ما إن جلسنا إلى مقاعد الطائرة الضيقة، حتى فوجئت بأمير وقد راح في سبات عميق، وكأنه لم ينم لأعوام. بل ومع الوقت تعالى صوت شخيره فخجلت، وخشيت أن يزعج الركاب من حولنا. انتهزت فرصة مرور المضيفة بالشراب، فأفقته. دهشت من يقظته المفاجئة، وقد دب فيه نشاط ملحوظ.
شربنا، وأكلنا، مرَّات ومرَّات، ولكن الرحلة كانت طويلة.
توجهت نحو أمير محققًا. استرخت عضلات وجهه وبدا لي في غاية الهدوء والطمأنينة، كأنه حقق هدفه المرجو من رحلته، في ذلك الحين. لكننا لم نحقق شيئًا في الواقع؛ نعم قابلنا أشخاصًا ادَّعوا معرفتهم بـ كانديد وصحبه، ولكنّ الأمر لا يعدو إلا أن يكون مجرد زعم من جانبهم، صدقناه لأننا نريد أن نصدقه، ليكون لرحلتنا الشاقة هذه معنى. ثم سألته أخيرًا:
“قل لي يا أمير، ما هو السر الدفين وراء بحثك الدؤوب عن كانديد؟”
فابتسم أمير وأطرق قليلًا، ثم على غير عادته، أجاب سؤالي دون أن يدع الزمن يمر حتى أنسى أنا شخصيًا صيغته، فقال:
“حكى لي أبي ـ وأنا بعدُ طفلًا ـ عن جدة له، أو ربما كانت جدة لأمه ـ لست أذكر ـ اسمها مريم، أو بالأحرى؛ ’الست مريم‘، كما كان يدعوها الجميع.”
عيناه كانتا مثبتتين نحو سقف الطائرة، كأنه يقرأ نصًا مكتوبًا فوقه، لا يستطيع أن يراه سواه. ثم أضاف:
“قال لي إن جدتنا هذه كانت مثقفة وحكيمة، لذا قررت أن تتزوج من غريم للأسرة، حتى تنأى بها عن عدوان مزمَع. فَدَت مريم بنفسها، لتنقذ العائلة والأهل.”
تنهد أمير وهو ينظر نحوي، يتفحص وقع كلماته عليَّ. كفّ عن الكلام للحظات، ثم رفع عينيه مجددًا وقال وكأنه يعاود قراءة الكلمات المخفية:
“قال لي أبي إن الست مريم وهبتنا الحياة بتضحيتها. لذا صار يتحتم أن يحذو أحفادها حذوها، وأن يتطلعوا دومًا، ويسعوا خارج حدود حياتهم الضيقة، ويبادروا بفعل كل ما هو خيّر، عوضًا عن الآخرين، حتى وإن كلفهم العناء، كل العناء.”
ثم تبسم أمير بخبث، وكأنه يغيظني وهو يضيف:
“ثم أشارت إليَّ رينا ـ ملاكي الحارس ـ بأن أقوم بالبحث عن كانديد، لمَّا شكوت لها فساد العالم من حولنا!”
وبالفعل سقطتُ في الفخ، فعلَّقتُ بانفعال:
“أتعني أننا عبرنا نصف الكرة الأرضية حتى الآن، بسبب إشارة من ملاكك الحارس؟”
فضحك أمير، وأضاف:
“بل من أجل عيون الست مريم ـ جدتي ـ أولًا، ثم لأجل نصيحة رينا، ثانيًا! ألم يقولوا قديمًا: فتش عن المرأة؟!” ثم قهقه من جديد.
لم أجد وسعًا إلا أن أشاركه بهجته، إذ كانت على كل الأحوال أفضل كثيرًا من توتره، ومن نوبات جنونه.
