لم يكن لأيّ منا تصوُّر، لما يمكن أن تكون عليه مقاطعة ويستفاليا، إذ لم يزرها أحد منَّا من قبل. جلست بجوار سيسي، بينما اتخذ أمير وزياد المقعد التالي لنا. المسافة أكثر من أربعمائة كيلومترًا، وأدت هزات القطار الخفيفة المتتابعة، إلى أن يذهبا في نوم عميق خلال بضع دقائق. التفتّ نحو سيسي وسألتها:
“يوم تلاقينا في بودابست، لمَّحتِ إلى أنك ترعين أسرة وأولاد، فهل كان هذا صحيحًا؟”
اتجهت نحوي، ثم ابتسمت لبرهة، ولكن سرعان ما ألبست وجهها مسحة كانت مزيجا من الجدية والحزن. ظلّت صامتة لفترة، ثم قالت:
“هذا صحيح يا سيد عاطف؛ لي ابن، وهو رجلٌ في الثامنة والعشرين من عمره، ولكنه يعيش معي. أعني أنه عاطل، لا يعمل، بلا أسرة، أو أبناء، وفوق ذلك هو مدمن مخدرات!” أطرقت قليلًا، ولكنها أضافت: “وهو يسرق ممتلكاتي ليبيعها، أو أموالي التي قد أجمعها من العزف، وإن امتنعت، يضربني ويهينني…”
من وراء النظارة السوداء، بدأت الدموع تزحف فوق خديها، فشعرت بالأسى لحالها، وبالندم لأني سألتها. لكني لم أتوقع أن يثير سؤالي البسيط ذاك، كل تلك المواجع. وددت لو أربت فوق كتفها، أو أمسح شعرها الفضي، أو حتى أضم كفها الصغيرة بين يديّ، لأخفف عنها، لكنني لم أجرؤ أن ألمسها، لئلا تسيء الفهم بي. وكأن سيسي اكتشفت ما دار بخلدي، فمدت يسراها نحوي، وقبضت بكفي، بينما أخذت تمسح بيمينها الدمع عن وجهها.
ربتُّ برفق فوق كفها، وأنا أقول لها:
“لستِ وحدك في معاناتك يا سيسي، فكلنا نكابد مشاكلنا في صمت. أنا أيضًا يعذبني الاكتئاب، وتقتلني الوحدة، بعد أن رحلت عني زوجتي!”
أدارت وجهَها نحوي، وهي تسأل بدفء:
“هل تركَتك؟”
“نعم، تركتني… إلى الأبد!”
“ماتت؟ أُوه! أنا آسفة جدًا.”
التفتُّ نحوها، وشرعت أقول لها بكل صدق:
“أشكرك يا سيسي، ولكنني أرجوك أن تدركي أنّ لكل منَّا حملا يثقل أكتافه، لذلك ارتحلنا من شتى البلدان، لعلنا نعثر على راحة ما، عن مَخرج من أحمالنا تلك. أو ربما نحن ـ برمّتنا ـ نبحث عن المخلص… من يدري؟ فها نحن في طريقنا إلى ألمانيا، لنفتش في مقاطعة لم أسمع بها من قبل، لعلنا نجد المدعو كانديد!” سكتُّ قليلًا وتنهدت، ثم وجدتني أضيف رغمًا مني: “أتمنى يا سيسي أن نظل نبحث ونبحث عن كانديد هذا، ولا نعثر عليه أبدًا. أتدرين ما السبب؟” لم تردّ سيسي، فأضَفتُ: “لأنني أخشى أن نجده، فنكتشف أنّ الألم، والحزن، والحمل الثقيل ما يزال رازحًا فوق صدورنا. ماذا نفعل عندها يا ترى؟ أنبحث لنا عن كانديد جديد؟ أم نسَلّم بوجوب الخوض في تلك الحياة البائسة التي نحياها بلا كانديد ينقذنا؟ لعلنا نبحث ساعتها عن الموت، فهو أهون على أيّ حال!”
تشجعَت سيسي أخيرًا، فضغطَت برفق فوق يدي، وعقَّبت:
“أنا آسفة بدوري يا سيد عاطف، إذ أثرت كل تلك الأحزان المكنونة… ألم يكن أجدر بنا أن نظل صامتَين، ولا نكشف الضمادات، التي نخبّئ تحتها جروحنا المتقيحة؟”
تعمدت ألا أردّ هذه المرَّة، بل تلفتُّ نحو نافذة القطار وصرت أتابع الحقول الخضر المترامية والبيوت الخشبية المتناثرة، ومختلف الزروع الملونة في مستطيلات متلاحقة. كأننا نعبر خلال لوحة للفنان الهولندي فان جوخ، رغم كوننا نقطع ألمانيا ـ وليس هولندا ـ عرضًا باتجاه “شتاينهايم”.
