المرحلة الأولى من الثورة أنجزت بنجاح. ماذا بعد ؟ ما هي الخطوات التالية ؟ في هذا المقال نستشرف معالم الطريق.
ثورة متواصلة
هذه ثورة متواصلة، تحقّق أهدافها على مراحل، خَطوةً بخطوة. كل مرحلة لها هدفٌ محدّد. عندما يتم تحقيقه ننتقل الى الهدف التالي.
المرحلة الأولى : إستقالة الحكومة
في المرحلة الأولى، كان الهدف إستقالة الحكومة. لماذا الحكومة على وجه التحديد ؟ لأنها السلطة التنفيذية. الحكومة هي الهيئة التي تضع السياسة العامة للدولة وتتحمّل المسؤولية. إستقالة الحكومة هي الإجراء الدستوري الطبيعي. وهي المدخل الإلزامي لأي تغيير لاحق.
الشعارات المُغالية التي كانت تُطالب باستقالة الحكومة وإقالة رئيس الجمهورية وحلّ مجلس النواب في آن معاً، ما يؤدي الى شغورٍ كاملٍ في الدولة لا يملؤه إلا السلاح، تدخل في باب المراهقة السياسية والحماس الزائد. وقد تم تجاوزها.
المرحلة الثانية : تشكيل حكومة إنقاذ
بعد إستقالة الحكومة، تبدأ معركة جديدة، هي الأصعب : معركة فرض حكومة تليق بالثورة. حكومة شجعان، من خارج الطاقم السياسي، تحمل آمال اللبنانيين، وتكون قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية في مرحلة بالغة الدّقة.
نسمّيها حكومة إنقاذ. ولا نقول “حكومة أخصّائيين“، لأنه تعبير غير موفّق. نتجنّب كذلك التعبير المبتذل ”حكومة تكنوقراط“، الذي يحمل المعنى نفسه. والسبب هو أن معيار إختيار الوزراء يجب أن يكون الجُرأة والحِنكة السياسية وحصافة الرأي، وليس المهارة التقنية فحسب. السمكري الذي يأتي لتصليح بالوعة مسدودة هو أخصائي ايضاً. وحتى لو أخذنا أخصّائياً من مستوىً أعلى، فإنه قد يفتقر الى الكفاءة السياسية. وقد يكون متردّداً، ضعيفاً، يسهل تخويفه والتحكّم به. كيف يُمكننا أن نسلّم مقاليد السلطة الى أمثاله ؟ الجُرأة والصلابة والعزيمة والروح الثورية أكثر أهمية في هذه المرحلة من الخبرة التقنية.
الحصول على حكومة إنقاذ تفي بالغرض لن يكون سهلاً. ستفعل السلطة كل ما في وسعها لاحتواء الثورة وحصر نتائجها. ولن تستسلم قبل استنفاد جميع الوسائل المتاحة لها، حتى القذرة منها. لا يمكننا التنبؤ بدقة بما ستفعله، وبكل الحيَل التي قد تلجأ اليها، وفي جعبتها الكثير. في البداية، قد تقول لجمهور الثورة ما معناه: ”لقد سمعناكم جيداً. إرفعوا الينا مطالبكم. ونحن نتكفّل بتحقيقها.“ طبعاً، هذا إستخفافٌ بالعقول. ثم تلجأ الى خدعة أخرى، أكثر مكراً : تشكيلة حكومية من أسماء غير منفّرة، قليلة الخبرة في السياسة، لا تشكّل خطراً عليها، بعضها نزيه لكن ضعيف، وبعضها دمى لأهل السلطة. وهي تأمل بذلك في استرضاء الناس بتكلفة قليلة. هذا امتحانٌ للثورة وذكائها. إمتحانٌ يقرر مصيرها. على الثورة أن تقول، نيابة عن الملايين التي نزلت الى الساحات : “لا. هذا لا ينفع. هؤلاء الخِصيان لا يمثّلون الثورة“.
أمامنا مرحلة شدّ وجذب لتحصيل أفضل حكومة ممكنة. الحل الأمثل، بالتأكيد، هو حكومة لصالح الثورة مئة بالمئة. لا يجب أن نتنازل كثيراً. طوال هذه الفترة، الثورة تفاوض معزّزة بحضورها في الشارع. وسيكون عليها أن تذكّر السلطة على الدوام بأنها موجودة، وبصحّة جيدة.
إذا أحسنّا التفاوض، وعرفنا كيف نقول لا كلّما لزم الأمر، نفرض حكومة غالبيتها من الشجعان. حكومة يُمكن الإعتماد عليها في المرحلة التالية. وإلا تسقط الثورة في هذه المرحلة.