توقفت الطائرة لبضعة ساعات في مطار دبي. عدنا بعدها، لنقيُّد أنفسنا ـ مرة أخرى ـ أسرى لتلك الكراسي النحيلة. بعد أن استنفدنا كل محاولات قتل الوقت، وبعد أن نمنا واستيقظنا عشرات المرات، وبعد أن دوّنت تفاصيل رحلتنا إلى كوالالمبور بأسماء معابدها الغريبة التي سجلتها فوق قصاصات ورقية حشيت بها جيوبي، فوق صفحات كراستي الزرقاء، وبعد أن شاهدنا عدة أفلام على الشاشات الصغيرة الماثلة أمامنا، أضاؤوا الطائرة معلنين عن موعد تناول الفطور، وأنه لم يتبق سوى ثلاث ساعات على الوصول! ثلاث ساعات جديدة، تضاف إلى الدهور التي أمضيناها موثقين إلى تلك المقاعد اللعينة. الآلام بدأت تستيقظ في ظهري من فرط الجلوس. واستشعرت تنميلًا يزحف نحو فخذَيِّ وساقَيِّ. اتكأت إلى مسند مقعدي وظهر المقعد أمامي، إلى أن تمكنت من الوقوف. بتّ أحرك قدميّ لأتأكد من قدرتهما على حملي، بعد أن استغنيت عن وجودهما كل هذا الوقت، حتى هُيّئ لي أنهما باتتا تعاقبانني على طول الإهمال.
في مطار بودابست عرفت أنه مسمى باسم “فرانز ليست” الموسيقيِّ المعروف، صاحب الرابسوديات الشهيرة. تفكرت، ثم بادرت أمير، بأنني كنت أتمنى أن نطلق على مطاراتنا أسماء سيد درويش، وأم كلثوم، وعبد الوهاب. لم يطلبوا من أمير استخراج تأشيرة لأنه كان يحمل بطاقة إقامة (خضراء) أمريكية. أما عني فدفع أمير بضعة دولارات، لكي أحصل على تأشيرة دخول سياحية. ابتسمت وأنا أعبر المساحة الضيقة، لأدخل وراء أمير إلى صالة استرداد الحقائب. بالطبع لم أصرح للسيدة الفاتنة الملامح الجالسة خلف المكتب المرتفع بأن دخولنا لم يكن سوى رحلة عمل، مهمتنا خلالها البحث عن المدعو كانديد، أوّلًا لسبب تعبيرات وجهها الجادة الصارمة التي لم توحِ بتقبل دعابتي، وثانيًا لأن استخراج تأشيرة عمل كانت تستدعي إجراءات أكثر كلفة وتعقيدا كما تصورت.
مكثنا طويلًا ننتظر دورنا، في الحصول على سيارة أجرة. استغل أمير الفرصة، للتشاور مع رجل وقف ساندًا ظهره إلى الجدار الخارجي لصالة المطار، يحمل عدة أوراق بلاستيكية ملونة، ويدخن السجائر بشراهة. اتضح له، أنه كان سمسارًا في مختلف الخدمات السياحية، بما فيها الفنادق والشقق المفروشة للإيجار بالعاصمة. افتقدنا زياد ساعتها، إذ فشل كلانا في مساومة الرجل، فحصلنا على غرفة أو بالأحرى شقة صغيرة، في حي سياحي بقلب بودابست، وبالثمن الذي طلبه الرجل. ولكن الأسعار هناك كانت معقولة، إلى حد بعيد.
وصلنا إلى الشقة دون عناء. كانت بالدور الثالث من عمارة ضخمة ضمن مجموعة من عمارات الستينيات الإسمنتية المتلاصقة، والتي لا يفصل بينها سوى حارات ضيقة، امتلأت بمقاعد ومناضد مقاه ومطاعم احتلت الطابق الأرضي لتلك البنايات. تناثرت ما بينها أكشاك لبيع الأثريات المتنوعة، والمشروبات الروحية، والهدايا التذكارية التي اشتهرت بها البلدة. ما إن وضعنا حقائبنا، حتى اقترح أمير أن نخرج من جديد لنتفحص المكان، ونتناول وجبة الغداء.
