بعد قليل وبينما كنا ننتظر القطار الكهربائي ليحملنا مجددًا إلى أسفل التل شديد الانحدار، استفاق أمير من وقع مفاجأة الأب جان لوي فرانسوا، فتبدت الغبطة مرتسمة فوق وجهه، وأعلن بحماس:
“بهذه المناسبة السعيدة، سوف أدعوكم جميعًا على العشاء في حي مونمارتر، لنشارك الفنانين والصعاليك ـ على السواء ـ طعامهم!”
قص أمير علينا تفاصيل حواره مع الأب فرانسوا، الذي كان بالفرنسية، فلم نفهمه أنا أو سيسي، وقد فات زياد معظمه إذ كان بالخارج يبحث عن كانديد. نزلنا من عربة القطار، فترجلنا بضعة أمتار بشارع ضيّق، لا يسمح إلا بعبور سيارة واحدة، ما بين تلك السيارات المصطفة على جانبيه. ثم عبرنا متحف مونمارتر، فلفحتنا رائحة طعام شهي، تنبعث من مطعم مغربي اسمه “الغزالة”، أرغمتنا على التوقف. سألنا أمير إن كانت شهيتنا مستعدة للطعام الشمال إفريقي، فوافقنا بحماس.
جلست بجوار سيسي، وصرت أصف لها المكان، بحيطانه البيضاء المكسوة بلوحات المستشرقين من القرن الثامن عشر، وبمصابيحه النحاسية الفاطمية المشغولة، والشبيهة بمنتجات “خان الخليلي” بالقاهرة، وبوساداته المطرزة بأشكال هندسية، شبيهة بمخدات “الخيامية” عندنا. لكن زياد قطع استرسالي على نحو مفاجئ حين صاح قائلًا:
“ما زلت متعجبًا للغاية من تصرف الأب فرانسوا هذا! كيف يمنح مبلغًا ثمينًا كهذا لأناس بالكاد يعرفهم؟ ثم ما الذي دعاه لأن يثق بأمير كل هذه الثقة، فيصدق روايته اللامعقولة تلك؟ ثم كيف تحقق من أننا سوف نستخدم تلك الأموال لمواصلة البحث عن كانديد؟ بل ووعد بالمزيد منها، إذا ما عنَّ لنا أن نطلب منه في المستقبل، كأنّ تلك النقود لا تعني شيئًا بالنسبة له!”
انما درأت تساؤله سيسي، بثقة أدهشتني:
“ربما أثر فيه حديثه مع كانديد، والذي انتهى قبل لقائنا به، يا عزيزي. كلامه مع أمير كان محملًا بالتساؤلات، التي حسمَتها إجاباته، فأكدت له أننا لم نكن نعبث به! ثم إن شاء أحدهم الاحتيال على كاهن كاثوليكي، فهل يستدعي شخصية روائية ـ وكانديد بالذات، الذي كان عدوًا للكنيسة المستقرة آنذاك ـ ثم يدَّعي أنه بصدد العثور عليها؟ ألا تدرك يا زياد أنّ ذلك الشك الذي يتملك منك الآن، قد يكون هو ذاته الدافع وراء خروج كانديد من مزرعته الأناضولية، بعد أكثر من مائتي عام؟ ألا ترى وجه الشبه بين عصرنا، والعالم في زمن كانديد الأول، عند منتصف القرن الثامن عشر؛ مِن تحارُب، وتشرذم، وتباهٍ من قِبل الإنسان حيال الآخر، وانعدام الثقة بين الناس، والشر بشكل عام، والذي أدى بكانديد إلى أن تتلاطمه أمواج العالم وقتها، من شرقه إلى غربه، حتى وصل أخيرًا إلى مزرعته تلك، وحيدًا مع أسرته الصغيرة، ولكن ـ مع ذلك ـ منعزلًا عن الكون؟”
“لكن ـ ومع ذلك ـ فلقد تغير العالم منذ خلق فولتير كانديد، في قلب تلك اللوحة الكئيبة! نعم، لقد قامت الثورة في فرنسا، ثم أعقبها سقوط المَلَكيات المتسلطة في شتى أنحاء أوروبا. وحين أتت الثورة الصناعية، تطوّر العالم، وتبدى الأمل في مستقبل مشرق لأبناء العبيد والمطحونين، الذين نشأ كانديد وسطهم. لكن سرعان ما انقلبت الحال مرة أخرى، في أيامنا هذه؛ فلقد عادت الحروب الفتاكة تتدانى من جديد، وتنامت بذور الشر ثانية، فأثمرت وطرحت التناحر ما بين الشعوب، وسادت الفرقة، وحتى التنابذ بين أصحاب الأديان، كل يمجد ذاته، ويحتقر الآخر، بل ويسعى إلى فنائه. ربما كان هذا كله هو سبب صحوة كانديد الثانية. لست أعلم، ولكنّ قلبي يحدثني بذلك!”