كانت محطة القطار جميلة وذات سقفٍ مرتفع، قائمٍ فوق ألواح خشبية، صانعة بتقاطعاتها أشكالًا هندسية، مماثلةً لواجهات البيوت بالمنطقة. وزينت جدارياتها بخرائط للمنطقة الشمالية الغربية من ألمانيا وبحر الشمال. كانت البلدة صغيرة، ولم تكن منطقة سياحية، بالمعنى المعروف.
كان الهواء بالخارج نقيًّا وباردًا، رغم أننا في فصل الصيف. لم تكن بحوزتنا خطة واضحة للبحث، فاقترح زياد أن نتجه إلى مطعم لنأكل شيئًا ونتدارس الموقف. تبدلت حالتنا النفسية، من الكآبة التي كانت قد أرخت إسبالها فوقنا خلال رحلة القطار، فعادت الفكاهات والمداعبات تتواتر مجددًا. فسأل زياد فجأة:
“أيّ المطاعم تفضلون؟”
فقهقه الجميع، إذ لم يكن هناك سوى مطعم وحيد، في ما بدا ميدانًا أوحد كذلك، تحفه من الناحية الأبعد كنيسة منمنمة. كان الميدان شديد النظافة، وقامت بعض المنازل ذات الواجهات المحلاة بألواح الخشب الداكنة، مكتنفةً لبقية الميدان، وكانت تلك المنازل في شكل مربعات ومستطيلات عرفنا فيما بعد أنها كانت علامات مميزة للبناء في تلك المنطقة من ألمانيا. لم يكن ثمة شخص واحد في الطريق، وكأنها مدينة مهجورة، أو كأنها موقع للتصوير شيد من أجل مشهد ما، ثم انفض عنه العاملون بعد الانتهاء من التصوير.
دخلنا المطعم بحذر، متوقعين أن يصير خاليًا بالمثل، لكننا فوجئنا بأنه مكتظ بالزبائن، وكأن أهل البلدة قد تجمعوا برمتهم داخله. أدركنا ـ لحسن حظنا ـ أن سيسي كانت تتقن الحديث بالألمانية حين تقدمتنا، وطلبت من المضيفة منضدةً لأربعة أشخاص. استقبلتنا المضيفة البيضاء البضة مستغربة وجودنا ببلدتهم، تلك التي لم توحِ بأنهم يألفون وجود السياح، الأجانب عنهم. ومع ذلك، فقد اقتبلتنا بابتسامة محايدة، وإن اعتذرت لامتلاء المطعم، إلا عن منضدة وحيدة إلى جوار المطبخ. كان البديل أن ننتظر نحو نصف ساعة، حتى تخلو طاولة أخرى. لم نتردد بالطبع، فأخذنا تلك التي بجوار المطبخ. علَّق أمير ضاحكًا ونحن نجلس إليها:
“الموقع فريد! على الأقل نضمن عدم تأخر طلباتنا!”
قدمت الطعام لنا سيدة أربعينية سمينة، تعلو وجهها جدية وصرامة وكأنها مديرة بنك. لم تكن هناك قائمة للطعام، لكنها وضعت في وسط المائدة، صحنًا كبيرًا من البطاطس المهروسة وخضار تشبه الفاصوليا لكنها طويلة للغاية، ثم جاءت بأربعة أطباق تتوسط كل منها قطعة من اللحم، عائمة في صلصة بنية اللون، ووضعت أمام كل واحد منا طبقًا. لكنّ الأشهى كان أربع كاسات مهولة من البيرة تعلوها طبقة سميكة من الرغوة تنضح بطزاجتها.
أكلنا وشربنا في هدوء أولًا، ثم لمَّا أوشكنا على الامتلاء بدأ الحوار بسؤال أمير:
“هل نبادر بسؤال المرأة عن قصر البارون ’ثاندر ـ تن ـ ترونخ‘، أبي ليدي كوناجوند؟”
ردت سيسي بسرعة:
“لكنّ القصر تَهدَّم في الرواية!”
فانكفأ رأس أمير أمامه، ورد بيأس:
“هذا حقيقي! ماذا نفعل إذن؟”
هنا قالت سيسي بحماسة:
“السؤال هو ما الذي يفعله كانديد، إذا جاء إلى هنا باحثًا عن عائلة ليدي كوناجوند في مقاطعة ’ويستفاليا‘، ما الذي يسأل عنه، وكيف يبدأ البحث؟”
ابتسمتُ أنا وقلتُ مؤيدًا:
“أحسنتِ يا سيسي! وبما أن هذا الكلام مضى عليه أكثر من مائتي عام، فلا يمكن أن نتوقع أن يعرف أحد بأمر قصر البارون ذاك!”