عند مدخل العمارة، وقفت امرأة خمسينية ذات شعر فضي معقوص في شكل كرة خلف رأسها، ترتدي فستانًا مزركشًا، بطراز وألوان تشي بشعبيتها. كانت تعزف الكمان بمهارة ومرح، معزوفات إيقاعية شعرت بألفة لنغماتها كأنني سمعتها من قبل. استوقفنا عزف المرأة المختفية خلف نظارتها السوداء وهي تسبح في ملكوتها الخاص، تتلقى من خلاله موسيقاها الأثيرية، وتتمايل بجذعها النحيل مع إيقاعاتها. صار المارة والسياح مثلنا يلقون بمئات الفورينتات ـ العملة هناك ـ إلى داخل قبعة سوداء مقلوبة على الأرض أمامها. أما أمير فوضع ثلاث قطع معدنية قيمتها ثلاثون فورينت. لمًا هممنا بالانصراف، توقفت المرأة عن العزف، وتوجهت نحونا متسائلة بلغة تشبه الألمانية لم نفهمها. رد أمير بالإنجليزية مستفسرًا، فسألته المرأة بدورها بالإنجليزية هذه المرّة:
“ألم يعجبك عزفي يا سيدي، وإلا فلماذا تتعمد إهانتي؟”
أجابها أمير على الفور:
“”بل استمتعنا به جدًا!”
هنا وضعت ظاهرا يديها؛ تلك الممسكة بالكمان في ناحية، وبالقوس في اليد الأخرى، وأسكنتهما فوق خصرها، وهي تتساءل في غضب:
“إذن فلماذا تضع ثلاثين فورينت في القبعة؟ هل لأنني عمياء مثلًا تعتقد أنني لن ألاحظ؟ أم هل تعتبر أنّ العميان لا يأكلون مثلكم، أو لا يرعون أبناء وبنات كمثل بقية الناس؟”
فجاوبتها نائبًا عن أمير الذي تلعثم:
“وماذا عن الثلاثين فورينت، أهي مهينة لهذا الحد يا سيدتي؟”
أما هي فجعجعت وهي تقول:
“هل تعرف يا رجل أنّ ثلاثمائة فورينت تساوي يورو واحدا؟ أو هل عزفي ذاك يساوي عشرة سنتات في نظرك؟”
رد أمير بحدة على الفور:
“أولًا أنا لم أكن أعلم قيمة عملتكم بعد، إذ وصلنا للتو إلى هنا. ثانيًا كيف تأكدتِ من كوني وضعت ثلاثين فورينت وليس ثلاث قطع من فئة اليورو مثلًا؟ وأخيرًا ما نضعه في القبعة هو هدية منا، وليس حقًا تطالبيننا به كأنه ثمن محدد مسبقًا، ولعلمك، هناك العديد من الناس استوقفهم عزفك، واستمتعوا به، ثم انصرفوا دون أن يدفعوا سنتًا واحدًا!”
ثم التفت أمير نحوي وقال بحدة:
“هيا بنا!”
وهنا استوقفتنا المرأة قائلة:
“انتظر هنا يا.. ما اسمك؟ مصريان، صحيح؟ أقلّ ما يجب، أن تدعواني على الغداء إذ صرت أعزف لست ساعات متصلة، فأعياني الوقوف.”
نظر أمير نحوي متسائلًا، فأومأت إليه موافقًا. أما المرأة فقالت:
“حسنٌ. أمهلاني دقيقة لأجمع حاجياتي. شكرًا..”
أما أمير فلم يدع هذه الفراسة التي أبدتها المرأة الكفيفة تمر، فسألها:
“كيف عرفتِ أننا مصريان؟”
أجابت بينما هي منحنية تضع الكمان في صندوقه:
“عرفت ذلك منذ وقفتما بجانبي، لكني خمنت أن تكونا مهاجرين، كما هو شأن معظم المصريين هنا، لذلك تحدثت إليكما بلغتنا في بداية الأمر. تعلمت أن أميِّز أصول الناس من رائحتهم.” وضحكت المرأة، ثم أكملت: “المصريون رائحتهم شاي مغلي، والصينيون ثوم، والألمان شعير، والفرنسيون دقيق القمح، وهكذا.”
