أنقرة استفادت ملياً من انقسام قادة الاتحاد الأوروبي حول الإستراتيجية التي يجب تبنيها في ما يتعلق بـ”الحليف التركي الإشكالي”.
يندفع الاتحاد الأوروبي في مسعاه لاسترضاء تركيا أردوغان بأي ثمن بالرغم من تجاذب يطغى على صلات الطرفين ونزاع حول أكثر من ملف. وبينما كانت بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي الرئيسي) تطرح توجهاً أكثر إيجابية مع أنقرة، بدا التطبيع المنشود بين الاتحاد الأوروبي وتركيا مستحيلا حتى إشعار آخر. والدليل ما حصل من “إهانة” لرئيسة المفوضية الأوروبية عند زيارتها الأخيرة لتركيا وتوصيف رئيس الحكومة الإيطالية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالدكتاتور، وأضف إلى ذلك الأداء التركي والحساسية الأوروبية حياله. ولذا تبدو آفاق العلاقات الثنائية غير واعدة وتحمل سحب الخلاف.
بعد سنة من التوتر وبعد طي التلويح بالعقوبات، أراد الاتحاد الأوروبي فتح صفحة جديدة مع أنقرة متناسيا الكثير من النزاعات والانتهاكات التركية لمنظومة القيم التي تزعم أوروبا الدفاع عنه. لكن هذا الاندفاع الأوروبي لم تتحمس له أنقرة وتفاقمت الأمور مع الإهانة التي تعرضت لها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين (التي كانت ضمن وفد أوروبي رفيع المستوى) في السادس من أبريل في أنقرة حيث تم تخصيص مقعدين مستقلين لكل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الاتحاد الأوروبي شارل ميشال، بينما لم يتم معاملة فون دير لاين (وزيرة الدفاع الألمانية السابقة) بالمثل واضطرت للجلوس على أريكة جانبية بعد عدم التمكن من إخفاء ذهولها تجاه هذا التصرف الذي أطلقت عليه الصحافة الأوروبية لقب فضيحة “كنبة غيت” (أو أريكة غيت) الذي أدانه الاتحاد الأوروبي.
أما أحد السياسيين الفرنسيين، الذي صوّب على تراخي الاتحاد الأوروبي وضعفه المزمن، فقد شبه ما حصل في قصر أنقرة بلوحة يمكن أن يطلق عليها اسم “الاستسلام”. من جهتها، ردت وزارة الخارجية التركية بتحميل الاتحاد الأوروبي مسؤولية الإشكال البروتوكولي مؤكدة أن ترتيب المقاعد موضع الجدل كان اقترحه الجانب الأوروبي. ولكن ذلك لا يبدو مقنعاً. وفي ما يتعدى إهمال أو عدم تنبه موظفين، هناك ما ينم عن استهتار تركي بالاتحاد الأوروبي ورموزه، وعدم تقدير للخطوات الإيجابية من قبل بروكسل.
قبل تسليط الضوء على الحادث البروتوكولي، يمكن القول إن أردوغان حظي بتعامل تفضيلي لم يلقه أنداده من رؤساء الدول. إذ جاءه في أنقرة وفد من أعلى القيادات ضم رئيس المجلس الأوروبي ورئيسة المفوضية وذلك من أجل ترتيب العلاقات الثنائية في وقت تتعرض فيه تركيا للعقوبات الأميركية ويتعثر اقتصادها. تدهورت الصلات الأوروبية – التركية وتمثل ذلك في ابتزاز أنقرة لأوروبا في مسألتي المهاجرين واللاجئين، وفي صراعات النفوذ والطاقة من شرق المتوسط إلى ليبيا والقوقاز (وإرسال مرتزقة مدعومين من أنقرة)، وتفاقمت التناقضات مع اتهامات موجهة لأنقرة بالتدخل في شؤون الدول الأوروبية وسعيها لاستخدام بعدها الإسلامي ونفوذها لدى المسلمين ومنهم الأوروبيون من أصول تركية.
وأدى الموقف الفرنسي المتضامن مع اليونان وقبرص في التصدي لطموحات أردوغان، وأدى التهديد الأوروبي بالعقوبات ووصول إدارة بايدن والوضع الاقتصادي التركي إلى نقلة أردوغانية تكتيكية مع خطوات تصالحية تجاه اليونان وقبرص، واستدعاء السفن التركية التي كانت تنقب عن حقول الغاز اليونانية والقبرصية في البحر المتوسط، واستئناف المحادثات المباشرة بين أثينا وأنقرة.
