يُعتبر التعرف على التحديات التي تواجه العلاقات بين الناس ومعالجتها، خطوة حيوية لتعزيز جهود اتفاقيات إبراهام للسلام.
قال عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، عند التوقيع على ما ستُطلق عليه تسمية “اتفاقيات إبراهيم” في البيت الأبيض في آب/أغسطس 2020: « بدأنا نشهد اليوم تغييرًا في قلب الشرق الأوسط، وهو تغيير سيبعث الأمل في جميع أنحاء العالم ». وهي خطوة فاجأت الكثيرين، بحيث بدأت الاتفاقات بتشكيل نموذج جديد للعلاقات في المنطقة، ولا سيما عبر اهتمامها الواضح بالعلاقات الانسانية. ولكن لا بد أيضًا من الإقرار بأن تحقيق « السلام بين الشعوب » يجب ألا يبقى حبرًا على ورق، بل أن يترجَم كحقيقة واقعة على الأرض.
تمت صياغة « اتفاقيات إبراهيم » بروحية مختلفة تمامًا عن اتفاقيات السلام السابقة بين إسرائيل والأردن أو مصر. فقد وضعت اتفاقية كامب ديفيد لعام 1978 في الواقع خططًا لإقامة علاقات طبيعية بين مصر وإسرائيل، بما في ذلك روابط دبلوماسية واقتصادية وثقافية. وبالإضافة إلى ذلك، عام 1982، دعت اتفاقية ثقافية إلى إنشاء مركزين أكاديميين لتسهيل الروابط الثقافية بين الدولتين. ولكن العلاقات الفعلية بين الناس لا تزال غير قائمة فعليًا. ففي حين أنه تم إنشاء مركز إسرائيلي في القاهرة، فإنه يخضع لحراسة المخابرات المصرية التي توضح أن المصريين غير مرحب بهم في المركز. وكذلك، بعد 40 عامًا، لم يفتح المركز الأكاديمي المصري المقابل في تل أبيب أبوابه بعد.
بالمقابل، نشأت طاقة مختلفة تمامًا من العلاقات المتعددة الأطراف التي أعقبت “اتفاقيات إبراهيم”. فمنذ توقيع الاتفاقيات، تم التوقيع على أكثر من 127 مذكرة تفاهم، أنشأت روابط وتجارة وتعاونًا جديدًا في عدة مجالات. زادت التجارة بين إسرائيل وأعضاء آخرين في “اتفاقيات إبراهيم” بحوالي 222٪ عام 2021. كما بدأت تبرز عدة أوجه تعاون مهمة في مجالات الصحة والسياحة وحتى العلاقات بين الشعوب، مع خطط لتعزيز التعاون في المجالات الأكاديمية والثقافية والرياضية. ومن خلال ارتباطاتنا الخاصة، شهدنا شخصيًا على بعض العلاقات التي تم تأسيسها حديثًا على المستوى الأكاديمي ومستوى العلاقات الانسانية. ويمكننا أن نؤكد على الأجواء الإيجابية والمنفتحة والودية للغاية التي لمسناها مرارًا في فعاليات منصة “زوم” والزيارات والاجتماعات.
ولكن خلف هذه الواجهة البراقة للتقدم، لا يزال من الضروري التصدي للعديد من التحديات. وكذلك، ينبغي استيعاب بعض الدروس المستخلصة من الجهود السابقة فيما يحاول الشركاء في “اتفاقيات إبراهيم” تعزيز علاقتهم والبدء بفهم بعضهم البعض.
من بين التحديات الملحوظة التدفق غير المتماثل للزوار. خلال الأشهر الأربعة الأولى من الاتفاقية، توافد 140000 إسرائيلي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة للعمل والسياحة على حد سواء. بالمقابل، لم يتمكن سوى 140 من الإماراتيين والبحرينيين من السفر بالاتجاه المعاكس، معظمهم ضمن رحلات عمل رسمية وليس سياحية. هناك أيضا بعض المشاكل المتعلقة بالتنسيق والتي تظهر بمجرد وصولهم الى تلك الوجهات، فقد توافدت المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية إلى دبي بأسرع ما أمكن للبحث عن شركاء، من دون أن تدرك سبب عدم الرد على رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بها بالسرعة المعتادة لرسالة « واتساب ». تُظهر تلك التبادلات بشكل واضح الاختلافات الثقافية التي تحتاج كل دولة عضو في الاتفاقية التركيز عليها وفهمها.
سرعان ما استجابت المنظمات الإسرائيلية واليهودية أيضًا للاتفاقات، بحيث أقامت أولى اللقاءات الشعبية فيما دعت وفودا من الخليج لزيارة الأراضي المقدسة. وسرعان ما برزت صور مؤثرة لعُقل سوداء وأثواب بيضاء في القدس والمسجد الأقصى. في الوقت الذي ينظر فيه العديد من الإسرائيليين إلى دبي بالتحديد على أنها الأرض الموعودة الثانية، وواحة قبول عربية ساحرة يمكنهم فيها الشعور بالراحة وبكل طمأنينة.