تعجبنا مرة أخرى من قدرة المرأة الكفيفة على الاستقراء، وابتسم كل منا للآخر، بينما كانت المرأة تجمع نقودها في نظام بديع، كل عملة مع أختها، وكنت أراقبها بذهول. أخيرًا وضعت القبعة السوداء فوق رأسها وهي تقول:
“هيا بنا. أعرف مطعمًا قريبًا من هنا، يقدم مأكولات بودابست الشعبية، وأسعاره معقولة، لكنها أكثر من ثلاثين فورينت، وها أنا حذرتكما! كما أنّ شابا لطيفا يأتي إليه، يعزف موسيقى الغجر الشبيهة بما كنت أعزفه لكما، ولكنه ـ والحق يقال ـ أبرع مني، ربما لأنه ينحدر فعلًا من عائلة غجرية فيما أظن.”
أبت المرأة بأدب أن آخذ بيدها. حملت كمانها في صندوقه بيسراها، وبيمينها أمسكت بطرف عصاها الأبيض الرفيع، تنقر به برفق فوق صفحة الرصيف المكسو بقطع البلاط الحجري العتيق المرصوص.
قادتنا بمهارة إلى المطعم الكائن في شارع عُلقت على ناصيته يافطة تقول: “شارع 6 أكتوبر”!
تحيّرت وأنا أقول في نفسي: حتى في بودابست يحتفلون بحرب السادس من أكتوبر؟
لمَّا سألت المرأة أستفسر عن مغزى الاسم، قالت إنها ذكرى استشهاد ثلاثة عشر جنرالا من قادة الجيش، ثاروا على المملكة النمساوية ونادوا بالاستقلال، ولكن أفشل الروس الانقلاب، فتم إعدامهم شنقًا، وكان الشنق وقتها يعتبر ميتة مذلة. ثم بعد استقلال المجر، اعتبروا شهداء، وأطلق الاسم على ميادين وشوارع عدة، وخاصة بالعاصمة، حيث أقيم تمثال لهم يتوسط ميدان “6 أكتوبر” بها.
تعجبت من ثقافتها ودرايتها بكل تلك التفاصيل، وهي المتسولة الضريرة.
عرفنا أن اسمها كان “سيسي” عن اسم الإمبراطورة النمساوية المحبوبة إليزابيث المدعوة “سيسي”. بينما كنا نأكل، سألها أمير باندفاعه المعهود:
“أين يمكن للمرء أن يتأمل تعبُّد الناس ها هنا؟”
فأجابته سيسي ضاحكة وهي تلوك قطعة لحم بفمها:
“تعبُّد الناس هنا؟ أتمزح يا سيد أمير؟ ألم تسمع بالشيوعية، أو بالاتحاد السوفييتي؟ بلدنا ظل تحت حكم السوفييت إلى حدود العقدين أو الثلاثة الأخيرة. الدين كان محظورًا هنا! على العموم فالمسيحيون هنا يمثلون حوالي نصف السكان، لكني أجزم أن نصفهم ـ على الأقل ـ لا يمارسون أي طقوس للعبادة. والنصف الآخر معظمهم ملحدون مع وجود أقليات قليلة يدينون باليهودية والإسلام.”
قلتُ لها أنا بدوري مازحًا:
“وأنتِ يا سيسي، هل تؤمنين بالله؟”
ابتلعت طعامها، وتبعته برشفة من كأس النبيذ الأحمر، ثم ردت:
“أنا؟ أنا عمياء يا سيد عاطف، لست قادرة أن أرى الله الذي تعبدونه! ربما أؤمن به إذا جاء إليَّ ـ مثلما جاء المسيح ـ وصنع طينًا، ووضعه مكان عينيّ، ثم أمرني أن أذهب لأغتسل، فتنفتح عيناي وأبصر مثل بقية الناس. حينذاك سوف أؤمن به بكل تأكيد، بل وأتعهد أمامكما بأن أهب حياتي كلها للتبشير به في كل شبر هنا في المجر، وفي أوروبا، بل وفي العالم كله. إلى أن يحين هذا، دعني أستمتع بتلك الوجبة اللعينة في سلام.”