وهنا أضافت سيسي قائلة:
“وبما أنّ ليدي كوناجوند شخصية روائية في الأصل، أي اختراع من صنع فولتير، فلا يمكن أن نتوقع أن تكون لها عائلة بالمعني الشائع. كل ما نعرفه عن العائلة ـ عن طريق الرواية ـ أنّ كانديد ربما كان ابنًا غير شرعي لأخت البارون! إذن، فلا بد أن يكونا قد جاءا إلى هنا للاستطلاع عن أهل المقاطعة بشكل عام، أو لاستكشاف إن كانت معاملاتهم اليوم قد تغيرت عما كانت عليه قبل قرنين من الزمان، أو شيء من هذا القبيل!”
وسرعان ما علَّق زياد قائلًا:
“إذن فربما يكونان ها هنا بين كل هؤلاء الجالسين من حولنا! حسن، دعوني أمر بين زبائن المطعم منضدة، منضدة، فأتفحص كل الوجوه ثم أعود إليكم بالخبر اليقين.”
وهنا هبَّ أمير واقفًا، وقال:
“لا، بل أذهب أنا، فلقد واجهته وسلمت عليه في المعبد اليهودي، وأنا متأكد من التعرف عليه، لو كان موجودًا الآن بالمطعم.”
لم يترك أمير فرصة لزياد، أو لأيّ منا حتى نعارضه، بل انطلق كالسهم يدور بشتى أرجاء المطعم متفحصًا أوجه الجلوس بصرامته المعهودة، مما أثار تذمر البعض، فوقف شاب معترضًا طريقه، وكاد أن يشتبك معه، لولا أني لاحظت ذلك، فطلبت من سيسي أن تقوم فورًا معي لإنقاذ الموقف قبل أن يتطور. اصطحبتها بسرعة إلى حيث مكان المواجهة، وبالفعل اعتذَرت بلباقة للشاب، وأبلغته أننا نبحث عن شخص غريب عن ويستفاليا قد يكون موجودًا بالمطعم الآن.
هنا صاحت سيدة من المائدة المقابلة بالألمانية: “أتقصدين كانديد؟” فترجمت لنا سيسي، ثم أومأت للمرأة مؤيدة. شرعت تتكلم مع سيسي لبضع دقائق، وهي تهز رأسها موافقة، وفي النهاية ابتسمت لها شاكرة، ثم تقدمتنا نحو منضدتنا وهي تخبط بعصاها الرفيع. جلست بهدوء، وأشعلت سيجارة، وبينما هي تنفث دخانها، عاجلها أمير وقد نفد صبره:
“هاتِ ما عندِك يا سيسي! ماذا قالت لك المرأة؟ أم تودين أن ننتظر إلى الغد، قبل أن تُبلغينا؟”
ضحكت سيسي ساخرة:
“عندنا مثل يقول عيناه جميلتان، لكن قلبه هو الشيطان!” فضحكنا كلنا، وحتى أمير شاركنا، حين أدرك أنه بالغ في إلحاحه. وهنا أضافت سيسي قائلة:
“قالت السيدة إن كانديد وامرأته، وأخاها، وشيخًا معهم ـ قد يكون بانجلوس على ما أعتقد ـ قد حضروا بالفعل إلى شتاينهايم قبل يوم أو اثنين. قالت أيضًا إنهم سألوها عن قصر قديم للبارون ’ثاندر ـ تن ـ ترونخ‘، لكنها بالطبع لم تعرف عنه شيئًا، بل سألت بدورها أصدقاءها ومعارفها بلا جدوى. فما كان من كانديد وأصحابه إلا أن اتجهوا من جديد إلى محطة القطار، متجهين إلى مدينة ’مُنستر‘ القريبة، إذ أشارت إليهم أنهم قد يجدون من يدلهم إلى ضالتهم هناك، لأنها مركز ثقافي كبير، وبها جامعة معتبرة.”
زفرتُ يائسًا وأنا أفكر في نفسي: “يبدو أنّ لعنتي التي صببتها فوق رؤوسنا، وأفضيت بها إلى سيسي في القطار، بشأن عدم عثورنا على كانديد هذا، في طريقها إلى التحقق!”
لكن سرعان ما غيرت سيسي من مزاجنا الغائم هذا، بأن هبّت واقفة فجأة، ثم قالت:
“يجب أن نكافئ هؤلاء الناس الطيبين على معاونتهم لنا بالعزف. هيا يا أمير، قم أنت أيضًا، وارسم لهم بورتريهاتك الرائعة!”
