في 11 أيلول/سبتمبر الجاري، كشفت المحكمة الخاصة بلبنان أن مدّعي عام المحكمة، نورمان فاريل، قدّم في تموز/يوليو الماضي قراراً اتهامياً سرياً إلى قاضي الإجراءات التمهيدية. وكان هذا القرار الاتهامي الأول منذ حزيران/يونيو 2011، عندما اتّهمت المحكمة أربعة عناصر من حزب الله (كان أحدهم قد قُتِل العام الماضي كما أُفيد) بالتورّط في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في العام 2005.
شكّلت المحكمة الخاصة بلبنان حالة شاذّة لدى إنشائها في العام 2009، إذ لم يسبق أن أنشئت محكمة خاصة تحت سلطة الأمم المتحدة للنظر في اغتيال سياسي. والآن، بعد أكثر من اثنَي عشر عاماً على مصرع الحريري، لاتزال الآلية تسير بخطى متثاقلة، من دون أن يتم توقيف أيٍّ من الأشخاص الذين وُجِّهت إليهم اتهامات، ويتساءل كثرٌ بصورة مشروعة عمّا إذا كانت تجربة المحكمة الخاصة بلبنان قد عادت بالفائدة فعلاً على الأمم المتحدة والعدالة الدولية.
لم تكن المعلومات التي جمعتها حول التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة قبل إنشاء المحكمة، والتي نشرتها في كتاب عن مرحلة 2005-2009 في لبنان بعنوان The Ghosts of Martyrs Square: An Eyewitness Account of Lebanon’s Life Struggle (أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن نضال لبنان من أجل البقاء)، مطمئنة. فالآليات القانونية بطيئة، ولم يكن يُتوقَّع أن يشكّل التحقيق والمحاكمة في قضية الحريري استثناءً في هذا المجال. لكنني علمت أيضاً أنه ثمة أسباب أخرى كامنة خلف الوتيرة البطيئة للتحقيق، التي جعلته أقل كفاءة إلى حد كبير مما هو مفترَض.
وتمثّل الاستنتاج الأساسي الذي توصّلتُ إليه في أن المحقق الثاني الذي عيّنته الأمم المتحدة للنظر في اغتيال الحريري، القاضي البلجيكي سيرج براميرتز (الذي يشغل حالياً منصب المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة) عمدَ إلى إبطاء مسار التحقيق، لأنه شعر على الأرجح أنه لم يكن هناك رغبة، في مقر الأمم المتحدة، في الكشف عن هوية الجهة المذنبة. وحرص أيضاً على أن يتم تسليم الجانب الأكثر حساسية من تحقيقاته، أي تحليل الإثباتات المستمدة من الاتصالات السلكية واللاسلكية، إلى قوى الأمن الداخلي اللبنانية، على الرغم من أنه كان قد عزل فريقه عنها خوفاً من التسريبات.
وقد أكّد برنامج إخباري بارز بثّته “المؤسسة الكندية للإرسال” (CBC ) في العام 2010، جزءاً كبيراً من معلوماتي. بيد أن تردّد براميرتز في البناء على ما كشفته بيانات الاتصالات السلكية واللاسلكية عجز عن تعطيل التحقيق. فقد بادر الرائد في قوى الأمن الداخلي اللبنانية، وسام عيد، على نحو فردي، إلى إجراء تحليلاته الخاصة، وتمكّن من إقامة رابط بين الهواتف المختلفة الكثيرة التي استُعمِلت في عملية الاغتيال. تلك المعلومات، التي أكّدها لاحقاً فريق تحليلي عيّنه براميرتز مع اقتراب نهاية ولايته في العام 2008، شكّلت أساس القرار الاتهامي ضد عناصر حزب الله.
دفع عيد حياته ثمناً للإنجاز الذي حقّقه. فقد اغتيل في شباط/فبراير 2008 في إحدى ضواحي بيروت. كان المسؤول عنه، سمير شحادة، أوفر حظاً، إذ أنه نجا من تفجير استهدفه في أيلول/سبتمبر 2006 أثناء توجّهه إلى العاصمة، وتسبّب بمقتل أربعة من حرّاسه الشخصيين.
في الجزء الأكبر من ولاية براميرتز بين العامَين 2006 و2008، لم يحدث أي تقدّم فعلي في التحقيق، وفقاً للمعلومات التي وردتني من أشخاص مطّلعين على مسار التحقيقات، وذلك على الرغم من أن المحقق كان يعلن خلاف ذلك في التقارير الدورية التي كان يرفعها إلى مجلس الأمن. وقد ازدادت شكوكي أواخر العام 2007، ويُعزى ذلك إلى حدّ كبير إلى علاقة الصداقة التي ربطتني بالقاضي الألماني ديتليف ميليس الذي كان رئيساً للجنة التحقيق قبل براميرتز. وعبّر ميليس، في رسالة وجّهها إلي عبر البريد الإلكتروني في تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام، عن شكوك خطيرة بشأن التحقيقات التي يجريها القاضي البلجيكي. يشار إلى أن هذه المسألة تكتسب طابعاً شديد الأهمية لأن ميليس هو من رفع توصية إلى الأمم المتحدة بتعيين براميرتز خلفاً له، وعليه لايمكن اعتبار رد فعله بأي شكل من الأشكال تعبيراً عن ضغينة بين أبناء المهنة الواحدة، بل على العكس كان تعبيراً عن الندم.