أعادنا صوت النادل إلى قلب المطعم المغربي في قلب باريس. كان شابًا أسمر البشرة، نحيل القوام، مائلًا للقِصر، لكنه شعلة نشاط، باسمُ الطلة، قوي الذراعين، يحمل فوقهما أعدادًا هائلة من الأطباق من المطبخ وإلينا، وبالعكس (وعكسا، منّا إلى المطبخ). كان يتحدث الفرنسية بطلاقة، بدون لكنة الأجانب المعتادة، كما أعلمنا زياد في ما بعد. سأله أمير عن طبقه المفضل، إذ كانت تجربتنا الأولى مع المطبخ المغربي، فابتسم وقال قبل أن يبتعد مسرعًا:
“الإخوة عرب؟ دعوا الأمر لي إذن! هل تأكلون الطعام الحراق؟ وهل تريدون شيئًا من النبيذ المغربي أو الفرنسي؟”
قام زياد بالترجمة، فتبادلنا نظرات سريعة، ثم أجمعنا على الموافقة على كل شروطه، فتركنا له أمر انتقاء الأطباق، وحتى نوع النبيذ. لم يكن يسير بين موائد المطعم الكاملة العدد، مثلما يسير باقي الخلق، بل قل إنه كان يجري، يرمح، بل يطير بينها، وبين المطبخ، يركض نحوه بطلبات الزبائن، ثم يهرول منه حاملًا صحونًا متراصة، يمسك بها كالأخطبوط بين أصابعه، فيصنع منها باقتين من الأطباق، ما بين أصابعه العشرة، ثم يطير عائدًا بالأطباق الفارغة، وهكذا جيئة وذهابًا، حتى أنه كان يتزلج أحيانا من فرط السرعة، بين مائدة وأخرى، كالمتزحلقين فوق سطح الجليد. وسرعان ما وضع أمامنا زجاجة نبيذ مغربي أحمر وأربع كؤوس، ولكنه اعتذر عن تقديم النبيذ بالطريقة التقليدية، لأنه كان يعمل بمفرده تلك الليلة. كان العرق يتصبب منه وهو يعود بصحون مزركشة، تحمل بداخلها وجبة الكسكسي، الممزوجة بالخضروات، وقطع اللحم، والصلصة الحمراء، تطل منها رؤوس الفلفل اللاذعة المخيفة.
صار الكسكسي المغربي هذا، من أشهى ما أكلت منذ تركنا الإسكندرية. ثم بعد العشاء، بعد أن فرغنا من الأكل، قدم لنا الشاب المغربي إبريقا من الشاي الأخضر، وقطعًا صغيرة من الحلوى الشبيهة بالحلويات الشامية، وقال إنها هدية منه إلينا لأننا تحملناه وهو يعمل بمفرده، ثم لأنها كانت تجربتنا الأولى مع المطبخ المغربي. كانت بادرة لطيفة من قِبله. ومع الوقت، هدأت وتيرة العمل، وبدأ الزبائن ينصرفون، فجاء إلينا الشاب متسائلًا عن الطعام، وما إذا كنا تقبلناه. أغرقناه مديحا، ثم سأله زياد عن السبب في عمله بمفرده طول الأمسية. فما كان منه إلا أن سحب مقعدًا خاليًا قرب المنضدة المجاورة لنا، وجلس إلى طاولتنا. سألنا إن كنا من باريس، فأجابه زياد:
“الإخوة من مصر، والسيدة من بودابست، وأنا من بيروت.”