وفعلًا، قام الاثنان، وشرعا يعرضان فنهما، فلقيا ترحيبًا منقطع النظير من أهل “شتاينهايم” البسطاء الذين صفقوا وطربوا ورقصوا وشربوا نخب الفنانين. ورفض كلاهما تلقي أيّ مقابل نقدي من الحاضرين. وفي النهاية، رافقنا إلى محطة القطار عدد لا بأس به منهم، وصاروا يودعوننا بحرارة كأننا أصدقاء قدامى. والشاب الذي كاد أن يعارك أمير، صار يربت على كتفه شاكرًا إياه على الرسم الذي أهداه إياه.
بعد أن انصرفوا، وخلال بضع دقائق من انطلاق القطار بنا، قال زياد:
“أنا لم أر من الألمان مثل تلك الحرارة طيلة حياتي!”
فعقبت سيسي:
“هذا صحيح يا زياد، فأهل الشمال في العادة أكثر تحفظًا من هذا بمراحل!”
اتخذنا أربعة مقاعد متواجهة، فكان ذاك مفتاحًا لسفرة أكثر دفئًا من رحلتنا إلى “شتاينهايم”. وكالعادة، بادر زياد بقوله:
“أود أن أطلب منك يا أمير أن ترسم بورتريه لـ كانديد، الآن، وصورته ما تزال صافية في ذهنك، وقبل أن تذوي مع الأيام والأحداث المتعاقبة.”
وعلى الفور استحسنَّا الفكرة، سيسي وأنا، فما كان من أمير إلا واستجاب، رغم أنّ زياد كان صاحب الاقتراح. فتح دفتره، وأخرج أقلامه وألوانه، وشرع يرسم خطوطه ودوائره، وخلال دقائق كان قد انتهى من الرسم. لكنّ الغريب أن صورة كانديد في ذهني، وفي مخيّلة زياد، اختلفت عما رسمه أمير الذي أصر على أنّ رسمه يعبّر بمنتهى الدقة عن كانديد الذي تحدّث إليه، وشد على يده لبرهة، قبل بضعة أيام.
سرعان ما وصلنا إلى “مُنستر” التي كانت قريبةً من “شتاينهايم” فعلًا. لكن شتان ما بين البلدين من مظاهر حضارية! فهذه كانت مدينة كبيرة حقًا، بالمعنى الشائع، مدينة مزدهرة بالسكان، والمباني العالية، والسيارات بأنواعها. ما إن خرجنا من محطة القطار ذات الواجهة الزجاجية الحديثة، إلى الطريق العام بسياراته وحافلاته التي عجّ بها، حتى صافحتنا رائحة كباب شرقية أصيلة. تلفتنا، فإذا مصدر تلك الرائحة الجذابة عربةٌ صغيرة، مصطفة بجانب الرصيف. وبالرغم من أننا قد تناولنا الطعام لتوّنا في مطعم البلدة بـ “شتاينهايم” قبل نحو ساعتين، فإنّ الرائحة استعصت مقاومتها علينا. وبالفعل أغرى أمير سيسي قائلًا:
“ما رأيك يا سيسي في لفافة من قطع الكباب الشرقي العائمة في بحر من سلطة الطحينة؟”
ضحكت المرأة وهي تقول:
“مع أنني لا أفهم حرفًا مما تقوله، فإنّ الرائحة مغرية فعلًا!”
فأجابها أمير:
“حسنٌ، فاطلبي لنا أربع لفافات من الكباب بالطحينة، فأنا لا أتحدث الألمانية!”
قهقهت سيسي وهي تقول:
“وأين هي الألمانية في ما تقول يا عزيزي؟ باكبابا أو تاهانانا؟”
فبادر زياد وهو يقترب من العربة، ويقول لأمير بالعربية:
“لا عليك سوف أطلب أنا!” ثم التفت مواجهًا البائعة وقال بالألمانية:
“من فضلِك…”
فقاطعته البائعة ضاحكةً، بينما بطنها السمين يهتز فرحًا، وهي تقول بالعربية:
“أربع لفائف كباب بالطحينة، تكرم لي عيونك!”
كانت مخارج حروفها ممطوطة، فأدركنا أنها سورية، بفضل المسلسلات التليفزيونية التي انتشرت مؤخرًا. فتشجع أمير وقال لها:
“الأخت سورية، مو هيك؟”
هزت المرأة رأسها موافقة، وهي تقَلّب قطع اللحم فوق سطح الموقد. ثم فردت الخبز فوق اللحم ليسخنه قبل أن تطليه بطبقة من الطحينة وتلف قطع اللحم بداخلها، ثم تطوي الجميع في لفافة من الألمونيوم.
