بعد أن انتهيت من كتابة مذكراتي في فلسطين وإسرائيل، التي نشرتها على مدار 24 حلقة في موقع شفاف الشرق الأوسط، بدأت في محاولة نشر تلك المذكرات في كتاب قد يشجع بعض الشباب على تبني مفهوم السلام ونبذ الصراع والحروب في الشرق الأوسط.
وتواصلت مع عدة دور نشر في مصر. وفي حديث تليفوني مطول مع أحد المسؤولين في دار نشر بالقاهرة، قال لي بالحرف الواحد: “الكتاب هايل، ولكن يلزم إجراء بعض التعديلات حتى لا يكون هناك شبهة تطبيع مع إسرائيل“! وكان ردي الفوري: « إذا كان في الكتاب شبهة تطبيع مع إسرائيل، فأنا مذنب“!
وشبهة “التطبيع” أصبحت سيفا معلقا فوق رؤوس كل من تسول له نفسه الدعوة للسلام، مثلها مثل تهمة “ازدراء الأديان” وهي سيف مسلط على كل من تسول له نفسه أن ينتقد بعض البشر الذين لا زالوا يحكموننا بالرغم من وفاتهم منذ مئات أو آلاف السنين، والذين تم رفعهم إلى مصاف الآلهة. وبالطبع، ناهيك عن أكبر تهمة وهي تهمة “الرِدة“، أي الارتداد عن الدين الإسلامي، وهي تهمة عقوبتها القتل. هذا بالطبع غير التهم الجاهزة مسبقا، مثل تهمة الإساءة لسمعة دولة معينة، أو تهمة محاولة الإساءة إلى العلاقات بين الدولة 1 والدولة 2 ، أو تهمة الخلاعة ومحاولة نشر الفتنة، أو تهمة الإضرار بالأمن القومي، وكلها تهم يوجد منها تهم “جاهزة” كما يوجد أيضا تهم “تفصيل” إذا كانت التهمة الجاهزة ليست على مقاس حضرتك!
ولم يقتصر دور إطلاق تلك التهم على الأنظمة القمعية البوليسية أو على أجهزة المخابرات، ولكن ظهرت فئة من حراس الفضيلة معظمهم من المحامين هواة الشهرة يقومون برفع قضايا على الكتاب والمفكرين والفنانين والفنانات (الأحياء منهم والأموات)! ولدى حراس الفضيلة هؤلاء قائمة بالتهم الجاهزة والتهم التفصيل، وإياك أن تتجرأ وتقول رأيا مخالفا لما جرى عليه العرف ويتعارف عليه العامة وأصبحت له قداسة الكتب السماوية.
تذكرون « اللاءات العربية الثلاثة » في مؤتمر القمة العربي بالخرطوم في عام 1967، في أعقاب الهزيمة المذلة للجيوش العربية الثلاثه مصر وسوريا والأردن (وضاعت فيها سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة والقدس). والثلاث لاءات كانت “لا صلح ولا أعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل“! مؤتمر الخرطوم وقراراته لم تحترم بالطبع، وأصبح هناك تفاوض وصلح واعتراف من جانب الجميع: مصر وفلسطين والأردن ولبنان ثم تلتها بلاد عربية مؤخرا.
وتعبير « اللا حرب واللا سلام » في الشرق الأوسط هو تعبير اخترعه “الأستاذ” هيكل لكي يبرر عدم دخول رئيسه في حرب مع إسرائيل لتحرير الأرض التي فقدناها بسبب رعونة وجهل وغرور عبد الناصر.
وتعبير « اللا حرب واللا سلام » هو تعبير « خليع »! يعني إما أنك “رجل” وتستطيع الحرب وتتحمل تبعاتها وتقوم بالتجهيز لها، وإما أنك “رجل” أيضا ولديك الشجاعة والقدرة على بدء محادثات السلام. لذا، فهو تعبير ينمّ عن أناس (….. كلمة لا أستطيع كتابتها) لا يريدون ولا يستطيعون تحمل تبعات الحرب، وأيضا ليست لديهم الشجاعة على القبول بالسلام.