لفت ميليس إلى أنه “لا يتوقع أن تكون هناك أي محاكمة في المستقبل المنظور”. واستند في تقييمه هذا إلى أن براميرتز لم يبادر منذ العام 2006 إلى الكشف عن هوية أي مشتبه بهم جدد، وإلى أنه “لم تتم إضافة أي عناصر مرئية جديدة على ما يبدو” إلى القضية. وخلص قائلاً: “لاتبدو لي الآفاق جيدة، ويبدو أن كثراً [خارج لبنان] يريدون أن تسير الأمور على هذا النحو تماماً، لأسباب سياسية. لا ألمس أي رغبة في العودة إلى الوتيرة التي انطلق بها التحقيق في بداياته”.
في شباط/فبراير 2008، توجّهتُ إلى برلين لإجراء مقابلة مع ميليس لصحيفة “وول ستريت جورنال”. بحلول ذلك الوقت، كان قد أصبح مستعداً لإجراء مقابلات علنية، لأن براميرتز كان على وشك مغادرة منصبه. لم يتوانَ القاضي الألماني عن التكلّم بصراحة تامة. كان لايزال يعرف أشخاصاً داخل التحقيق، ما أتاح له القول: “انطلاقاً مما أسمعه، خسر التحقيق كل الزخم الذي كان يتمتع به [عندما تسلّم براميرتز منصبه] في كانون الثاني/يناير 2006″، مضيفاً: “لسوء الحظ، لم أقع على كلمة واحدة في التقارير التي رفعها في العامَين الأخيرين تؤكّد أنه حقّق تقدّماً ما. عندما غادرت، كنّا جاهزين للإعلان عن أسماء مشتبهٍ بهم، لكن يبدو أن [التحقيق] توقّف عند تلك المرحلة ولم يتقدّم”.
بين المشتبه بهم، بحسب ماعلمت من ميليس، رئيس شبكة الاستخبارات العسكرية السورية السابق في لبنان، رستم غزالة. توقّع ميليس أن يُقدم براميرتز على توقيف غزالة، لكنه لم يفعل، كما أن القاضي البلجيكي لم يأخذ إفادة رسمية من الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ماكان ميليس يريد منه فعله. في العام 2015، قُتِل غزالة على أيدي أزلام تابعين لقيادي استخباراتي آخر في سورية، في إطار سلسلة الاغتيالات التي استهدفت ضباطاً في الاستخبارات السورية كانوا متورّطين على الأرجح في اغتيال الحريري. في حين أن ضلوعهم في الجريمة لم يُثبت قط، غير أن اختفاءهم عن الساحة كان مناسباً إلى حد كبير.
ماعلاقة هذا كله بالمحاكمة الجارية حالياً في المحكمة الخاصة بلبنان؟ إنه مرتبط بها في كل شيء. فلو استخدم براميرتز الزخم الأوّلي للتحقيق من أجل إصدار مذكرات توقيف، والحصول على إفادات، وإحراز تقدّم سريع في تحليل الاتصالات السلكية واللاسلكية، لكان هناك احتمال كبير بأن يحصل الادّعاء على قضية أكثر اكتمالاً، بسرعة أكبر، مع إبقاء المذنبين المحتملين في حالة ارتباك. بدلاً من ذلك، وعند صدور قرار اتهامي في العام 2011، بعد تأخير طويل يُعزى إلى أن جهة الادّعاء لم تبادر قط بصورة فعلية إلى إعداد ملف مناسب حول ماجرى، ركّز القرار في شكل أساسي على الاتصالات السلكية واللاسلكية، من دون أن يتضمّن أي إفادات حاسمة من الشهود. الأسوأ من ذلك، لم يُشر المدّعي العام آنذاك، وهو قاضٍ كندي يُدعى دانيال بيلمار، إلى أي دافع للجريمة، مايؤكّد أنه لم يتم إجراء تحقيق كامل وفعّال. يُقال إن القرار الاتهامي الأولي أثار غضب فاريل، وأنه عمد لاحقاً إلى دعمه. لكن بحلول ذلك الوقت، كان الضرر قد وقع.
إذاً، في حين يمكن التنويه بجهود فاريل المستمرة من أجل المضي قدماً بمحاكمة قد تتمكن على الأقل من الكشف عن بعض المذنبين، إلا أن الحقيقة هي أنه من شبه المؤكّد أن ذك سيكون مجرد نذرٍ يسير وأنه سيأتي بعد فوات الأوان. علاوةً على ذلك، تسبّب مرور الزمن بالقضاء على أي قيمة متبقّية للتحقيق ومحاكمة قتلة الحريري. لن تكون للتحقيق والمحاكمة أي قيمة رادعة، ولن يساهما في وضع حد للإفلات من العقاب، كما أنهما لن يقنعا أحداً في المجتمع الدولي بالاستثمار في محاكم مماثلة في المستقبل. واقع الحال أن سجل المحكمة الخاصة بلبنان جعلَ الأمور أشد سوءاً.
اختصر ميليس الوضع بالطريقة الأفضل في مقابلة مع ديوان في تشرين الأول/أكتوبر 2016، سألتُه فيها عن أفكاره بشأن المحاكمة. فختم جوابه محذّراً: “أحبّذ أن يتم اعتماد مدوّنة مقبولة دولياً للإجراءات الجنائية في القضايا الدولية، ماقد يسهم في تسريع عجلة المحاكمات، من دون تهديد حقوق المتّهمين. في رأيي، العدالة المؤجَّلة هي عدالة محجوبة”.
يُثير قرار اتهامي صدر مؤخراً تساؤلات عن القيمة الحقيقية للتحقيق في قضية اغتيال رفيق الحريري ومحاكمة قتلته.