ملتُ إلى أذن سيسي، فأعلمتها بأنّ المرأة سورية.
سألها زياد وهو يمضغ اللحم الساخن:
“شامية حضرتِك؟”
فأجابته المرأة على الفور، بلهجة ملؤها الفخر:
“بل حلبية!”
أفهمنا أنّ “شامية” تعني أنها من دمشق. سألته المرأة بدورها:
“والبك من وين؟”
فرد زياد وهو يشير:
“أنا من بيروت، والأخوة من مصر، والسيدة من بودابست.”
“وما الذي لمّ الشامي على المغربي؟”
وهنا تشجع أمير، فأجابها بواقعيته الفجة:
“نحن هنا في مهمة استكشافية. جئنا نبحث عن رجل غريب عن هنا …”
فأجابت المرأة:
“إذن فأنتم من جماعة الأمم المتحدة، أتيتم بخصوص اللجوء؟ على العموم أنا أوراقي سليمة!”
وعلى الفور، مسحت يديها بمنشفة أمامها، ثم انحنت المرأة السمينة بصعوبة، وفتحت طاقة بأسفل العربة، وأخرجت ملفًا بلاستيكيًا يحوي رزمة من الأوراق، وشرعت تتفحصها. لكنّ أمير قاطعها بعد أن أدرك عاقبة تسرعه:
“لا يا سيدتي، نحن لسنا من مبعوثي الأمم المتحدة، ولا شأن لنا بأوراقك! نحن جئنا إلى ’مُنستر‘ لنبحث عن شخص اسمه كانديد! ما اسمك أنتِ؟”
“اسمي نادية خوري!”
فرد زياد على الفور:
“من بيت خوري؟”
ولكنّ نادية عقَّبت بدون تردد:
“لا يا سيدي، لست من الشام، كما قلت لك من قبل!”
سألتها أنا:
“هل أنتِ متزوجة يا سيدة نادية؟”
“لا، بل أرملة. قُتل زوجي في الحرب، فجئنا إلى هنا…”
أصر أمير على سؤالها:
“هل صادفتِ رجلًا غريبًا، شابًا أصغر مني قليلًا، ربما يكون جاء إلى هنا قبل يوم أو يومين، بصحبة امرأة، ورجل آخر، أكبر قليلًا، وشيخ في مثل عمر هذا الرجل؟” وأشار نحوي.
“يصل إلى هنا الكثير من الغرباء يا سيدي، بسبب جامعة ’مُنستر‘ العريقة. وأنا أتيت لنفس السبب؛ فابنتاي تدرسان بالجامعة هنا.”
أما أمير فلم يستسلم، فما إن انتهت من كلامها، حتى فتح كراسه وقلَّب بين أوراقه، حتى وصل إلى آخر رسمة به، فأطلعها عليها، وسألها مجددًا:
“هل صادفك صاحب هذه الصورة؟”
“هذا الشبه… ربما… نعم… كان… كان…”
“كانديد؟”
اهتزت المرأة فرحة وهي تقول:
“نعم، نعم، هو كانديد. جاؤوا بالأمس، وأكلوا طعامي وأشادوا به!” أعلنت نادية بفخر، وربما بارتياح، لأننا لم نكن نبحث في أمر إقامتها، أو صحة أوراقها.
“ثم ماذا؟ أعني أين ذهبوا؟” قال أمير مستعطفًا…
فأجابت المرأة وقد غلب عليها أمرها:
“من أدراني أنا يا سيدي؟ لماذا تصر على أني أعلم أكثر مما أقوله لك؟ أنا امرأة بائسة يا سيدي. لقد عانينا الكثير، حتى وصلنا إلى هنا. ومن بعدها أيضًا، إلى أن وجدت عملا، ثم استقرت البنات في الدراسة! لقد تعبنا جدًا يا سيدي! صدقني، فأنا أقول لك كل ما أعرف!”