ضحكنا، ثم سألها أمير بتعاطف وتأثر بكلامها:
“متى فقدتِ بصرك يا سيسي؟”
فتنهدت وأجابت:
“أنا لم أجده أصلًا حتى أفقده يا سيد أمير. ولدت هكذا، وتعلمت أن أتعايش مع عالمي المظلم هذا.” ولكن سرعان ما اكتسبت سحنتها إشراقة جديدة، فقالت: “ما كل هذا الحزن والظلام الذي نخوض فيه؟ قولا لي أنتما، ما الذي أتى بكما إلى هذا البلد الملعون؟”
فضحكنا منها أولاً، حتى بادر أمير بالإجابة:
“في الحقيقة يا سيسي أدركنا ـ مع الأسف ـ أنك لست الضريرة الوحيدة على هذه الأرض، بل وأكاد أجزم أن أغلب الناس من حولنا قد أصابهم العمى. لست أقصد عمى البصر الذي اعتراك، ولا العمى الأبيض الذي ينتقل باللمس كما كتب عنه الروائي البرتغالي جوزيه ساراماجو. لكنه عمى إنساني؛ من يصاب به يسودُّ قلبه من الداخل، فلا يقدر أن يرى النور من حوله، يفرح بالشر ويسعى نحوه، ويكره الحب والمحبين، ويتلذذ بأذى الناس، حتى أقربهم إليه. إنه عمى من نوع جديد، عمى هو عكس الرؤية والبصيرة، وضد الخير والعدل، ونقيض للتعاطف والإنسانية. من أجل كل هذا جئنا إلى هنا!”
كفت سيسي عن تناول الطعام، وأدارت رأسها قليلًا بعيدًا عن أمير، لتدني نحوه أذنها، وهي تصغي لكلامه. انتظرت حتى انتهى، وساد صمت للحظات، ثم علقت أخيرًا قائلة:
“لم تقل لي بعد لماذا جئتما إلى هنا، إلى بودابست بالذات؟” قالت هذا ثم دبت شوكة الطعام بمنتهى الدقة في فص الطماطم المكتسي بالجبن الأبيض السائل، وحشرته في فمها، ثم بدأت تلوك. بعد قليل، أضافت عبر فمها الملآن: “هل تعتقد أنك تجد الدواء لهذا العمى هنا، في هذه المدينة الضائعة، على ضفاف الدانوب؟ هيهه، فأنت واهم بالتأكيد!”
انعدل أمير فوق كرسيه، وتطلع بشغف نحو المرأة وأجاب:
“الحق يا سيسي أنت تبدين لي على درجة عالية من الوعي والثقافة. لذا فدعيني أسألك بدوري إذا ما كنت تعرفين من هو فولتير؟”
توقفت سيسي عن المضغ ورفعت رأسها نحوه وهي تجاوب:
“بالطبع أعرف من هو. هيء.. هيء.. وإن لم أقابله شخصيًا! نعم أعرفه وقرأت روايته كانديد.”
قضمَت قطعة من الخبز، ورشفت نبيذها، ثم أضافت: “هل تعلم أنهم يقولون إنه كتبها في غضون أربعة أيام، كما يدَّعون؟ أنا لا أصدق هذا البتة! هم يحاولون دائمًا اختلاق أكاذيب خصوصًا للشخصيات التاريخية فتلتصق بهم إلى الأبد، مثلما قالوا إن فان جوخ كان مثليّ الجنس، أو إنّ الأم تيريزا صارت ملحدة، هراء، كل ذاك هراء!”
فتحمس أمير وقال على الفور:
“نعم كانديد، هو بعينه: كانديد يا سيسي.. كانديد هنا في بودابست يا سيسي!”
أشاحت المرأة بوجهها بعيدًا، ثم أخرجت علبة سجائر من جيب في ردائها، وأشعلت سيجارة بكل اقتدار، مستخدمة قداحة رخيصة، ألقتها بعدها بإهمال فوق المنضدة. سحبت نفسًا طويلًا، ونفخته وهي تستدير نحونا من جديد وتتمتم:
“مخابيل! كانديد هنا في بودابست.. نعم جاء ليصطاف هنا، بعد أن سئم الحياة في القسطنطينية.. مخابيل!”
عندها ارتفع صوت أمير قليلًا وانبرى يقول مدافعًا:
“لقد ذهبنا إلى إسطنبول أولًا، ثم إلى الأناضول، وعثرنا هناك على شيخ درويش من بلدة قونية تعرّف عليه بالفعل. ولكنه كان قد سافر إلى تايلاند قبل شهر، فذهبنا وراءه. لكنه سبقنا من هناك إلى ماليزيا، وفي كوالالمبور أعلمتنا زينب المرشدة السياحية هناك أنه جاء إلى هنا. نعم كانديد موجود هنا في بودابست، وعلينا أن نجده يا سيسي، حتى يتسنى لنا أن ننقذ العالم من داء العمى الذي اجتاحه!”