أما إذا كانت لديك شجاعة الحرب وحققت فيها نصرا رائعا، حتى لو كان جزئيا، مثل حرب أكتوبر 1973، فيصبح من حقك أن تسعى للسلام كما فعل الرئيس الراحل السادات. فاستعاد أرض مصر كاملة بعد أن قدم تنازلات بسيطة اعتبرها معظم العرب خيانة، ثم ندموا بعد ذلك وساروا في نفس مسيرة السادات “الخائن“!!
ومن الأمور المحزنة أن ياسر عرفات بعد أن ندم (كعادة القادة الفلسطينيين) على الانضمام إلى محادثات مصر مع إسرائيل، وافق ووقع على اتفاقية أوسلو بعد أكثر من 15 سنة من تكاثر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وأطلق على موقفه الجديد لقبا مضحكا هو “سلام الشجعان“، على أساس أن سلام السادات كان “سلام الجبناء“!! وكالعادة العرب يلعبون بالكلمات لكي يغطوا على خيبتهم!!
على أي الأحوال، ما هو المقصود بالسلام في العالم كله؟
المقصود بالسلام هو قيام علاقات طبيعية بين الدول: علاقات تجارية، وسياسية، ورياضية، وفنية، وتبادل خبراء. السلام ليس مجرد تبادل سفراء! كثير من المصريين يعتبرون أننا « ضحكنا على الإسرائيليين »، وبعد أن وقعنا معهم معاهدة سلام، “طلعنا لهم لساننا” وقلنا لهم : « هيهه ضحكنا عليكم وأخذنا أرضنا بمساحة تعادل إسرائيل وفلسطين ولبنان مجتمعين وأعطيناكم بدلا منها سفارة، ولكن لو تسول لأي شخص أيا كان بإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل فسوف ينفى من الأرض وتتم مقاطعته تماما »!! وهذا يثبت أننا كنا غير جادين عندما وقعنا على معاهدة السلام. فكانت مجرد خدعة للحصول على أرضنا، واعتبرناها مجرد هدنة وليست سلاما.
…
هناك كلمة رومانسية أخرى هي كلمة “السلام العادل“!
لا يوجد شيء على أرض الواقع أسمه “السلام العادل“! كل معاهدات واتفاقيات السلام عبر التاريخ تعكس مدى قوة الطرفين حاليا ومستقبلا، ولا علاقة لها بالعدل أبدا! السلام يُنبى على القوة، فلولا حرب أكتوبر لما وافقت إسرائيل على إعادة سيناء إلى مصر، ولولا الانتفاضة الفلسطينية لما وافقت إسرائيل على الاعتراف بياسر عرفات الذي كانت تعتبره إرهابيا ووقعت معه اتفاقية أوسلو.
ما هو المقصود بتهمة “التطبيع“: التطبيع كلمة جاءت من الكلمة الأصلية “الطبع” أو أقام علاقات طبيعية، يعني ليست « علاقات شاذة » والعياذ بالله!! فكيف أصبحت هذه الكلمة “الطبيعية” كلمة مشبوهة ويستحق مرتكبها المحاكمة الأدبية وربما الجنائية؟ وكيف اتّحد كلا من اليساريين والناصريين والقوميين والإسلامويين على التنكيل بكل من يتجرأ على “التطبيع“، أو حتى بكل من يتجرأ أن يذكر كلمة « إسرائيل »؟ حيث أننا يجب أن نذكر دائما “الكيان الصهيوني” أو “فلسطين المحتلة“، ولكن حسك عينك تذكر كلمة إسرائيل صراحةّ!
وما أريد أن أفهمه هو هل تريدون منا أن نكون فلسطينيين أكثر من ياسر عرفات الذي وقع اتفاقية سلام مع إسرائيل وأعترف بها كدولة مستقلة؟ وهل تريدون منا أن نكون فلسطينيين أكثر من قادة حماس الذين قبلوا بمعاهدة أوسلو التي مكنتهم من الاستيلاء على قطاع غزة في الانتخابات الأولى والأخيرة؟ هل تريدون منا أن نكون فلسطينيين أكثر من إسماعيل هنية قائد حماس الذي وافق على إرسال ابنته للعلاج في مستشفى في تل أبيب؟ هل هناك تطبيع أكثر من هذا؟
ومرة أخرى، إذا كان التطبيع مع إسرائيل جريمة، فأنا مذنب!