شعر أمير بالذنب، بل وخجِل من نفسه، فأطرق. أحسست بما يدور برأسه، إذ لم يراع ظروف المرأة القاسية تلك التي أدت بها إلى أن تترك وطنها، وترحل بعيدًا، لتقف أخيرًا خلف عربة، تبيع طعام جدودها، حتى يتسنى لها أن تطعم بناتها، في تلك الغربة التي فُرضت عليها فرضًا. ولكن سرعان ما تماسك أمير، وكلّم المرأة قائلًا:
“أنا آسف يا ست نادية، لم أقصد إيذاء مشاعرك. كلّ ما في الأمر هو بحثنا عن كانديد الذي بدأ في إسطنبول وامتد إلى شرق آسيا، ثم عبر بنا إلى وسط أوروبا، ثم غربها إلى أن وصلنا إلى هنا. فقط، نريد منك أن تساعدينا في العثور عليه، هنا في مُنستر، فهل يمكنك أن تعاونينا؟”
بدت السيدة نادية متحيرة من أمرها، فرفعت يدها بلا وعي لتعبث بالمنديل الوردي الذي عقصت به شعرها، ولهيت عنا قليلًا، وهي تحاول جاهدة أن تتذكّر ما دار بينها وبين كانديد وأصحابه، في ذلك اللقاء العابر الذي لم تحتفظ بتفصيلاته، إذ لم تتوقع أن تصير ذات أهمية في ما بعد، من وجهة نظر الآخرين، مثل هؤلاء الذين يلحون عليها في السؤال. أخيرًا قطعت صمتها بلهفة، ثم أجابته:
“نعم، تذكرت الآن، قال لي إنهم من إسطنبول، وأتوا ليبحثوا عن أصل عائلتهم، إذ كانت زوجته من مقاطعة ويستفاليا، وأبدوا عزمهم على أن يزوروا مكتبة الجامعة هنا للبحث فيها. هذا كل ما أتذكره الآن!”
سألها زياد أيضًا:
“ألم يسألك عن ديانتك مثلًا؟”
فردت نادية على الفور:
“بلى! وقد تعجبت من سؤاله، إذ لا يُسأل أحد هنا عن ديانته، أو أية أسئلة شخصية مماثلة…”
“وأنت، ماذا أجبته؟”
“قلت له إني مسيحية بالطبع! فسألني بدوره إن كان هذا هو سبب هجرتي إلى ألمانيا، فجزمت بالإيجاب!”
“وهل هذا ـ بالفعل ـ السبب الرئيسي؟”
“يا سيدي، لو نزح إلى بلدتك غرباء، بعضهم لا يتكلم حتى العربية، ملتحون، يلفون رؤوسهم بشرائط سوداء، ويرتدون الجلباب، ويرفلون في الشوارع ببنادقهم المعلقة فوق أكتافهم، ويمنعوننا من ارتياد كنائسنا، بل ويحطمون تلك الكنائس، حتى الأثرية منها، وينزعون الصلبان من فوق قبابها، ويتلفون شواهد قبور آبائنا، ثم يدفعون بأبناء المسلمين إلى حمل السلاح معهم، دوننا بالطبع، فإذا صار كل ذلك في بلدتك، فتحيّنت الفرصة للهروب من ذلك الجحيم، ألا تعتقد أنّ ذاك يصير بسبب ديانتي؟”
اختصرت ما دار بيننا من كلام، وترجمته لسيسي التي كانت انتهت لتوها من طعامها، إذ لم تفهم بالطبع شيئًا من الحديث الذي دار بيننا بالعربية. كانت تنصت باهتمام شديد، وحين انتهيت من الكلام دعتنا للذهاب إلى الجامعة، وبالتحديد إلى مكتبة الجامعة.
وما هي لحظة واحدة وإذا بالسماء تنفتح، وإذا بسيل من الأمطار ينهمر فوق رؤوسنا. في الحال كدنا أن نندفع بتلقائية نحو المحطة مجددًا، تاركين نادية خوري وعربتها، ولكنها صاحت بنا لننتظر. وفي التو سحبت شريطًا مدلى من قمة العربة، فإذا بمظلة زرقاء كانت مبرومة حول أسطوانة، تنداح، فصرنا بها في صون من المياه الغزيرة، في ثوانٍ قلائل.
توجستُ من ضياع الوقت، ونحن محبوسون تحت مظلة السيدة نادية، لكن سرعان ما توقف المطر. كعادتها آثرت سيسي تقفي خطوات كانديد بتخيل ما هو عازم على أن يفعله. وبالفعل قادتنا نحو مكتبة الجامعة، متوسلة إلى ذلك سؤال بعض من الطلبة الذين استوقفتهم ليرشدونا إليه. وقفت سيسي أمام موظفة الاستعلامات وسألتها:
“من فضلك أنا أبحث عن أي شيء يقودني إلى سليل البارون ’ثاندر ـ تن ـ ترونخ‘ هنا في مقاطعة ويستفاليا”
فما كان من المرأة إلا أن تبسمت بجرمانية متعالية، ثم أومأت برأسها وهي تقول:
“من العجيب يا سيدتي أن تكوني ثاني من يسألني عن ذاك البارون خلال يومين! ولكني أستطيع أن أقول لكِ الآن، وبكل ثقة، بعد أن قتلت الأمر بحثًا بالأمس، إن ذاك البارون لا وجود له على الإطلاق! ليس في مقاطعة ويستفاليا فحسب، ولكن ولا في أي موضع على وجه الأرض. نعم سيدتي، لا يوجد في أي مرجع ذِكرٌ له، إلا عند الحديث عن رواية ’كانديد‘ للأديب الفرنسي ’فولتير‘ التي كتبها في القرن الثامن عشر، وتحديدًا..” ثم بحثت فوق مكتبها حتى سحبت ورقة، قرأت منها: “همممم… في عام 1759.”
