قطاع عريض من النخب الثقافية يسكنه وتتلبسه روح الديكتاتور، بحسب الدكتور أحمد الربعي. فهم دائمو الحنين إلى عصر القائد والزعيم الذي يتخذ قرار الحرب السلام وحده، ويقرر مصير أمة بأكملها وحده بلا حكم المؤسسات، ويحدد من هو الوطني والخائن دون محاكمة عادلة.
منذ أن قال الشهرستاني -توفي 6 هجرية- في كتابه “الملل والنحل“: “وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ لم يُسَل سيف في الإسلام، على قاعدة دينية، مثل ما سُل على الإمامة في كل زمان”. والأمة مغيبة عن الشأن العام، ولم يفكر أحد من النخبة الثقافية في رد الأمر للأمة، وإنما راهنوا على الفرد الحاكم، وعلقوا الآمال عليه في تحقيق العدل والإصلاح، وداروا في فلكه إلى اليوم.
كانت هناك، دائماً، لدى النخبة الثقافية المهيمنة عبر التاريخ الإسلامي، تلك النظرة السلبية تجاه العامة، فهم “رعاع” و”سوقة” و”دهماء” و”غوغاء” لا مدخل لهم في الشورى العامة، لأن الشورى بحسب زعمهم “احتكار” خاص بـ”النخبة”؛ هم أهل الخبرة والرشد والحكمة -مثقفو الغرب في عصرنا هم الذين كسروا هذا الاحتكار؛ فأصبح رجل الشارع العادي يقيم ويسقط الرؤساء- كما كانت لديهم، تلك النظرة المستريبة تجاه المعارضين للتيار العام سواء بتهميشهم أو اتهامهم بالمروق ومخالفة الإجماع والخروج على ثوابت الأمة والطاعة.
أما في العصر الحديث، فلا ننسى كيف تهافت جموع المثقفين العرب على جوائز القذافي، ومجدوا كتابه الأخضر ورواياته واعتبروه روائيا عظيمًا! ومن قبل كانوا يقتاتون على موائد صدام ويتقاطرون إلى مواسمه ومهرجاناته طمعاً في عطاياه ومنحه.
هذه الحالة غير السويّة هي التي تفسر ظاهرة “الولع بالمستبد القومي” حتى بعد سقوطه، لدى طائفة كبيرة من المحامين العرب، هبوا جميعًا للدفاع عن الرئيس العراقي صدام لكنهم لم يحركوا ساكناً دفاعاً عن ضحاياه وقبوره الجماعية!
ولا ننسى كيف هبّ رئيس اتحاد المحامين العرب وترأس وفداً من المحامين طاروا مسرعين لنجدة البشير المطلوب للمحكمة الدولية، وقبله هرولت الأمانة العامة للاتحاد إلى دمشق لمساندة الأسد تجاه لجنة التحقيق الدولية في مقتل الحريري ورفاقه!
صدق عبدالله القصيمي في تحليله هذه الظاهرة: “إنَّ الحاكم المستبد القومي لا يقتل الموهبة فحسب، لكنه يسخرها لحساباته الطاغية المستبدة، لأنه بحاجة إلى القوة والانتصارات والطوابير والمهرجانات والإعلانات الباذخة وإلى الدوي والسحر والقهر والبهر والذعر” (لئلا يعود هارون الرشيد، منشورات دار الجمل).
المستبد القومي محظوظ في الحياة السياسية العربية إذ يجد، حتى بعد موته، تمجيداً لسياساته وتبريراً محموماً لأخطائه، بل كوارثه ومآسيه !
لقد ظل “الأستاذ الكبير” محمد حسنين هيكل، يطل علينا عبر “الجزيرة” مبرراً أسوأ حقبة في تاريخ العرب المعاصر، استبيحت فيها كرامة الإنسان العربي في سجون ومعتقلات المؤسسة العسكرية العربية، حقبة النظم الثورية المتسلطة التي أذلت المواطن العربي وخربت نفسيته وداست كرامته بلا رقيب ولا حسيب ولا ضمير!
مجتمعاتنا فقدت “المناعة” الفكرية تجاه جرثومة “الاستبداد” التي عششت في “الرحم الأيدلوجي” لمبدأ: “أطع الحاكم وإن جلد ظهرك”، وفقا لتركي الربيعو، كما أنها ثقافة “الرضا” بالطغيان، بحسب وصف الدكتور محمد الرميحي.
الاستبداد العربي، إرث طويل تمتدُّ جذوره إلى بدايات تحوّل حكم الشورى إلى حكم الفرد ليمتد إلينا عبر 14 قرناً، كان الاستبداد هو القاعدة، أما العدل فليس سوى ومضات مضيئة في ليل طويل، كانت الأمة فيه مغيبة والفرد مهمشاً لا حول له ولا قوة والشورى محجوبة.
لقد كان الاستبداد تاريخياً جزءاً من الواقع المعاش للفرد العربي، يتعايش معه كأمر طبيعي كما يتعايش مع كل حقائق الحياة من حوله، لم يكن يمثل “نقيصة” أخلاقية، بل هو “حزم” مطلوب ينسجم مع التصور التاريخي العام لـ”فن الحكم” بحسب قول شاعر الحكمة الأكبر زهير بن أبي سلمى: “ومن لا يظلمِ الناس يُظلم”.
أخيراً.. أخلص إلى أن قطاعاً عريضاً من المثقفين كانوا أعواناً للنظم التسلطية.
* كاتب قطري