من ناحية أخرى، من غير المفاجئ أن ينتهز الإسرائيليون فرصة السفر إلى إحدى الوجهات القليلة المفتوحة المتاحة لهم في الشرق الأوسط، كما فعلوا سابقًا في تركيا. ولكن يبدو أن القليل من الإسرائيليين قد لاحظوا أو اعترفوا بالاختلافات من حيث الوتيرة والأسلوب بين بلادهم ودول الخليج. علاوةً على ذلك، في خضم العجلة والاندفاع والحماسة، لم ينتبه العديد من الإسرائيليين ربما إلى أن الوضع المقابل في الخليج لدى نظرائهم العرب يمثل واقعًا أكثر تعقيدًا. على سبيل المثال، رفض سفيرا الحكومتين الإماراتية والبحرينية لقاء وفود المجتمع المدني التي قدمت متطلعةً إلى الاجتماع بهما. واستجابت الوزارات المعنية بالمثل لهذه المبادرات من خلال توجيه رسالة فاترة بشأن الجهود الجارية على صعيد العلاقات الإنسانية متغاضين عن الأسباب التي دفعت هؤلاء السفراء للقيام بتلك الخطوة
تضطلع زيارة الوفد الخليجي للقدس بدور توجيهي في هذا السياق. ففيما خاطبت العُقل في القدس الجماهير اليهودية والإسرائيلية-اليهودية، إلا أن رأي الناس بالزيارة أدى إلى احتكاك لا لزوم له مع الفلسطينيين، ومع المسلمين الآخرين الأكثر تدينًا الذين فسّروا الصور من حائط المبكى بشكل مختلف. وكذلك، نظرًا لعدم وجود بروتوكول لتنسيق مثل هذه الرحلات، حلت الوفود الإسرائيلية والمنظمات التي سهلت عملها كضيفة غير مرحب بها في عدة ممرات إماراتية وبحرينية. ولا يزال هذا التناقض مستمرًا، بحيث أن غالبية منظمات المجتمع المدني المرتبطة بالاتفاقيات قد أسسها يهود وإسرائيليون سارعوا للاستجابة لما اعتبروه إثباتًا دامغًا لوجودهم في الشرق الأوسط. بالمقابل، كان نظراؤهم العرب غير مستعدين بعد للمضي قدمًا نظرًا لتعقيدات الوضع على المستوى المحلي، وكانوا يفتقرون للهيكليات الضرورية للانخراط في مجال العلاقات الانسانية.
يتوق الإسرائيليون اليوم إلى استكشاف ثقافات جيرانهم العرب، بعد عزلهم عنهم لفترة طويلة. كما أنهم يرغبون في الترحيب بحفاوة بأهل “اتفاقيات إبراهيم”– ولكن قد لا يكون لديهم الوعي الثقافي للقيام بذلك. أما بالنسبة إلى الجانب العربي، فالرأي العام الماضي والحاضر يجعله أكثر حذرًا. يرحب البعض بروحية التغيير الجديدة هذه، فيما الآخرون غير راضين إلا أنهم يحتفظون بذلك لأنفسهم، ويجاهر الباقون برفضهم من أعلى السطوح. من مختلف الجوانب، من المهم أن نتذكر أنه لا يزال هناك نقص في الألفة مع الآخر، إذ يعمل كل من الطرفين بشكل مختلف ويخضع لحساسيات داخلية مختلفة لايجب الاستخفاف بها.
ولم يكن ذلك الحاجز الوحيد. بالرغم من النوايا الحسنة، جعلت البروتوكولات الأمنية الإسرائيلية وأوجه القصور الإدارية العملية الأساسية المتمثلة بالحصول على تأشيرة صعبة على الإماراتيين والبحرينيين. على عكس الإسرائيليين، الذين يمكنهم الحصول على تأشيرة دخول إلى الإمارات العربية المتحدة أو المغرب أو البحرين من خلال عملية بسيطة على الإنترنت، تتضمن العملية العكسية استمارات ومقابلات معقدة. فالمدنيون الذين حاولوا الحصول على تأشيرة سفر إلى إسرائيل غيروا رأيهم في نهاية المطاف بعد محاولتهم خوض هذه العملية المطولة. وما يؤكد على الطبيعة أحادية الجانب لهذا السفر هو أن واقع الرحلات الجوية بين تل أبيب ودول الخليج يتم تشغيلها بشكل أساسي من قبل الإسرائيليين. وسيشكل هذا الاختلال في التوازن عائقًا ملحوظًا أمام تطوير المعاملة بالمثل مع مرور الوقت.