قهقهت المرأة وهي تصرخ:
“مخابيل! مخابيل!” سحبت نفسًا آخر من سيجارتها، ثم أدارت وجهها نحوي متسائلة: “وأنت يا سيد عاطف، ما بالك صامتًا؟ ألن تزيد بأن كانديد قد تزوج من مدام بوفاري، وأمضيا شهر العسل في بانكوك وكوالالمبور، قبل أن يهربا سويًا من الحرارة والرطوبة هناك، فيأتيا إلى بودابست اللعينة؟”
تجاهل أمير سخريتها، وأجاب نيابة عني:
“أولًا كانديد متزوج فعلًا من ليدي كوناجوند! وثانيًا شرحت لكِ أننا لقينا أناسًا شاهدوه وتكلموا معه بالفعل، وهم من دفعوا بنا لتعقبه، حتى أتينا إلى هنا، فهل تساعديننا في العثور عليه في بودابست؟”
فابتسمت المرأة وهي تسند خدها إلى كفها باستكانة، ثم عقبت:
“حسنٌ، أنتما مختلا العقل، هذا شأنكما. لكني سوف أساعدكما بصفتي مرشدة لكما في بودابست، بدافع مادي خالص، وليس لاقتناعي بهذا الهراء الذي تتشدقان به! وسوف تدفعان لي مائة يورو عن كل يوم أمضيه معكما، بينما نبحث عن كانديد هذا! اتفقنا؟”
فشرعت أقول أنا أخيرًا:
“”لا.. بل خمسين يورو فقط!” ثم نظرت نحو أمير مستطلعًا، فأومأ مؤيدًا. أما سيسي فعقبت:
“أنتم العرب تعشقون المساومة! خمسة وسبعون يورو ويتم الاتفاق!”
فعقب أمير:
“لا بل خمسون. في الواقع، كادت نقودي أن تنفد، ولكني رسام بارع، ليتك تساعدينني أيضًا يا سيسي في رسم بورتريهات بجوار المناطق السياحية، وتسويق رسومي.”
بدا عليها الاقتناع، فشرع أمير يحكي لها تفاصيل رحلتنا حتى هذه اللحظة، آملًا في أن يضعها في قلب المشهد، حتى يتسنى لها أن تقودنا حيث يمكن أن يوجد كانديد. أما عنها هي فقد صمتت تمامًا، ولم تعلق ولو بإيماءة، وقد أدارت وجهها قليلًا لتواجهه بأذنها حتى تنصت إليه. وأما عني أنا فبت أتأمل المشهد وفي داخلي سخرية من عبثيته؛ فها هي المرأة الضريرة تقودنا، في غمار هذا البلد الغريب، للبحث عن شخصية روائية عمرها أكثر من مائتي عام، تعكف على الهروب منّا أينما حللنا.
عدنا إلى الفندق ـ الشقة ـ وقد توافقنا على أن نلتقي في الصباح التالي. شعرت بالبرودة في الليلة الأولى التي قضيناها في بودابست، مع أننا لم نكن قد تخطينا أول أيام الصيف بعد، لكن يبدو أنهم اعتادوا الجو هكذا. ورغم تعبي من جراء السفر الطويل، فإن النوم ظل يفرّ من جفنيّ حتى ساعة متأخرة من الليل.
وعند شروق الشمس أيقظتني حركة أمير القلقة بأنحاء الغرفة. عندما شعر بأنه تسبب في إفاقتي، ترك الغرفة متجهًا نحو المطبخ وهو يصيح بي:
“سوف أعدّ قليلًا من الشاي، أتريد كوبًا؟”
حينما قابلنا سيسي أمام مدخل البناية، ظللت أشعر بالتعب، فالنعاس لم يزل يراودني، وكوب الشاي لم يفلح في إفاقتي بعد.
