريكية والدولية.
وبمعنى آخر قإنه حريص على استمرارية الوضع الراهن المتمثل في بيع النفط لبعض الدول من خلال السوق السوداء تهريبا، والاتجار بأسلوب المقايضة مع دول متحالفة معه مثل الصين وكوبا وكوريا الشمالية وروسيا وفنزويلا، أو مع أنظمة تابعة له كما في لبنان وسوريا والعراق، ناهيك عن تسوية المعاملات المالية من خلال مكاتب الصرافة بدلا من المصارف والمؤسسات المالية. أما التبرير الدائم والمتكرر لذلك فهو الحفاظ على السيادة الاقتصادية والمالية للبلاد وحمايتها من تدخلات الأمريكيين والأوروبيين الذين يهيمنون على أعمال مجموعة العمل المالي، بحسب الساسة الإيرانيين.
يتوقع بعض المراقبين أن يؤدي نجاح المفاوضات الدائرة حاليا في فيينا بين إيران والقوى الكبرى إلى سرعة استجابة طهران لتوصيات مجموعة العمل المالي، خصوصا وأن استجابتها يفتح لها الباب للحصول على قرض بقيمة خمسة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، كانت قد طلبته سابقا من أجل برنامج إنساني وإقتصادي للتعافي من تداعيات جائحة كورونا، لكن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب أعاقت الطلب.
إلا أن البعض الآخر من المراقبين يؤكد أنه حتى في حالة رفع العقوبات عن طهران فإن تلبيتها لشروط العودة سريعا إلى النظام المالي العالمي لن يكون سهلا من قبل نظام تعود على الخديعة.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي