كالعادة، وجدت في مكتبتي المفضلة Volume، كتابا لسفير فرنسا عند قيام انقلاب القذافي الملقّب بثورة الفاتح من سبتمبر، بين الكتب التي يعرضونها بأسعار رخيصة للتخلص منها.
هل يمكن إغفال كتاب عن القذافي عنوانه “راعي سرت”، نشر عام 1996 إضافة لهوية المؤلف؟
يساعدنا هذا الكتاب على فهم علاقة فرنسا بليبيا وبنظام القذافي منذ نشأته. لكنه يساعدنا أيضاً على فهم استمرارية هذه السياسة التي نعاني منها حالياً في لبنان.
منذ أول سطر ينضح الاعجاب بما أصبحت عليه ليبيا. فطرابلس البربرية، وطرابلس مأوى القراصنة، وطرابلس البيضاء مقابل البحر الازرق، لم يعد ممكناً التعرف عليها بعد أن تضاعف حجمها خلال 25 عاماً، شقتها الطرقات والاتوسترادات الواسعة والجسور منذ اكتشاف البترول.
تعجبه حتى المربعات الفولاذ والاسمنت التي تسحق البيوت الموريستية الصغيرة التقليدية، والمساجد المتواضعة، والأسواق الشعبية والساحات المرحبة في ظل شجيرات الفيكوس. دفق السيارات من كل نوع تعبر الجادات الحديثة والطرقات الصغيرة الضيقة وتثقل حتى الأفنية الصغيرة التي تحولت مواقف.
يصف دخوله عرين القذافي بعد أن تعرض مركزه للقصف وفرضت عليه العقوبات من عدة دول غربية لحصوله على أسلحة كيميائية.
وصف السفير طرابلس كالتالي: تصطف الحوانيت بواجهاتها الكئيبة ورفوفها الخالية تشهد على العقوبات الاقتصادية. يضطر السائق الذي يقلّه للتسلل ببراعة في الزحام بين ضباط بالزي الرسمي يتحدثون بالتوكي ووكي مع رؤسائهم. تقترب السيارة من ثكنة باب العزيزية في ضاحية شعبية حديثة بعمارة كئيبة، ويسيرون بين موقعي بناء مهجورين، وسط جنود بقبعات حمر مدججين بالسلاح الأوتوماتيكي فتحوا بوابات الحديد عند سماع أبواقهم. في ممرات المعسكر الداخلية المزودة بحواجز معدنية، متعارضة لتصعيب المرور، يحرسها جنود في وضعية إطلاق نار، مع رشاشات سيارات مدرعة فوهاتها مصوبة نحو الزائر؛ تليها بوابات تفتح مواربة نحو فضاء شاغر شبه صحراوي. تطل على حزمة من المسارات الاسمنتية تبدو دون مخرج تجبر الزائر على المناورة وتغيير اتجاهه.
قرب أسوار مرتفعة لملعب تنس وآخر للفروسية في جانب وأبنية مهدمة وهياكل معدنية نوافذها محطمة نتيجة القصف الاميركي عام 1986؛ يظهر بناء غريب انعكاساته برونزية مذهبة، أقيم على مقربة، يشبه الخيمة القرطاجية بشكل غامض. خيمة القذافي الشهيرة التي نصبها في ساحة باريس بعد بروكسيل. يستقبله راعي سرت معمّر القذافي، على حد قوله.
كالأصدقاء القدامى، يبتدره: لم تتغير، يبدو أن الزمن ينزلق عليك ويسأله عن أسرته. يردّ له مديحه، ولكنه وجده يبدو أكبر سناً.
يستطرد السفير: “الرجل الذي أمامي سنّور متعقلن، Felin assagie مع انه رجل سياسة شهير عالميا. لكنه معتبر أيضاً كأحد زعماء المرتزقة، غير محبوب ومُساء فهمه وملعون.”
يندهش السفير ممن جعله مهزلة العالم وكبش محرقة وأحد أخطر إرهابيي العالم المُصاب بجنون العظمة. هذا بالرغم من أنه لا يجد لديه عرشاً او زينة فاخرة أو القاب مبهرجة. انه ببساطة مرشد هذا الشعب الصغير من مليوني بدوي ضائعين في أحد أكبر الصحاري على الكوكب.
يستغرب الدبلوماسي الفرنسي كيف أمكن لشخصيات رفيعة، من سياسيين وصحافيين أن يعتبرونه عقيدا حامي الرأس ودرويش الصحراء وروبيسبيير (تذكر الصحف أن الرئيس الاميركي ريغان وصفه بالكلب المجنون عام 1986)، ويسأل لماذا وصف بالمتقلب وغير ذلك، بينما هو منذ تسلمه الحكم من ربع قرن لم يغير قناعاته ولا خطابه؟
يكتب أنه “اتهم” أنه إسلامي متعصب وديكتاتور، بينما بشّر دائما بالجماهيرية لديموقراطية باسم سيادة الشعب ومنع التجمعات الدينية وضبط سلطة المفتين، على غرار مرجعه الفكري جمال عبد الناصر وحارب الأصوليين الإسلاميين. كما الاستهزاء من “كتابه الاخضر”، حول نظريته المعتبرة كثالث نظرية عالمية، والذي نشره منذ 25 عاماً، ويحاول تطبيقه رغم كل شيء.
