لا يزال البعض، وهم كُثر، مصرّين على أن يكون موقفهم من القضية الفلسطينية ومن حقوق الفلسطينيين مرتبطا بظروف ما قبل مفاوضات أوسلو التي جرت في تسعينات القرن الماضي. ففي تلك المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية تغيّرت وجهة نظر الفلسطيني من مشروعية وجود دولة إسرائيل، من عدم اعتراف، إلى اعتراف بهذا الوجود.
بمعنى أن الفلسطينيين، انطلاقا من أوسلو، ومرورا بالقرارات الدولية، واستنادا إلى المشاريع العربية المساندة، قبلوا بحل الدولتين، واعترفوا بمشروعية وجود الدولة الإسرائيلية مقابل قيام دولة فلسطينية.
انطلاقا من هذا الاعتراف، انتهى اوتوماتيكيا الشعار الذي لا يزال يتبناه التيار العروبي/الديني اليوم والذي يعتبر الاعتراف بإسرائيل خيانة، وبات أي مسعى للتطبيع مع إسرائيل مشروعا وخارج إطار مفهوم الخيانة. فصاحب القضية هو الذي يحدد البوصلة الموصلة إلى الحل. فحينما يقبل بوجود دولتين، يكون قد قبل بأن يضع حداً للمساومات بشأن تخوين المعترف بإسرائيل.
بعبارة أوضح، فإن وجود علاقة بين إسرائيل وبين دول العالم الحر، وكذلك بينها وبين دول العالم الثاني والثالث، علاقة مبنية على قرارات الأمم المتحدة أولا، ثم على قرار اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل انطلاقا من أوسلو، إن تلك العلاقة تضع مشروعية أخلاقية واضحة على موضوع التطبيع، وتجعل أي مسعى لتخوين من يقوم بذلك ضربا من اللامنطق.
فإذا كان بعض العروبيين/الإسلاميين يصفون مساعي مواطنين للتطبيع مع إسرائيل بناء على ما تم ذكره، بأنه “خيانة”، وخطوة “غير أخلاقية”، فالأولى بهم أن يصفوا جميع دول العالم الحر ودول العالم الثاني والثالث ممن لديهم علاقات مع إسرائيل بأنهم خونة وغير أخلاقيين!
فهل يمكن أن يكون هذا الطرح عقلانيا؟
إن وصف “الخيانة”، والذي يعني فيما يعنيه إقصاء كل من يختلف معي في الحلول المطروحة لمعالجة القضية الفلسطينية والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، ولو كان من ضمن هؤلاء الفلسطيني صاحب القضية، لا يعني فحسب رفض الحلول المختلفة أو المخالفة وإقصاء أصحابها، إنما يعني أيضا أن الحلول المتبناة من جهة معينة تعكس الحقيقة غير القابلة للتغيير. أو بتعبير آخر، تعكس الحقيقة المطلقة والخير المطلق والوصاية المطلقة، وأن الحلول المختلفة أو المخالفة ليست إلا كذبا مطلقا وشرا مطلقا، على الرغم من وجود حلول متباينة بين الفلسطينيين أنفسهم.
إن “التخوين” كتهمة لا تختلف إن صح التعبير عن مرادفتها تهمة “التكفير” في مسعى الإقصاء. فهما يحرّضان على تحقير صاحب الرأي المخالف والاعتداء عليه، وقد يبرّران استخدام العنف ضده. أي أن “العنف الرمزي والعنف المادي” حاضران في التهمتين. لذا نحن أمام حالة من الهلع متعددة التمظهر. هلع من استخدام العنف الرمزي والمادي ضد المتهم بالتخوين بسبب اختلاف الرأي، وهلع من انتشار هذه الثقافة في المجتمع، ثم هلع من عدم اكتراث متبني مفهوم الخيانة ومطلقي تهمة التخوين من التناقض المفاهيمي الذي يعيشونه.
إننا لسنا في وارد مواجهة بعض الأصوات الفردية التي تطلق مثل تلك الاتهامات، بل في مواجهة ظاهرة ثقافية/مجتمعية خطيرة، يؤدي سلوكها إلى تبني ما تمارسه الحكومات المستبدة. فنحن أمام مسلك اجتماعي تأسس نتيجة لعدم معالجة مفهوم الاستبداد بصورة جذرية، إ
ذ آثرنا مصارعة المفهوم لأسباب مصلحية لا لأسباب معرفية، فكان المستبد الحكومي محل إدانة، فيما المستبد الخارج من عباءة الثقافة المؤدلجة، كفرد ثم كجماعة، كان محل ترحيب.