فتهلل وجهه المغربي وهو يقول:
“أوه مصر! بلد أم كلثوم! والدي كان مجنونًا بها، ولم يكفّ عن ترديد حديثه عن رؤيته إياها فوق مسرح الإليزيه، قبل أربعين عامًا أو أكثر! ولايزال الشيخ يستمع لأغنياتها بالبيت، وهكذا فقد تعرفت أنا عليها منذ صغري. لست أنكر أني كنت أكرهها في البداية، ولكن مع الوقت صرت أحب أغانيها، وخاصة ’أنت عمري‘ أغنيتها المفضلة لديَّ! لكن هل يتحدث الجميع الفرنسية هنا؟ لا أعتقد أنّ السيدة الحسناء تفهم الفرنسية! حسنٌ، بما أني لا أتكلم المجريَّة أيضًا، أو حتى العربية، سوف أتحدث بإنجليزيتي العرجاء!”
اغتاظ زياد لهروب دفة الحوار بعيدًا عن سؤاله، وربما لتجاهله التعليق عن بيروت، فعاود بإلحاح، ولكن بالإنجليزية هذه المرَّة:
“لكنك لم تجبني عن سرّ عملك بمفردك هكذا!”
أطرق الشاب وصمت لبرهة، ثم واجه زياد وهو يبوح بحسرة:
“أخي الأصغر تغيَّر يا صاحبي! كان ذراعي اليمنى هنا، إلى جانب أختي وزوجتي بالمطبخ. لكنه تحول بين ليلة وأخرى. لست أدري لتبدله سببًا، لكنه تذمر قبل أسبوع واحد، لأننا نقدم النبيذ بالمطعم. ظننته يسخر أوّل الأمر فضحكت منه، فالنبيذ في فرنسا كالماء في بلادكم، من مستلزمات المائدة، وليس بخمر بالمعنى الشائع!”
فوافق زياد بقوله:
“هذا صحيح، مثلما كان العرق بلبنان، والبيرة بمصر، قبل أن تتبدل الأحوال!”
فسارع المغربي:
“تمامًا! هذا هو بالضبط ما أعنيه؛ ’تتبدل الأحوال‘ هو ما حدث لأخي على نحو مفاجئ، وكأنه انقلب من شخص لآخر ما بين يوم وليلة. بدأ بالنبيذ، ثم لأنني أتضاحك مع الزبائن أحيانًا، بعد ذلك نهرني لأني لا أتوقف عن العمل لأصَلِّي. وحتى الأمس، حين أعلمني بأنه لن يعود للعمل معي، فظننته يمزح أولا، ولكنه بالفعل لم يأت اليوم، ثم امتنع عن الردّ على الهاتف. كأننا نهرّج هنا، أو نأتي إلى هنا لنُلهي أنفسنا، ونقتل فراغنا! أقسم بالله، سوف يكون عقابه شديدًا الليلة!”
استأذن وانصرف عنا بحجة خدمة الزبائن، ولكنّ الحزن والغضب كانا قد تملكا منه إلى أبعد الحدود.
علقت سيسي قائلة:
“أتدركَ الآن يا زياد لِمَ صدَّقنا الأب فرانسوا؟ ولمَاذا عاد كانديد للحياة من جديد؟”
ركبنا المترو، وعدنا إلى الفندق. في الطريق إلى غرفتنا، كنت أتساءل إذا ما كانت ثمة قرابة بين صاحب الفندق السيد عدنان الأخضر، والشاب المغربي صاحب المطعم، الذي لم نسأله عن اسمه أصلًا!
نمت كما لم أنم منذ تركت منزلنا بالإسكندرية.
زارتني ثريا في الحلم، تراءت لي مبتسمة أوّلًا، وكأنها تشجعني، ثم تجهمت بعض الشيء، ثم اتسعت عيناها فزعة، وكأنها تنذرني بخطر وشيك، لكنها ما لبثت أن عادت تبتسم من جديد، وصارت تربت بحنان فوق كتفي، فأفقت.
كان ضوء الفجر الخفيت قد بدأ يتسلل عبر نافذة الغرفة، فأدركت أني لم أستفق عند منتصف الليل، كعادتي للذهاب إلى الحمَّام، فلم أحاول معاودة النوم من جديد. بل نهضت، واتجهت إلى المغسل، لكنني أدركت أن أمير كان بالداخل، فتيقنت بأن النهار قد أوشك، لذا تأهبت نفسيًّا لليوم الجديد. تعجبت أكثر، لمَّا أدركت أن آلام الركبتين التي طالما كنت أشعر بها عند استيقاظي من قبل، قد ولّت عني، لسبب أو لآخر، رغم تركي للعصا التي كنت أتكئ عليها، هناك، بالإسكندرية.
