يحدث، أحياناً، أن تكون الكتابة نوعاً من التفكير بصوت مرتفع. وهذا يصدق على مقالة اليوم، وما حرّض عليها يتمثل في كتاب بعنوان “حرب الأبد: داخل حلقة أقصى اليمين لبانون وسماسرة السلطة في العالم” للأميركي بنجامين تايتلباوم، الاثنوغرافي والمُختص في حركات وأيديولوجا اليمين. صدر الكتاب في أواخر أبريل (نيسان) الماضي، وبما أننا في زمن الكورونا أصبح الانشغال به، والشغل عليه، جزءاً من مكافحة ما تجلب العزلة، القسرية، من ضيق.
موضوع الكتاب مركّب ومعقد، كما يتضح من العنوان، وما لم تكن لدى القارئ معرفة مُسبقة، ولو بالحد الأدنى، فلن يتمكن من إدراك دلالة المركّب والمعقّد. ناهيك، طبعاً، عمّا أعتقد أنه وباء أصاب طريقة الأميركيين، على نحو خاص، في الكتابة.
فالميل إلى تحويل كل شيء تقريباً إلى “حكاية“، والإفراط في التفاصيل الصغيرة والهامشية، وعدم “الدخول في الموضوع” إلا بعد “طلوع الروح“، يكاد يكون سمة مشتركة لا تمييز فيها بين الكتابة الجادّة في السياسة والتاريخ، والروايات التسلية الشعبية. ويحدث انقلاب على هذا كله، وانتقام منه، خاصة في الدراسات الأدبية، ذات الرطانة العالية، وغير المفهومة غالباً. المهم، أنجبت المدرسة الفرنسية، في مختلف أجناس الكتابة، أفضل مَنْ يكتب في الغرب، حتى الآن، وما زال للألمانية قصب السبق في التحليل.
ومع ذلك، ما يسم طريقة الأميركيين في الكتابة لا ينتقص من قيمة الكتاب، ولا ينفي أهمية وخطورة الموضوع. وهذا ما يستدعي التفكير والتدبير بداية من العنوان نفسه ووصولاً إلى ما يبدو (في نظري على الأقل) كشفاً وإضافات نوعية إلى مبنى ومعنى ظاهرة اليمين في الغرب.
بانون المذكور في العنوان هو ستيف بانون، أحد أقطاب أقصى اليمين، ومدير حملة ترامب الانتخابية، وكبير مستشاريه حتى وقت قريب (وعلى الأرجح بصفة غير رسمية حتى الآن). وبانون هذا هو الذي تكلّم باحتقار عن العرب، وتعهّد بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في أوّل أيام ترامب في البيت الأبيض، وهو الذي يقود ويشتغل على تنسيق، وتوحيد، وتمين، أنشطة وصلات أبرز شخصيات وحركات موجة اليمين الصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة.
أما تعبير “أقصى اليمين” (far-right) الوارد في العنوان فإشكالي لأنه غير محدد بطريقة واحدة، أو غير ملتبسة، في الأدبيات الأميركية، والغربية، نفسها. وغالباً ما يتبادل الدلالة، والمعنى، مع تعبير آخر هو اليمين البديل، وأحياناً تضيع دلالة هذا وذاك تحت عناوين عريضة من نوع اليمين المتطرّف. ومع ذلك، إذا أردنا البقاء في منطقة آمنة فلنقل إن هذه التعبيرات لا تعني الشيء نفسه، وإن كان ثمة الكثير من القواسم المشتركة بينها. فأقصى اليمين تعبير يستمد دلالته من التضاد مع اليمين الأميركي التقليدي، المسيحي، الريفي، الإنجيلي، الجنوبي، المحافظ. أما تعبير (alt-right) فيعني اليمين البديل، بديل يمين الجمهوريين التقليدي.
ويبقى تعبير (power brokers) الذي قد لا يعني شيئاً، للوهلة الأولى، بقدر ما ينطوي على إشارة إلى رهانات ومضاربات أشخاص في بلدانهم، وفي العالم بشكل عام، للوصول إلى السلطة السياسية، واستغلالها، بالصفقات، والحملات، والمؤامرات. ومع ذلك، في الكتاب ما يعني أكثر من هذا بكثير. فسماسرة السلطة هؤلاء هم جماعة من “المفكرين” والنشطاء، والناشرين، والمستثمرين، و“الإعلاميين“. تتزعّم الجماعة المعنية ظاهرة اليمين الجديد، في بلدان مختلفة، وهي الجماعة التي يريد بانون توحيد صفوفها لتكون طليعة لثورة اليمين القادمة في الولايات المتحدة والغرب.
ولكن ما هي هذه الجماعة، وما خلفيتها الأيديولوجية، وما معنى الثورة القادمة؟ هذه هي الأسئلة التي تمثّل عصب الكتاب، ويسعى تايتلباوم لتفسيرها والحصول على ردود محتملة بشأنها، على امتداد 336 من الصفحات، من خلال سلسلة مقابلات مع بانون نفسه، وعدد آخر من “أصحابه” في صفوف اليمين الأميركي والغربي في بلدان أوروبية مختلفة، وخارج أوروبا، أيضاً.
وبما أن بانون و“أصحابه” يتصرّفون كمتآمرين، وأصحاب مشروع لقلب العالم، فهم لا يضعون أوراقهم كلها على الطاولة دفعة واحدة، ناهيك عن حقيقة أن أيديولوجيا أقصى اليمين نفسها ملتبسة، ومشوّشة بالمعنى التاريخي والنظري، لذا كثيراً ما يلجأ الكاتب إلى تأويل ما يصدر عن هؤلاء من إجابات، أو ملاحظات وإشارات عابرة، أحياناً، استناداً إلى معرفة مُسبقة بالمرجعيات التاريخية والنظرية.
ويبقى أن نضيف أن بانون و“أصحابه” ليسوا ممثلين لأقصى اليمين، واليمين البديل (كائناً ما كانت التعريفات) وحسب، بل ويمثّلون مدرسة “فكرية” تدعى التقليدية (traditionalism) بلور أفكارها الرئيسة فرنسي اسمه رينيه غينون، أيضاً. الأخ المذكور تقلّب في مدارس مختلفة، وتصوّف واعتنق الإسلام، وسمى نفسه عبد الواحد يحيي، ومات في القاهرة في أواسط القرن الماضي.
والطريف أن بعض العرب يضع الشيخ عبد الواحد في قائمة المجددين والمُصلحين، ويذكر اسمه مسبوقاً بلقب “المفكر الإسلامي الكبير”، ويتكلّم عنه وعن كتاب له بعنوان “أزمة العالم الحديث” بقدر كبير من الإعجاب. على أي حال، المذكور أحد “أساتذة” بانون، ومصدر إلهام له ولأصحابه، وأحد كبار منظري أقصى اليمين الذي يستعد للثورة على الحداثة، والنظام الديمقراطي، وحقوق الإنسان، أو كل مصائب الأزمنة الحديثة في نظرهم.
ولعل في هذا ما يجعل من حكاية الشيخ عبد الواحد، بعدما اقترن اسمه ببانون، واليمين الأميركي والغربي، المتطرف والبديل، حكاية لو كتبت بالإبر على آماق البصر، لكانت عبرة لمن اعتبر. ولنا، طبعاً، أكثر من عودة، فالحفلة في أوّلها.
khaderhas1@hotmail.com