انسحبت سيسي من أمامها في بطء، ثم واجهتنا ورأسها متطأطئ، وشرعت تترجم لنا ما قالته أمينة المكتبة لها. ورغم أنها كان صاحبة فكرة استحالة عثورنا على عائلة ليدي كوناجوند في الأصل لأنها شخصية روائية ولا أثر يمكن أن يوجد لأبيها البارون، إلا أن رغبتها ـ وأمنيتنا المستعرة ـ في العثور على كانديد أثرتا عليها، بحيث تمنت لو ثبت خطؤها.
حين انتهت، انبرى أمير بعنفوانه المعهود قائلًا:
“حسنٌ يا سيسي، لكن كما قال الأستاذ عاطف من قبل، فإن كانديد ينبغي أن يكون قد ترك خيطًا وراءه، يمكننا من تتبعه. اسأليها بالله عليك، لعله أعلن لها مقصده.”
وبالفعل سألتها سيسي، ثم واجهتنا من جديد، بفرحة هذه المرة، وهي تقول:
“سألها كانديد عن طريقة للذهاب إلى باريس، فأعلمته بأنّ هناك الطائرة والقطار، ولكن أرخص الطرق الحافلة التي تقوم عند منتصف الليل وتصل باريس في الصباح، بحيث يمكنك تناول طعام الإفطار بها!” من جديد، صار علينا الآن أن نبدأ صفحة جديدة تمامًا في بحثنا عن كانديد.
تبدت لي ـ على نحو مباغت ـ صحة نظرية أمير عن وجود كانديد، يحيا بيننا، رغم موت صاحب الشخصية الروائية الأصلي، فولتير، وأنّ كل ما اندثر في الرواية فنيَّ معها، مثل البارون “ثاندر ـ تن ـ ترونخ” وزوجته، وبقية شخصيات الرواية، التي اندثرت خلال أحداثها. إذن فلم يتبق سوى كانديد وزوجته، وأخيها، والبروفسور بانجلوس. وإلا فما هو تفسير رؤية الدرويش القوني له، ومن بعده شهادة الراهب البوذي في بانكوك، وزينب، المرأة المسلمة في كوالالمبور، ثم القس الكاثوليكي في بودابست، ونادية خوري، السورية المسيحية النازحة إلى مُنستر الألمانية، ثم أمينة المكتبة بالجامعة هنا؟ هذا بالطبع إذا اعتبرنا أنّ معاينتنا نحن لـ« كانديد » وليدي كوناجوند بالمعبد اليهودي في براج، كان مجرد أوهام صنعناها لأنفسنا، أو خيالات ابتدعتها رغبتنا الملحة في العثور على تلك الشخصية الزئبقية.
ولكن ماذا يعني كل ذاك؟ خاصة، ونحن لم ندرك ـ إلى الآن ـ المغزى الحقيقي لظهور كانديد في هذا التوقيت بالذات. إذا كان تاريخ ميلاده ـ كما أعلمتنا أمينة المكتبة -كان في عام 1759، إذن فلِمَ ارتضى أن يظل قابعًا في حديقته الأناضولية، يزرعها لأكثر من مائتي وخمسين عامًا، قبل أن يطل على عالمنا الآن؟
لكنني لم أفاتح أحدًا بهواجسي تلك، إذ لم أشأ أن أبدل الفرحة التي شملتنا بعد أن عاد الفتيل الذي أوشك أن ينطفئ إلى التوهج مرة أخرى.
وبالفعل، سرعان ما انطلق صوت زياد مجلجلًا:
“إذن علينا بالعشاء في مطعم، ولنشرب نخب الأمل المتجدد!”