تبعاً لذلك اعتبر الجانب الأوروبي أنها فرصة لتمديد اتفاقية 2016 بشأن تدفقات الهجرة، وهذا يوقف الابتزاز ويخفف من الهواجس التي تبديها غالبية الدول الأوروبية. هكذا أراد السبعة والعشرون استئناف علاقة سليمة مع أنقرة “الشريك المهم”، لاسيما في موضوع استضافة اللاجئين. ويعتبر هذا الموضوع “كعب أخيل” (نقطة ضعف) الجانب الأوروبي بالرغم من أن كل الضجيج حول موجة 2014 – 2015 كان مضخماً خاصة أن ألمانيا البلد الأكثر استقبالاً للاجئين السوريين كانت تشكو من نقص ديموغرافي مقلق. وخلال مباحثات أنقرة عبّر رئيس الاتحاد شارل ميشال عن الامتنان لتركيا على استقبال 3.6 مليون سوري، لكن أنقرة ركزت على احترام بروكسل لتعهداتها بدفع 6 مليارات يورو مقابل وقف تدفقات الهجرة واللجوء. ومن هنا كان تمديد اتفاقية 2016 من أبرز نقاط البحث مقابل تأمين استمرار التمويل الأوروبي.
بالإضافة إلى ذلك، تحاول المفوضية الأوروبية إبداء الاستعداد لخطوات ملموسة مع اقتراح تحديث محتمل لاتفاقية الاتحاد الجمركي من أجل وصول تركي أوسع إلى السوق الأوروبية. وهذه العملية التطبيعية ستكون حسب الجانب الأوروبي “عملية تدريجية ومتناسبة وقابلة للعكس”.
لكن أوساطاً أوروبية تأسف أن يتفوق تمسك الاتحاد بعلاقة مستقرة مع تركيا على أهمية احترام أنقرة لسيادة القانون وخاصة بعد حملة القمع الواسعة منذ إحباط محاولة الانقلاب في 2016، وأخيراً يزداد التعسف مع قيام السلطات التركية بإجراءات قانونية لحظر حزب الشعوب الديمقراطي (ثاني قوة معارضة في البرلمان في تحد لستة ملايين ناخب صوتوا لهذا التشكيل في الانتخابات التشريعية لعام 2018). وتحدى أردوغان الاتحاد الأوروبي مع إعلانه في 20 مارس الماضي عن الانسحاب من اتفاقية إسطنبول (معاهدة أوروبية تهدف إلى حماية النساء من العنف)، وبالرغم من تشديد الاتحاد على أن “قضية حقوق الإنسان غير قابلة للتفاوض”، يبدو أن تعويل الاتحاد الأوروبي على تركيا في الحد من الهجرة يؤثر على مواقفه ومصداقيته. وفي هذا الخصوص ينتقد الكثير من الساسة الأوروبيين مؤسسات الاتحاد المنكشف إستراتيجيا لأن عدم السيطرة على الحدود الخارجية يجعل الاتحاد الأوروبي في موقع ضعيف أمام تركيا.
يمكن القول إن أنقرة استفادت ملياً من انقسام قادة الاتحاد الأوروبي حول الإستراتيجية التي يجب تبنيها في ما يتعلق بـ”الحليف التركي الإشكالي”. إذ بينما كان موقف بعض الدول الأعضاء مثل فرنسا واليونان وقبرص متشددا، ركزت دول أخرى مثل ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا على مبادرات دبلوماسية لتهدئة الحماسة الحربية لأردوغان، ولأنها كانت تنظر إلى تركيا كحليف إستراتيجي أساسي وحارس للحدود الأوروبية!
هذا الضعف والانقسام الأوروبيان سمحا للسلطان أردوغان أن يناور ويتنمر على مستشارة ألمانيا متهماً إياها بالنازية الجديدة، أو يقرع الرئيس الفرنسي ماكرون من دون مبالاة بالانعكاسات. وكل هذا التهاون الأوروبي قلص النفوذ الأوروبي في المتوسط وأكد على كسوف دور القارة القديمة في المعادلة الدولية الجديدة، والآن يبدو التطبيع مع أردوغان رهاناً عبثياً ومستحيلاً إذا لم ينطلق من قواعد صحيحة ومن دون مساومة.