إزاء هذه اللعبة المعقدة ستكون الخاصرة الرخوة لأردوغان ليس فقط في الجوار السوري إذا ترك قواته تتوغل فيه، بل في الداخل التركي حيث يقوى عضد معارضيه الذين لا تدغدغهم الأحلام السلطانية.
على مسافة شهرين من الذكرى الثامنة لانطلاق شرارتها، تبدو “الحروب السورية” الكبيرة والصغيرة وكأنها لا تنتهي، وتتركز الحلقة الراهنة منها على شمال البلاد وشرقها مع رقصة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بين منبج وإدلب وشرق الفرات، حيث يحاول إعادة كتابة التاريخ، بعد قرن على نهاية الإمبراطورية العثمانية، والمشاركة في رسم خرائط جديدة في إقليم ملتهب عبر منع الأكراد من تركيز أي وضع جغرافي جديد لهم، ولعب دور أحد صناع الوضع السوري الجديد برمته.
لكن الطموح التركي الفضفاض سيصطدم بعوامل تفجير في منطقة مليئة بالانهيارات، وترتبط مآلاته بخيارات أطراف مسار أستانة وخاصة خطط ومناورات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مدير “اللعبة الكبرى الجديدة” في سوريا، وليس بعيداً عن القرارات النهائية للولايات المتحدة الأميركية التي لا تزال تتمتع بالموقع القيادي في الشرق الأوسط حتى إشعار آخر بالرغم من ضبابية وتقلبات مواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
احتدم الجدل والتزاحم حول توزيع النفوذ في المناطق الاستراتيجية لشمالي سوريا وشرقها بعد قرار الرئيس ترامب الانسحاب الأميركي منها، والذي تحول تدريجيا إلى “إعادة تموضع” مع قدر غير يسير من الغموض أو التخبط بسبب تحفظ المؤسسات الأميركية واستقالة وزير الدفاع نفسه.
وبعد جولتين في المنطقة لوزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون، برز التصحيح وإعادة النظر بما يشبه الترتيب بين ترامب وأردوغان لجهة “التهديد بتدمير الاقتصاد التركي في حال ضرب الشركاء الأكراد”، وإرفاق ذلك بتصور عن “منطقة آمنة بعرض 20 ميلا (32 كلم)” تضمن مصالح تركيا الأمنية في جوارها السوري وتحمي الأكراد حسب وجهة نظر سيد البيت الأبيض. لكن سرعان ما انتهز الرئيس التركي الفرصة واتصل بنظيره الأميركي ونقل عنه تأكيد انسحاب القوات الأميركية من المنطقة و”التوصل إلى تفاهم له أهمية تاريخية كبيرة”، لأن تركيا ستتولى إنشاء المنطقة الآمنة بعد التشاور مع الأطراف المؤثرة بما فيها الدول الضامنة لمسار أستانة.
وأكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن مسألة المنطقة الآمنة ستُطرح على أجندة لقاء القمة المتوقع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في وقت لاحق من يناير الجاري. لكن ما تعتبره تركيا “منطقة آمنة” في شمال سوريا، يعتبره الأكراد “مكمنا” ينذر بحروب طويلة، حيث تصر أنقرة على استبعاد “وحدات حماية الشعب الكردي (نواة قوات سوريا الديمقراطية الحليف الرئيسي لواشنطن والتحالف الدولي في الحرب ضد تنظيم داعش) من الترتيبات الأمنية المستقبلية”. ويتم ذلك بسباق مع الزمن وبموازاة مسار آخر تشرف عليه قاعدة حميميم الروسية بين النظام في دمشق وممثلي أبرز الأطراف الكردية السورية من أجل بلورة ترتيب يتيح إعادة سيطرة الدولة السورية على هذه المنطقة.
قبل كل هذه المناورات كان بعض المراقبين يتحدثون عن تركيز مناطق نفوذ أميركية وروسية وتركية وإيرانية على خلفيات استراتيجية وعلى تقاسم موارد الغاز والنفط والمياه والزراعة من عفرين والزيتون فيها إلى دير الزور والنفط حولها. لكن الضبابية السائدة حاليا لا تتصل حصرا بجوار حلب الشهباء وإقليم الجزيرة وفراتها، بل تمتد أيضا إلى إدلب الخضراء وحماة وبالقرب من الساحل حيث سجلت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا المرتبطة بتنظيم القاعدة) تقدما حاسما في ظلال اتفاق 17 سبتمبر 2018 المتعارف عليه باسم “هدنة بوتين – أردوغان في إدلب”.
لا بد من التذكير بأن محافظة إدلب كانت معقل المعارضة السورية المسلحة ودارت فيها حرب مع القوات الموالية، لكن دخول النصرة وداعش على الخط غيّر من طبيعة النزاع الذي أخذ يتوسع منذ العام 2012 مع زيادة حدة كل أنواع التدخلات الخارجية في ظل استباحة حدود سوريا وتقويض استقرارها، وخاصة من ناحية الاندفاع الإيراني لحماية النظام السوري جسر المشروع الإمبراطوري نحو البحر المتوسط في لبنان، أو لناحية الانخراط التركي في إطار التوجهات الغربية والذي أخذ يتأقلم مع الاختراق الروسي الاستراتيجي وبالضبط منذ معركة حلب أواخر العام 2016.