لكن سيسي قالت معارضة:
“بل علينا أن نذهب أولًا إلى محطة القطار لنبتاع التذاكر، قبل أن تنفد، ثم علينا ثانيًا أن نستعيد نشاطنا الفني لجلب بعض المال لأنّ مخزوني بدأ يتبخر، ومصاريف باريس لا قبل لنا بها، إلا إذا كانت محفظة نقودنا عامرة!” ثم التفتت نحو أمير وهي تضيف: “ألا توافقني يا أمير؟”
شعرتُ بالخجل من نفسي، من جديد، فهي لم تشر إليَّ لتسألني مثلًا، مما يعني أنها أيقنت أنني لم أكن سوى عالة على أمير. ومما أثارني فوق ذلك، هو أني سلَّمت بهذه الحقيقة مثلها تمامًا. لكنني عدت لأتفكر عمَّا يعنيني من أمر سيسي، تلك المرأة الغريبة، وما تعتقده بشأني في جميع الأحوال! فالأمر من بدايته إلى نهايته اتفاق بيني وبين أمير، ولا اعتبار للسيدة سيسي بخصوصه، لا من قريب ولا من بعيد.
بالفعل اتجهنا إلى محطة القطار، وابتعنا التذاكر. كانت الضاحية المحيطة بالمحطة، منطقة بارعة الجمال، إذ اصطفت المباني القديمة ذات الطرز المزخرفة، ومن تحتها الحوانيت المختلفة، والشوارع القديمة المبلطة، مثل منطقة وسط البلد القديمة بأحياء الرمل والمنشية بالإسكندرية. شعرت بنوع من الألفة أزاحت عني تلك الأفكار القاتمة التي باتت تملأ رأسي. ثم سرعان ما بدأت سيسي عزفها البديع على كمانها الغجري، وبدأ أمير يرسم وجوه الشباب العابرين من طلبة الجامعة، في مقابل نقود زهيدة، هي كل ما يقدرون على تحمله من جانبهم. امتلأ قلبي العجوز فرحًا، حتى كدت أن أتمايل مع موسيقى سيسي، وخطوط أمير البهيجة.
وفي خضم تلك الفرحة، وبينما زهور الشباب تتجمع من حولنا، شقراوات، وسمراوات، بيض، وسُمر، قصار ضئيلو البنية، وعمالقة مفتولو العضلات، ومنمنمات من أقاصي الشرق، من كل لون وجنس، إذا بالسيدة نادية خوري تنبثق أمامنا من وسط كل هؤلاء، وهي تصحب إلى جانبيها بنتين في مثل عمر كل الشباب من حولنا، ثم قدمتهما إلينا بزهو:
“لينا وهيلدا خوري، بنتاي!”
كانتا سعيدتين بنا، وبالبهجة التي أشعناها من حولنا. سألتنا نادية عن سبب سفرنا إلى باريس، فرد أمير بزهو:
“لكي نجد كانديد!”
ولكنها لم تفهم، فسألته ثانية:
“من؟ كانديد؟ هل تقصد الرجل الذي جاء وأكل الكباب عندي بالأمس؟ ولكن لماذا؟”
فأجابها وهو سارح في عالمه الخاص:
“حتى يمنع الشر الذي تعرضت له يا نادية، وحتى يجنب العالم كله مثل هذه الفظائع!”
“ولكن، هل بوسعه أن يفعل ذلك؟ حقًا؟ لقد بدا لي رجلًا عاديًّا، يستمتع بأكل الكباب فحسب!”
“لم تعرفيه بالقدر الكافي يا عزيزتي، فهو بسيط وطيب على السطح فقط، ولكنه في واقع الأمر عميق إلى أبعد الحدود!”
“آه! لو كنت أعرف ذلك ما كنت تركته يمضي هكذا! وأنا التي تذمرت ـ بيني وبين نفسي طبعًا ـ لأنه لم ينفحني بقشيشًا كافيًا! لو أتمكن من أن ألقاه مجددًا! بل ليتني أقدر أن أسافر معكم!”
قالت وهي تهز رأسها آسفة. فسألها أمير:
“ولم لا؟”
فردَّت على الفور:
“البنتان! من يراعيهما في غيبتي؟ ليس لنا أحد هنا!”
ودعتنا السيدة نادية وبنتاها. وانشغلنا عنهم بالترفيه عن باقي الشباب، وإمتاعهم بفن أمير وسيسي. لكن مع الوقت، ولأن اليوم كان ثلاثاء ـ من أيام وسط الأسبوع ـ بدأت الجلبة تهمد، وأخذ الشباب ينصرفون. وفي النهاية بقينا وحيدين في انتظار موعد الرحيل، مع شلة من المسافرين هنا وهناك.
وفي تمام الدقيقة الخامسة عشرة، من بعد منتصف الليل، وبينما الظلمة الكالحة تحيط بنا، أقلعت بنا الحافلة المتجهة إلى باريس عاصمة النور.
كعادتي، أخرجت كراسي الأزرق، وعكفت على تدوين كل دقائق الأحداث، في هدوء الحافلة النائمة.
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.
البحث عن كانديد »: الجزء التاسع، الفصل الثامن