بالرغم من أن المواطن الإسرائيلي العادي قد يستمتع برؤية العلم الإسرائيلي يلوح في دبي وبقدرته على إيجاد طعام الكوشير هناك، يبدو أن قلة من الإسرائيليين قد فكرت في الأوجه الأخرى لـ« السلام الدافئ » وفي الخطوات الأخرى الواجب اتخاذها لتعزيز العلاقات بين الناس على كلي الجانبين. بالنسبة للشركاء الخليجيين، هناك أشياء أخرى مطلوبة وهي أهم من الصور. فهم يرغبون أن يروا أن الشراكة الجديدة قد نجحت في المساهمة في تحسين حياة الناس في المنطقة وأن إرادتهم في التعامل مع إسرائيل قد أدت إلى إحراز تقدم في مجالات أخرى، بما في ذلك على المستوى الفلسطيني. بعبارة أخرى، بينما استمرت العلاقات بين الناس بالتطور، إلا أنها في بعض الأحيان لا تتماشى مع العملية الرسمية لـ « اتفاقيات إبراهيم ». ولا بد من إصلاح هذا الوضع لمواصلة توطيد هذه العلاقات.
التاريخ مهم ولا يمكن تجاهل عملية الشيطنة المتبادلة على مدى عقود. ومحاولة جمع هذه المجتمعات على أمل أن « ينجح ذلك بطريقة سحرية » لن تحقق نتائج ملحوظة.
كما هي الحال مع أي بذرة أخرى، لا بد من استيفاء بعض الشروط البيئية لازدهار العلاقات الانسانية. على سبيل المثال، من الضروري ضبط درجة الحرارة وقياسها بشكل متكرر عند تطوير « براعم » تعاون جديدة– إذ يجب بناء هذه العلاقات ببطء وحذر للسماح بنمو الجذور الحقيقية. يمكن أن يصاب أي من الجانبين بخيبة أمل إذا أدت الوتيرة السريعة إلى حدوث « عاصفة مرئية » أو لم تلبِ التوقعات غير الواقعية. بدلًا من ذلك، فإن البستنة الدقيقة هي المطلوبة. في هذه المرحلة، يجب أن نعي أيضًا أنه لا ينبغي لنا فصل العلاقات الانسانية عن الصورة الأوسع للعلاقات الناشئة بين الحكومات.
تشير قيمة العلاقات بين الناس إلى ضرورة أن تحظى بالاهتمام والتأييد والدعم من الهيكليات الحكومية ذات الصلة. ففي بيئة تسعى بشكل خاص إلى الحصول على موافقة حكومية رسمية لمعظم الأغراض، من غير المرجح أن تؤدي مخالفة الهيكليات إلى النجاح. ولكن إذا تم دعم عمل المجتمع المدني والعلاقات بين الناس، يمكن أن تكون بمثابة الجسر المطلوب بين مجتمعات المنطقة وتساعد على التعبير عن أوجه التشابه والاختلاف والثقافات وحتى العادات المتعلقة بالحياة اليومية والأعمال. وسيمكننا ذلك من بناء الشراكة التي نحتاجها.
إذا أريد للاتفاقيات أن تنجح، يجب أن نفهم أنه لا بد من تطوير العلاقة بين المجتمعات جنبًا إلى جنب مع العلاقة بين الحكومات. يجب أن يأمل الناس بالتعاون والنجاح المتبادلين ويتشاركوا هذا الأمل- ولكن لا بد من التحلي بدرجة من الحذر والحكمة عند بناء هذه القنوات حتى تنجح. تُعتبر هذه الجهود ممكنة، لا بل أساسية، للفصل الجديد من التاريخ في منطقتنا الذي نسعى إلى كتابته معًا.
*أحمد الخزاعي هو مستشار سياسي في شركة خزاعي أسوشيتس، وهو عضو في منتدى السياسة الخليجية-الإسرائيلية، الذي يجمع باحثين من إسرائيل والخليج.
*الدكتور نير بومس من مؤسسي موقع CyberDissidents.org وزميل باحث في” مركز موشيه دايان لدراسات الشرق الأوسط”.
عرض أكثر من رائع للتحديات ما بعد توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية وكيفية التعامل معها. اشارت هذه الورقة البحثية لنقطة مهمة للغاية وأؤيديها بشدة، وهي أن العلاقات بين الشعوب يمكن أن تجعل اتفاقيات السلام أكثر استمرارية من حصر العلاقات بين الحكومات فقط؛ فالعلاقات الإنسانية مثل الأرض لا تُهدم ولا تتزحزح لكن يمكن من خلال الاعتناء بها ورعايتها أن تصبح أرضا خصبة ومنتجة ويمكنها أن تساع كافة الأجناس والاعراق والاديان. تحياتي لكلا من الكاتبين!