في ربيع 2017، يبدو مستقبل ‘المختبر التونسي’ معلقا على التقليل من أثر المخاطر الجيوسياسية؛ الحروب الليبية وغموض الانتقال السياسي المنتظر في الجزائر وتمدد الإرهاب وسقوط النظام العالمي القديم وبروز الشعبوية في أوروبا.
اندلعت شرارة “الحركات الثورية العربية” من أرض تونس في ديسمبر من العام 2010. واليوم بعد ست سنوات ونصف السنة على انطلاق مخاض التحولات، تصمد التجربة التونسية في الانتقال السياسي، وتبقى خارج دائرة الفوضى التدميرية التي امتدت من ليبيا إلى سوريا.
بيد أن تفاقم الأزمة الاقتصادية وقلة الدعم الدولي واحتدام الجدل السياسي والأيديولوجي تضع البلاد أمام منعطف دقيق يستلزم ورشة إنقاذ داخلية واهتماما دوليا لا يقتصر على مكافحة الإرهاب.
لكن دروس الماضي والحاضر تدلل على أهمية اليقظة الداخلية والتشديد على منع استخدام العنف والتمسك بالوحدة الوطنية كي تترسخ الدولة التونسية وتتطور باتجاه تمثيل أفضل للشباب والجهات المهمشة كضمانة لديمومتها.
يستوقف زائر العاصمة التونسية ما حصل من تغييرات في قلبها النابض “جادة الحبيب بورقيبة”، إذ تطالعك بعد الوصول من جهة مطار قرطاج عودة تمثال بورقيبة، صانع الاستقلال والنموذج التونسي المنفتح، إلى مكانه بعد نقله إلى الضاحية القريبة إثر وصول الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي إلى السلطة في7 نوفمبر 1987، ويمثل ذلك درسا قدمته “ثورة الياسمين” حول تقلبات التاريخ السياسي ووفاء الشعوب لرموزها، لكن هذه المرة بدل أن تكون وجهة تمثال “المجاهد الأكبر” ناحية البحر والخارج، تنتقل الوجهة ليحيى الداخل والتراث الحضاري الممثل في آخر الجادة نفسها بالنصب التذكاري للمؤرخ وعالم الاجتماع عبدالرحمن ابن خلدون (1332 – 1406).
يشمخ الخالد ابن خلدون (الأمازيغي والأفريقي والعربي المدلل على الهوية التعددية لهذه الأرض) رافعا رأسه وبين يديه كتاب، وكأنه يبقى الشاهد على دورة العصور وعمران الدول وانحطاطها.
ألم يرصد ابن خلدون العلة المؤدية لخراب المراحل الانتقالية في “الصحوة العربية” الراهنة والمتعثرة عندما وصف في مقدمته الاستبداد بـ“العسف الذي يؤدي إلى خراب النفوس وفساد النوع”، هذا الاستبداد الذي عاد الكواكبي ابن حلب وتمعن في تفصيل طبائعه ومآلاته، لا يقتصر على طغيان الحاكم وجوره، بل يمتد لعدم الاعتراف بالآخر وإنكار حقوقه وتعميم ثقافة الإقصاء باسم الأيديولوجيا أو تحت ستار الدين.
في مراقبة لأحوال دنيا العرب تتعدد نقاط التشابه الثقافي والتفاعل الفكري وإشكاليات الهوية والحداثة. وإذا أردنا فهم أسباب الانشطار السياسي في تونس، لا بد من العودة للخلفية الثقافية للمجتمعات العربية.
وفي هذا الإطار كان ابن خلدون قد تبنى نظرة موسوعية للتاريخ العربي تفيدنا اليوم في فهم أسباب التخلف وعدم القدرة على اللحاق بالعصر.
وحسب الأنثروبولوجي الأميركي الراحل إيريك وولف “حلل ابن خلدون في القرن الرابع عشر عملية بناء التحالفات وتفككها ببراعة فائقة، فلقد رأى الأمر في شكل تناوب متصل بين تضامن القرابة العصبية القبلية من جهة، وتنوع المصالح الملازم لحياة الاستقرار من الجهة المقابلة”. وذهب ابن خلدون بعيدا في منهج يتخطى الاعتبارات القبلية والعرقية والدينية ويعتمد على الفروع الفاعلة المساهمة في صوغ النهر العام.