ويجد أن سبب هذه الخبث ليس سوى أنهم لا يغفرون له كونه متخلفا وغنيا وغير مطيع ولا يقبل تبعية أحد، ويتحدى النظام العالمي علنا مما يزعج ضمائرهم؟ هناك على كل حال سوابق نادرة في الاغارة الجوية العالمية لتدمير رئيس دولة وعائلته.
كنت اقرأ في كتاب السفير مندهشة. لقد جعلني أظن انني أمام تشي غيافارا عربي!!
عندما ينقل عنه تعليقه بمرارة، كيف أن القوى العظمى ترغب بذبح النعاج المتمردة. ما يريدونه إخضاع الجميع لنظامهم المفروض. ليس على السنتهم سوى “حقوق الانسان” و”الحرية” بينما يغذون الصراعات والمعارك على النفوذ والحروب، مستغلين عبودية الشعوب الصغيرة!! وجدتني أربط ذلك مباشرة إلى ما أورده السفير نفسه عن الرئيس بومبيدو عندما قابله بمناسبة تعيينه سفيرا لليبيا في تزامن مع انقلاب القذافي.
كانت صلات الحكومة الفرنسية حينها متواضعة مع الملكية، كانت تراقب ردات فعل الانكليز والأميركيين كي تكون رأيها. وعيّن في هذه المرحلة الانتقالية بين الملكية وبين جماهيرية القذافي.
ابتدره بومبيدو، الرئيس الفرنسي حينها قائلا: تعرف ما حصل في ليبيا ولم نعرف حتى الآن الفاعلين في هذا الانقلاب، لكن من المرجح أنهم قوميون على طريقة ناصر. العالم العربي في حالة غليان، التزايد الديموغرافي والبترول والبؤس تتجاور مع الثروة الفاحشة. العطش للكرامة والعدالة هي الشعارات الجديدة للعالم الثالث. نصف هذه الشعوب أقل من 25 عاما، ولا شك ان المستقبل ليس للملوك والأمراء أو أي من القوى المتواجدة. سترى هؤلاء الشباب، تستمع إليهم لتعرف ماذا يريدون. وتحكم عليهم بتعاطف وتعرض التعاون معهم. لن ينقص ميدان مصلحة مشترك بين بلدينا اللذان من الممكن ان يتكاملا. واتمنى لك حظا طيبا. ثم ذكر له شعر Juvenal النقدي: “اووه ليبيا، حرري ثيرانك واحتفظي بقمحك، لكن أرسلي لنا الكمأة”.
ثم أشار إلى أن الانكليز تباحثوا مع الملك ادريس حول صفقة أسلحة ضخمة، وليبيا طبعا في مجالهم الحصري ونحن ليس لدينا أي حظ لإدخال انتاجنا، لكن مع التغيير السياسي الحاصل ألا يمكن توفير بعض الأوكسيجين لترسانتنا؟
كانت نبرة صوته تحمل تردد الرجل الشريف الذي لا يتوصل بسهولة إلى مصالحة مشاعره الانسانية الصادقة والسلمية مع الحاجة الملحة لتشغيل مصانعنا وعمالنا بآلات الموت. وشعر بالحاجة لتبرير قضيته: “أنت تعلم أن دفاعنا تشرّطه درجة تقدمنا التكنولوجي وأهمية اسواقنا الخارجية. الآخرون لا يقدمون الهدايا في هذا المجال”.
نسي ما كان قد ذكره عن تبني “نقد القذافي” لمتلازمة الغربيين حول “حقوق الانسان” و”الحرية” بينما يغذون الصراعات والمعارك على النفوذ والحروب، مستغلين عبودية الشعوب الصغيرة!!
إذا ربطنا كل ذلك بسياسات الرئيس ماكرون تجاه ثورة 17 أكتوبر وانفجار المرفأ، سنجد أن فرنسا فضلت مصالحها على مناصرة الحرية أو العدالة. فالرئيس الفرنسي لا يزال أكثر قرباً من حزب الله وإيران، وعشاء السفارة السويسرية المجهض آخر انجازات التنسيق. بالمقابل تحصل فرنسا على عقد عراقي لتوتال بـ17 مليار دولار، وعلى عقود في مرفأ لبنان ولشكر توتال بمناسبة الترسيم البحري.
كتب الطاهر بن جلون ما يلي عندما ألغى زيارته للبنان:
والحال، فإن وزير الثقافة في الحكومة الحالية، محمد مرتضى، المقرب من حركة أمل الشيعية، التي ترتمي في حضن حزب الله، وهو حزب وجيش مقره في لبنان ومموّل من إيران، أصدر بيانًا صحفيًا قال فيه أنه لا يرحّب بنا!
ما لم يذكره الطاهر بن جلون أن الوزير نفسه مقرب من فرنسا أيضاً ولديه الجنسية الفرنسية وإنها لا تساعد مما يشكو منه عندما كتب: “طالما أنه (لبنان) لا يملك القوة، والوسائل والرجال، للتخلص من جسم غريب على أرضه، اسمه حزب الله، فلن يتمكن من التعافي!”.
monafayad@hotmail.com