قادتنا سيسي ذاك الصباح الملبد بالغيوم إلى محطة الأتوبيس، ومنها إلى الضفة الغربية لنهر الدانوب، بعد أن عبرت بنا فوق جسر يقع ما بين حيّ “بست” أو بشت” إلى حيّ “بودا” كما سمّته سيسي. لاحظت تغير الطبيعة بمجرد عبورنا الجسر؛ فالأرض المسطحة المكتظة بالبنايات، تحولت إلى مرتفعات وتلال كثيفة الاخضرار، تناثرت فوقها الأبنية القصيرة، وتلوّت ما بينها طرقات معبّدة ضيقة، عبر خلالها سائق الحافلة باقتدار ومهارة.
عند أعلى قمة تلّ ترجلنا، وتوجهنا مباشرة لزيارة كنيسة “ماثياس” الأثرية، المبنية على الطراز القوطي، والتي تحولت زمن الاحتلال التركي إلى مسجد، ثم أعيدت كنيسةً عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، والكائنة بجوار القصر الملكي الذي تحول إلى متاحف ومزارات عدة.
في الداخل، جعل الهدوء المطبق، والضوء الشحيح، بقاءنا غير مُستحَب. ولم تعد سيسي تنقر على الأرض، إذ شعرت بانعزالنا وعدم قدرتنا على التقدم ولو بخطوات يسيرة. كنا شبه متوقفين، عدة أمتار بعد البوابة الرئيسية التي أغلقت وراءنا، حين نقر إصبع فوق كتفي ففزعت. التفتّ خلفي فوجدت رجل دين، يقف في جلباب بُني اللون، مربوط حول وسطه حبل مجدول، يتدلى فوق فخذه. سألني بلغتهم، فلم أعِ ما قاله، ولكن سرعان ما جاوبته سيسي قائلة:
“مرحبًا يا أبي، جئنا نبحث عن شخص غريب عن بلدنا يدعى كانديد!”
ضحك الرجل، وكنا قد اعتدنا الظلام نوعًا ما، فبدأت ملامحه تتبدى. كان في الواقع أصغر مما توقعت، لا يمكن أن يتعدى الثلاثين، حليق الرأس والذقن مما جعل رأسه يلمع من جراء شموع قليلة تومض بعيدًا هناك بجوار المذبح. أجابها بكلام مسترسل لم نفهمه. بعد أن انتهى، انفرجت أساريرها هي الأخرى، ونظرت قبالنا وهي تقول:
“الأب يقول بأن كانديد وزوجته جاءا لزيارة الكنيسة قبل يومين، وجلسا معه لنحو ساعة، ثم انصرف حزينًا لما لاحظ غياب المصلين!”
قهقهت سيسي ما إن انتهت، فرنّت ضحكاتها مترددة بين جدران الكنيسة، ثم أضافت بين ضحكها:
“أقسم أنكم برمتكم مخابيل!”
وهنا انبرى أمير يرد اتهامها بتشنج:
“ألم نقل لك! الأب الكاهن لم يكن أول من شهد برؤيته والحديث معه. ولكن دعينا من كل هذا الآن. اسأليه على الفور أين ذهب. حاولي أن ترشدينا إلى خيط، ولو بسيط، قد يهدينا إلى العثور عليه.”
فتوجهت سيسي من جديد نحو الكاهن، وتبادلا جملًا قصيرة لدقائق، ثم التفتت إلينا وقالت:
“لا يعرف أين ذهب، ولكنه يعتقد أنه ربما يكون قد غادر البلدة، واتجه نحو فيينا أو براج، إذ كانت أصول عائلة زوجته من هناك على حد قوله.”
أصاب الإحباط أمير مرة أخرى، فخرج من الكنيسة منكس الرأس، وبدأت الكلمات المغتمة تتناثر من بين شفتيه.
لحسن الحظ، حسبته سيسي يتحدث إليَّ بلغتنا، فلم تدرك أنه يهرف.
أثارت هيئته المنكسرة، وإسهال الكلمات المجنونة شفقتي. مددت ذراعي لأحتضن كتفيه، وأنا أعضضه قائلًا:
“سوف نعثر عليه، لابد أن نمسك بتلابيب هذا الـ كانديد الزئبقي!”
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.