عالجنا في مقالة سبقت العلاقة بين إهداء الجولان لنتانياهو، وتحوّلات الإمبراطورية الأميركية. ونعالج، اليوم، رهان هندسة الخرائط والتحالفات وتداعياته على حاضر إسرائيل ومستقبلها، والشرق الأوسط بطبيعة الحال. ونقطة البداية في كل تحليل مُحتمل لإسرائيل ينبغي أن تعتمد على فرضيتين أساسيتين: الأولى قناعة الإسرائيليين أن أفضل حل دائم هو المؤقت، والثانية أن ما لا يمكن أن يتحقق اليوم قد يصبح قابلاً للتحقيق في يوم قادم. وهذا ما عبّر عنه موشي آرنز، أحد أفضل عقول الليكود، قبل سنوات.
ولا ضرورة، في الواقع، للعودة، في هذا المقام، إلى الماضي الأيديولوجي لقناعات كهذه. كل ما في الأمر أنهما وثيقتا الصلة بفكرة الجدار الحديدي، التي طرحها جابوتنسكي في ثلاثينيات القرن الماضي، ومفادها أن العرب (أهل فلسطين، والجوار) لن يقبلوا وجود الدولة اليهودية، وأن على الأخيرة أن تحتمي وراء جدار حديدي من الحراب لتتمكن من هزيمتهم وإرغامهم على قبولها. عندئذ، فقط، يمكن للدولة اليهودية أن تقيم علاقات طبيعية مع جيرانها. مع ملاحظة أن جابوتنسكي تكرّم على الفلسطينيين واعترف أن لديهم حساً بالقومية، وإن يكن من النوع البدائي.
ولنلاحظ، هنا، أن نتانياهو، واليمين السائد في إسرائيل، اليوم، سليل جابوتنسكي، والصهيونية التنقيحية، بالمعنى السياسي والأيديولوجي، وأن فكرة الجدار الحديدي تبدو على قدر كبير من الغواية، نتيجة ما تحقق فعلاً على الأرض، ونتيجة تدهور أيديولوجيا الصهيونية العمالية. وفي كتاب آفي شلايم المعنون “الجدار الحديدي“ لا نجد عرضاً مفيداً لأفكار جابوتنسكي وحسب، بل وعرضاً لفرص السلام التي أحبطها الإسرائيليون على مدار عقود، أيضاً.
وإذا كان ثمة من ضرورة لتقديم الدليل والبرهان على صحة فكرة الجدار الحديدي، فيمكن لنتانياهو أن يقدِّم مرافعة عن حقيقة علاقاته البديعة السريّة والعلنية بالعالم العربي، وحقيقة أن ضم القدس والجولان، وكلتاهما من غنائم حرب العام 1967، نالت اعتراف الأميركيين، وأن اعتراف الآخرين، بما فيهم العرب، مسألة وقت، ناهيك، طبعاً، عن احتمال ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وهذه مسألة وقت، أيضاً.
وفي مرافعة كهذه يعثر اللبيب على ما يُبرِّر ويُفسِّر مسألة أن أفضل حل دائم هو المؤقت، وأن ما لا يمكن اليوم قد يصبح ممكناً في يوم آخر. وفي مرافعة، كهذه، أيضاً، ما يُفسِّر بأثر رجعي لماذا أجهض الإسرائيليون أوسلو، ورفضوا مبادرة السلام العربية، وحتى لماذا تبدو اتفاقيات السلام مع مصر والأردن قيداً يغل الأيدي في نظر بعض أجنحة اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل.
وإذا شئنا الحق والحقيقة فإن سيرة ومسيرة الإسرائيليين منذ إنشاء الدولة اليهودية وحتى اليوم تبدو قصة نجاح مُدهشة. فإسرائيل نشأت بقرار من الأمم المتحدة ينص، أيضاً، على قيام دولة فلسطينية. وقد استولوا على مساحات واسعة من أراضي الدولة الفلسطينية، وطردوا القسم الأكبر من الفلسطينيين سكّان الدولتين الإسرائيلية ـ والفلسطينية في حرب 1948.
وفي حرب لاحقة، في العام 1967، حسموا مسألة السيادة على ما استولوا عليه في حرب سبقت. واليوم، يبدو أن حسم ما استولوا عليه في عام 67 أصبح ممكناً. ولا نريد الغرق في تفاصيل الحروب التي خاضوها، والمحاولات التي بذلوها، على مدار خمسة عقود لحسم هذا الأمر.
ومع ذلك، يمكن، دائماً، تصوّر تاريخ مُختلف للدولة اليهودية، وللفلسطينيين والعرب، والشرق الأوسط عموماً، لو أُعيد النظر في فرضية أن أفضل حل دائم هو المؤقت بوصفها وصفة مضمونة لفكرة الحرب الدائمة، وأن فرضية ما لا يمكن اليوم يصبح ممكناً في يوم آخر تصلح لك وعليك، لا لأن أعداءك يمكن أن يراهنوا على الزمن وحسب، ولكن لأن الدولة اليهودية، وبصرف النظر عن عدد الرؤوس النووية في ترسانتها، لن تتمكن من هندسة جغرافيا، وديمغرافيا، وتاريخ، الصراع الفلسطيني والعربي ـ الإسرائيلي بطريقة نهائية وحاسمة، أيضاً. هذا، على الأقل، ما عبّر عنه بيني موريس، مؤخراً، بطريقة جنائزية تماماً في مقابلة مع هآرتس.
ومع قصة النجاح المُدهشة في الذهن، وحقيقة أن الفلسطينيين والعرب لم يجنحوا للسلم لأنهم أصبحوا، فجأة، من فصيلة الأم تيريزا، بل لأن “العين بصيرة واليد قصيرة“، وعلى ضوء ما لِتَضافُر فرضيتين هما الحرب الدائمة، والرهان على الزمن، من تداعيات محتملة، وسلبية تماماً، تعيق وتُفسد متى، وكيف، يمكن القول إن الحرب الدائمة قد انتهت، وأن كسب الرهان على الزمن قد تحقق بالفعل، يمكن القول:
إن السلام الوحيد المُحتمل لنهاية الحرب الدائمة، وكسب الرهان على الزمن، هو السلام الإمبراطوري، الذي لن يكون بين متكافئين ومتساويين، بل بين غالب ومغلوب. فهل يمكن، أو يصح، لعاقل الرهان على سلام كهذا؟ ألا تنطوي نتيجة كهذه على احتمال تأبيد حالة الحرب الدائمة، وكذلك الرهان على الزمن، واستبعاد فكرة السلام، بالمطلق، من حسابات البقاء؟
هذه أسئلة وجودية مُقلقة ومُؤلمة، وهي تُحرّض على أمرين: إما الاندفاع في الهوس القيامي، والاستسلام الرومانسي، والمُخيف، للميسيائية، ونزعتها الانتحارية، التي سبّق لأشخاص مثل غيرشوم شولم أن حذّروا من نتائجها الكارثية، أو الاحتكام إلى الواقع، والاعتراف بحقيقة أن إسرائيل تُوجد في آسيا الغربية، وسط بحر من العرب والمسلمين، وأن فرض السلام الإمبراطوري على هؤلاء ضرب من الجنون.
تاجر العقارات، في البيت الأبيض، لا يفهم أن السياسة ليست ترجمة لسوق العقارات، وأن ثمة، هنا، ما لا يُباع ولا يُشترى.
khaderhas1@hotmail.com