اعتمدت إسرائيل في سنواتها الأولى نظرية « بوتقة الانصهار »، استمراراً للمقاربة التي كانت سائدة لدى القيادات الإسرائيلية عشية قيام الدولة.
كان الهدف من وراء تلك السياسة صناعة الإسرائيلي الجديد المنفصل عن الشتات في لغته وثقافته وعادته ومظهره، وتوحيد اليهود القادمين من الشتات لكي ينصهروا بالدولة الإسرائيلية المتجددة.
هذه المقاربة، وبالرغم من التحفظات التي تثيرها، يجب النظر إليها في سياقها التأريخي والزمني، إذ كانت الرؤية السائدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية تعتبر مصلحة المجتمع فوق مصلحة الفرد.
لقد استوعبت إسرائيل خلال وقت قياسي عدداً غير مسبوق من القادمين الجدد، بعد أن أصبح معظمهم لاجئين في الدول التي عاشوا بها لمئات السنين. في ظل هذا الواقع، كانت الدولة الفتية في أمسّ الحاجة لبلورة هوية جامعة لكي ينخرط القادمون الجدد في عملية بناء وإعمار الوطن الأم، وكان هذا الهدف قابلاً للتحقيق عن طريق إلغاء الهويات السابقة.
بذور التغيير وملامح المجتمع الحديث
بدأ التغيير في نمط التفكير في أعقاب المتغيرات العالمية بهذا السياق، التي ظهرت بذورها في نهاية ستينات القرن الماضي، حيث تطوّرت آنذاك المقاربة التي ترى احتياجات الفرد فوق احتياجات المجتمع. وقد وصلت هذه المقاربة إلى البلاد بعد عقد من الزمن، إلى جانب الرؤية النسبية التي تؤكد على غياب حقيقة مطلقة، أو ثقافة معيّنة تفوق سائر الثقافات.
في الوقت ذاته خرجت البلاد من دائرة الخطر الوجودي، ممّا هيأ الأرضية لمقاربة جديدة تتسم بالانفتاح، بقبول الاخر كما هو، وبالإدراك أن تعدد الثقافات هو رافعة للتعايش وليس عامل تفريق.
في غضون ذلك، أثبت الواقع أنّ القادمين سيندمجون في البلاد عاجلاً أم آجلاً، وأنّه لا يجب حثهم على ذلك.
تعترف التعددية الثقافية بكثرة مكوّنات المجتمع، ومن هذا المنطلق، هي تشجع كل مكوّن الحفاظ على هويته وعاداته وتقاليده تحت مظلة الهوية الوطنية الجامعة.
نرى هذا النموذج في دول كالولايات المتحدة وبريطانيا، وهو يعتمد على مبدأ الندية والمعاملة المتساوية تجاه جميع الثقافات، وعدم وجود ثقافة تتفوق عن غيرها.
تعددت الثقافات والوطن واحد:
الانفتاح الثقافي الذي شهده البلاد خلال العقود الأخيرة الأربع ساعد بتقليص الأفكار النمطية، بتعزيز المساواة بين يهود أوروبا والمشرق، وبنشر روح التسامح بين مكوّنات المجتمع.
ومن بين الظواهر التي تعزز هذا التوجه:
صعود الموسيقى الشرقية من الهامش إلى الـ-mainstream وتنوع الأساليب الموسيقية في الإذاعة والتلفزيون، إلى جانب ظهور فنانين يغنون بلغة أباءهم وأجددهم، كدودو تاسا، حفيد الملحن العراقي القدير، داؤود الكويتي، وتمار شوقي، حفيدة الفنانين اللبنانيين، أمل وسليم شوقي.
كما نشهد في أنحاء البلاد، وبقلب تل أبيب بشكل خاص، مطاعم عراقية، وطرابلسية، ومغربية ومصرية وحتى فارسية، إضافة إلى الأمسيات الموسيقية للغناء العربي التي تجمع بين العرب واليهود في البلاد، وتعزز التقارب ما تعجز عنه السياسة.
نشير أيضا إلى عدم المطالبة بتغيير الأسماء إلى أسماء عبرية، خلافاً لموجة العَبرنة الذي كانت سائدةً في الخمسينات.
هذا الواقع الجديد خلق مجتمعا إسرائيليا يحتوي ويحتضن الجميع، بعد أن أصبحت التعددية الثقافية مصدرَ ثراء، ومُحفزاً لتكامل البشر مع بعضهم البعض.
يهود إثيوبيا بين نص الكأس الممتلئة والنص الفارغة:
هذا الأمر يحتاج إلى توضيح في ظل بعض الادعاءات التي تظهر بين الفينة والأخرى:
لو ننظر إلى الأرقام، نلاحظ تحسناً هائلاً طرأ على مستوى حياة مواطني البلاد من أصل إثيوبي خلال العقد الأخير، خصوصا فيما يتعلق بمستوى دخل الفرد، وبعدد العاملين في المناصب الحكومية والإعلامية.
مع ذلك، توجد نص كأس فارغة تصعب مشاهدة نصف الكأس الممتلئة، خصوصا في ظل وجود فجوات على المستوى التعليمي التي تحول دون الاندماج الكامل.
هذه الفجوات لا يمكن تقليصها بين ليلة وضحاها، لكن التقدّم يسير، والاندماج الكامل، كما قُلنا سابقاً، هو مسألة وقت.
التقدّم كبير والعمل كثير
كانت نظرية بوتقة الانصهار صالحة لزمن معيّن ولظروف معيّنة، لكن الواقع العالمي تغيّر، والواقع على الصعيد الداخلي تغيّر، وكما يقول الروائي المعروف، توفيق الحكيم: “لكل جيل أفكاره كما أن لكل عصر ثيابه”.
باعتقادي وباعتقاد الكثيرين، قطعنا شوطاً طويلاً وكبيراً خلال السبعين سنة الماضية، لكن لا يزال أمامنا الكثير من العمل، فهناك بعض الأمور التي يجب تحسينها وتصحيحها.
الواقع ربما لم يكن مثالياً، ومع ذلك، يُسعدني أن أعيش في دولة لا تخفي مشاكلها، وتتعامل معها بالمكاشفة الكاملة.
لقد أدركنا أنّ الوفاء للدولة والمساهمة في تقدّمها لا يعني إلغاء أيّ مكوّن من مكوناتها، وأنّ التعددية هي بمثابة مصدر قوة للدولة والمجتمع، خصوصاً في هذا الزمن الذي يشهد الكثير من العنف والتطرف على خلفيات دينية ومذهبية.
elanismad@gmail.com
*سمادار العاني كاتبة إسرائيلية عراقية الأصل
رائع التوضيح لكن فقط اليهود لم يكونوا لاجءين ل 3000 عام بل هم اصبحوا مواطنين اصلاء كما في البلدان العربية التي هي اصلا عمرها لا يتجاوز الالفي عام أي هم اليهود أقدم من اللغة العربية نفسها فكيف يكونون لاجئين
الدين لله والارض للجميع ، ان قوة امريكا وعظمتها من التعدديه القادمه من كل البلاد على اختلاف اللون والمعتقد واللغه لأن الجميع هناك سواسيه امام القانون لهذا تجد الطوابير على مدار العام امام السفارات الامريكيه تلهث للرحيل …