بيد أن رجب طيب أردوغان الذي عزز على وقع “الحروب السورية” صعوده الداخلي من رئيس للوزراء إلى رئيس للجمهورية في ظل نظام “رئاسي سلطاني” كان يلعب على الساحة السورية لعبته الخاصة ومصلحة بلاده العليا حسب رؤيته.
من اللافت أنه في موازاة احتضان المعارضات السورية وممارسة وصاية على بعضها (سهّلتها قرابة أيديولوجية وأموال بعض العرب) فتحت تركيا حدودها بشكل طوعي أو بتغاض أو بعجز، أمام المتشددين من أنصار “الأمميات الإسلامية” أو من جماعات الإرهاب المصنوعة والجاهزة عند الطلب تحت غطاء محاربة النظام السوري. وكل ذلك مهّد لإرسال الجيش التركي إلى داخل الأراضي السورية في عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” تحت عنوان “مكافحة الإرهاب” و”الأمن القومي”، لكن الهدف الأساسي الدائم كان إجهاض حلم الأكراد بما يشبه الإقليم، ولتأمين الحضور إلى أي طاولة ستقرر لاحقا مستقبل سوريا.
تبعاً للتطورات الأخيرة المتصلة بقرار ترامب وتغيّر موازين القوى في إدلب، يصح التساؤل عن اقتراب أردوغان من تحقيق رهاناته. وتقول مصادر من الشمال السوري إن “المنطقة الآمنة التي تعتزم الحكومة التركية إقامتها على طول الحدود مع سوريا ستضم بلدات من 3 محافظات، هي حلب والرقة والحسكة. ووفقا للمسح فإن المنطقة الآمنة تمتد على طول 460 كيلومترا، على طول الحدود التركية السورية، وبعمق 20 ميلا”.
لكن للوهلة الأولى لن تسمح واشنطن وموسكو بذلك، ولن ترضى دمشق بتمرير رسم مثل هذه المنطقة، وأمامها عقبات جمة ومتنوعة. ووفق مصادر أوروبية وأميركية فإن “واشنطن تخاطر بشدة بإسناد مهمة القضاء على داعش لتركيا لأن أنقرة لا تهتم بمحاربة التنظيم، وإنما تصب كل تركيزها على القضاء على الأكراد شمال سوريا”.
وتستطرد هذه المصادر بخصوص إدلب “أن أولوية تركيا في هذه المرحلة، ليست محاربة النصرة، بل الأكراد وتحديدا وحدات حماية الشعب الكردية في شرقي الفرات، وعليه لم تتحرك تركيا ضد النصرة”، من دون أن يعني ما سبق أن احتمال خلط الأوراق غير وارد على مدى قريب أو متوسط إن عبر المواجهة مع النصرة أو تسهيل ضربها.
وهذه السيطرة لـ”هيئة تحرير الشام” في قطاع واسع تدلل على صعوبات تركية لفرض احترام أو تطبيق اتفاق سوتشي، لكن ربما يصبح الفرز الحاصل أفضل طريقة للتخلص منها لاحقا، من خلال عملية عسكرية مشتركة تقودها روسيا على شاكلة معارك حلب والغوطة الشرقية، وحينها تبيّن أن لكل شيء ثمنه في مساومات اللاعبين الخارجيين المتقاطعة على حساب السوريين، إذ حصلت صفقات غير معلنة في معارك حلب وجوار دمشق والقنيطرة ودرعا بين عدة لاعبين تحت رعاية العراب الروسي وموافقة المايسترو الأميركي.
يسود الاعتقاد، أحيانا، بأن المهمة الأردوغانية سهلة المنال بسبب عدم وجود مصالح حيوية وسياسة متماسكة لواشنطن في الملف السوري من جهة، والإدارة الروسية البراغماتية لهذا الملف من جهة أخرى. لكن الارتباك الموجود سيزيد من عوامل الالتهاب في الشمال السوري لأن الأولويات في دائرة “الفوضى الدولية” لا تحد من الأطماع الإقليمية المكشوفة في سوريا، إذ لا يقتصر التدخل الإيراني على دعم النظام في دمشق والمبارزة المقننة مع إسرائيل، بل يمتد إلى الشرق والشمال السوريين ليس فقط للتقاسم مع تركيا وروسيا بل للتصارع معهما أحيانا. إزاء هذه اللعبة المعقدة ستكون الخاصرة الرخوة لأردوغان ليس فقط في الجوار السوري إذا ترك قواته تتوغل كثيرا فيه، بل في الداخل التركي أيضا حيث يقوى عضد معارضيه الذين لا تدغدغهم الأحلام السلطانية.