لكن من يفاوض بإسم الثورة؟ التحدي هو أن تتمكن الثورة من تشكيل فريق تفاوض مصغّر يضمّ شخصيات تتمتّع بالعقل الراجح وحسن التقدير. ومن المستحسن، إذا أردنا الربح، أن يكون فريقاً من الصقور.
المرحلة الثالثة : حكومة الإنقاذ
حكومة الإنقاذ ليست مجرّد حكومة إنتقالية مهمّتها الوحيدة التحضير لانتخابات مبكّرة.
أمام حكومة الإنقاذ مهمة كبيرة: إخراج لبنان من الأزمة التي هو فيها، والنهوض به من جديد، والشروع في إصلاحاتٍ طال انتظارها، والتحضير لانتخابات نيابية مبكّرة في غضون سنة.
الثورة يجب أن تحتضن حكومة الإنقاذ، إذا كانت مُمثّلة فيها بشكل جيّد، وتكون قاطرتها.
بطبيعة الحال، لا يُمكننا أن نستبق جميع المشاكل التي ستواجه هذه الحكومة. ولا أن نقول لها منذ الآن ما يجب أن تفعله. إجتثاث الفساد، واسترداد ما أمكن من الأموال المنهوبة، ووضع نظام إنتخابي يشبه الأنظمة الموجودة في العالم، هي البداية. على أمل أن يتحوّل لبنان الى ورشة إصلاحٍ كبرى يشارك فيها الناس، والشباب بوجه خاص، بأفكارهم وإقتراحاتهم.
الثورة وكثرة الكلام
في الثورات، لا يجوز الإكثار من الكلام. فكلما زاد الكلام، زاد إحتمال الخطأ.
لكل مرحلة شعاراتها. لا ينفع أن نطرح شعارات سابقة لأوانها، فيختلط الأمر على الناس، ويغيب عن نظرهم الهدف المباشر.
كذلك لا فائدة من أن نستفيض في وضع البرامج والخطط المستقبلية، ونبذل الجهد في مناقشتها، وربما نختلف عليها ونتفرّق، قبل أن نصبح في موقعٍ يسمح لنا بوضعها موضع التنفيذ.
منذ بداية الثورة، رفعت مجموعات كثيرة لوائح بمطالبها. منها ما هو بديهي، ومنها ما يفتقر الى الحكمة السياسية، ومنها ما هو خيالي وغير قابل للتحقيق. وبغضّ النظر عن صحة هذه المطالب، لا بد من ملاحظة، للتصويب. من يرفع المطالب؟ إن المتظاهرين هم الذين يرفعون المطالب عادة الى السلطة. ويحاولون الضغط من أجل تحقيقها. لكننا لسنا في مظاهرة هذه المرة. نحن في ثورة. الشباب المتحمّس الذي يرفع المطالب ما زال يفكّر وفقاً للذهنية القديمة. لم يُدرك بعد أنها ثورة. الثورة لا ترفع مطالب. ولا تتوسل أحداً من اجل تحقيقها. الثورة تريد السلطة. ليس أقلّ من ذلك. وعندما تصل الى السلطة، تنفّذ إرادة الشعب، وتأخذ برأيه، وتفعل ما تعتقد أنه في مصلحته.
ثورة واعدة
ما حدث ليس انتفاضة عابرة. إنه ثورة حقيقية.
إنطلقت الثورة بصورة عفوية. ما من فريق سياسي دعا اليها. تحرّكَ الناس من تلقاء أنفسهم. وهذه العفوية بالذات كانت سرّ نجاح الثورة حتى الآن، وإمتدادها الى كافة المناطق. لقد شعر المواطنون بحق بأن الثورة هي وليدتهم، ولا أحد غيرهم. وأنهم، للمرة الأولى في تاريخهم، يُمسكون بزمام مصيرهم.
الطابع العفوي لهذه الثورة، وكونها لم تبدأ بإيعاز من أحد، وليست تحت إمرة أحد، يجعل منها ثورة صعبة المراس، لا يُمكن خِداعُها بسهولة، ولا ترضى بالقليل الذي لا يُطفئ ظمأ الشعب الثائر. أي عرضٍ من السلطة يعتبره الثوار أقل مما يُمكنهم الحصول عليه لن يكون مقبولاً. وأي تنازلٍ غير مبرّر يقدّمه البعض، بإسم الثورة، سوف يواجَه بالرفض من قِبل الكثيرين، ويُنعت أصحابه بالإنتهازية، ويُنبذون.
الراديكالية هي في صلب هذه الثورة. لا تتجلّى فقط في الشعارات القصوى التي رفعها الثوار، او في الإصرار الذي أظهروه، إنما تنبع، بشكل أساسي، من طابعها العفوي والتحرّري.
- بيروت- استاذ الفلسفة والعلوم السياسية