بيد أن التبني السلبي لنظرية العصبية جعلها معبرا للاستبداد والتحكم، بدل أن تكون عنصر قوة للدولة والجماعة. ويسري ذلك على إعطاء الغلبة للحسابات الفئوية والقبلية والمناطقية والأيديولوجية والدينية في حقب تحول تفترض التفتيش عن القواسم المشتركة في مراحل البناء الانتقالي.
إذا بقينا في المجال الفكري وطرحنا أسئلة حول صلة الشورى بالديمقراطية ضمن المسار القاضي بضرورة تحديث نظام الحكم، ودور الدين والتراث في عالم متحول، نستنتج خطر استمرار البكاء على الأطلال أو الحديث عن مؤامرات دون التحلي بالشجاعة في ممارسة النقد الذاتي وتحمل المسؤولية في المخاض الانتقالي الذي لن يكون دربا مفروشة بالورود بل مرحلة يزدحم فيها تزعزع الاستقرار مع الجدل الفكري والمتاعب الاجتماعية.
مع العام السابع في دورة الزمن العربي الصعب، يتكرر السؤال عن جدوى التحولات والحركات الثورية بعد تفكك دول بعينها ومواجهات باهظة الثمن الإنساني والسياسي.
ولذا تسلط الأضواء دوما على تونس لأنها بمثابة المختبر لمدى نجاح أو فشل التحولات السياسية والاقتصادية والفكرية على الساحتين المغاربية والعربية.
ومن هنا يتوجب التذكير بتغليب الديمقراطية التوافقية ودور النقابات والمرأة والمجتمع المدني إبان المرحلة الحرجة في 2013، إذ أن إسقاط منطق العنف السياسي لم يستند قط إلى تلاقي الإرادات السياسية (يركز الكثيرون على ما يسمى باتفاق باريس بين الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ورئيس حزب النهضة راشد الغنوشي، وكذلك على إسهام الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة) بل أيضا إلى إرث تونس الفكري والقانوني والسياسي من ابن خلدون إلى الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة، وكذلك بسبب الأولوية الدولية للحرب ضد الإرهاب وخشية سقوط تونس في المحظور مما يزيد من اشتعال اللهيب الليبي ويهدد بتواصل الإرهابيين من الجبل الأخضر في ليبيا، إلى معاقل الجهاديين في الجزائر والساحل.
في ربيع 2017، يبدو مستقبل “المختبر التونسي” معلقا على التقليل من أثر المخاطر الجيوسياسية (الحروب الليبية، وغموض الانتقال السياسي المنتظر في الجزائر، وتمدد الإرهاب، وسقوط النظام العالمي القديم وبروز الشعبوية في أوروبا) والهزة الداخلية السياسية والاقتصادية. في المقابل يمكن لصناع القرار التركيز على عناصر قوة تحبذ صمود التجربة الانتقالية الناجحة نسبيا وأولها السعي للاستفادة من أهمية تونس للاستقرار ومكافحة الإرهاب، ومن القدرة على إنجاز التسويات الداخلية، والاستفادة من توجهات اقتصادية تركز على جوانب إيجابية من الشمولية الاقتصادية تقضي بتجميع إقليمي لمراكز الإنتاج المشترك والتصنيع، مما يمنح تونس بفضل تشريعاتها وبنيتها التحتية وموقعها، فرصة ذهبية يمكن أن تتعزز إذا وضع الاتحاد الأوروبي جنوب المتوسط ضمن أولوياته الاقتصادية والإستراتيجية.
بالرغم من تراجع سعر صرف الدينار واستمرار تراجع السياحة (تونس مظلومة لأن ظاهرة الإرهاب عالمية ولأن عقاب تونس بشكل غير مباشر ستكون له نتائج سلبية)، يبدو أن اليأس ممنوع في مفردات القاموس السياسي التونسي. وهذا ليس بغريب على بلد يتمتع بقسط كبير من العقلانية والحداثة، ويمكن أن يشكل نموذجا يمكن شعوب العالم العربي من الدخول إلى التاريخ من جديد.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب
khattarwahid@yahoo.fr