حين نزلنا إلى الدور الأرضي، استقبلنا السيد عدنان الأخضر بسحنة مكفهرة، فقلت في نفسي “يا فتاح يا عليم!”. تمنى أمير له يومًا سعيدًا، ونحن نمر باتجاه البهو، في طريقنا إلى احتساء قهوة الصباح من الماكينة هناك.
ما كدنا نجتازه، حتى هب الرجل واقفًا، وصاح في أمير:
“ما بالكما أيها الرجال! ألم تعلما بالكارثة التي حدثت هنا بالأمس؟”
فنظر نحوه أمير في ريبة، ثم تلفت نحوي قائلًا:
“يسألني عن كارثة حدثت بالأمس، لا بد أن زياد أتى بعاهرة إلى الفندق أو مصيبة مشابهة!” ثم التفت مجددًا إليه، وهو يسأله في سذاجة: “لا، مع الأسف، ما الذي حدث؟”
رد عدنان بوجوم:
“أمس الخميس، وأثناء الاحتفالات بالعيد الوطني الفرنسي، بمدينة ’نيس‘، حيث آلاف من الناس يملؤون طريق الكورنيش، إذا برجل يقود حافلة بسرعة فائقة يدهس بها المارة، حتى تدخل البوليس وأرداه قتيلًا. مات أكثر من ثمانين حتى الآن، والقاتل يبدو أنه عربي الأصل!”
أصابنا الذهول.
تمالك أمير نفسه، فسأل السيد عدنان ما إذا كان زياد أو سيسي قد أفاقا بعد، أو علما بما حدث، فنفى الرجل. طلب منه أمير الاتصال بغرفتيهما، ففعل.
جلس أربعتنا نتناول القهوة ببهو الفندق واجمين.
لكن سيسي بادرت أخيرًا بقولها:
“لا يجب أن ننسى أننا هنا في مهمة، ويتحتم علينا إتمامها. فربما ما كان مجيء كانديد إلى فرنسا بالذات، إلا من أجل هذا الذي حدث بالتحديد!”
اقتنعنا بكلماتها، ونهضنا. في خلال ساعة تقريبًا، كنا في مواجهة الشارع المُفضي إلى دير الراهبات بشارع “دو باك”.
العطفة المتفرعة من ذلك الشارع الرئيسي، والمؤدية إلى مدخل الدير، كانت تشبه إلى حدّ بعيد “بيت السحيمي” في القاهرة، وكنت قد زرته قبل سنوات حين ألح عليَّ الدكتور رمزي ـ خال أمير ـ أن أصحبه إليه خلال إحدى زياراته مصر. عبرنا الفناء المؤدي إلى الدير، أو الكنيسة، حيث ظهرت السيدة العذراء مريم للراهبة “كاثرين لابوري”، الشابة حينذاك، نحو منتصف القرن التاسع عشر. اكتظ بهو الكنيسة بالمصلين، الخاشعين هذه المرة. لم يكونوا سائحين، أو زوارا يتسكعون لمشاهدة لوحة هنا أو تمثال هناك، كما في الكنائس التي زرناها حتى الآن. أعاد منظر تعبدهم الخالص من أيّ أمور دنيوية، إلى ذهني مشهد المتعبدين البوذيين في تايلاند، وماليزيا. وذكّرتني وجوههم المستبشرة، بملامح الدرويش القوني بالأناضول. لكنني، لم يسع قلبي شعورٌ برهبة غامضة، ملأ أحشائي منذ صرنا في حضن الكنيسة. تكلل المذبح بتمثال للمسيح المصلوب، ومن ورائه تمثال ضخم للسيدة العذراء مريم، وكأنها تعتلي سحابة. صرت أتفكر في وجودي بداخل نفس المكان الذي تجلت فيه السيدة العذراء يومًا ما، فامتلأت نفسي بتلك السكينة العجيبة، ووجدتني خاشعًا ـ مثل بقية الحاضرين ـ وغبت في صلاة صامتة.
أعادتني كفّ تربت برفق فوق كتفي، كما فعلت ثريا في حلم الليلة الفائتة، فالتفتُّ، وإذا بها سيسي تنبهني أنها لم تسمع صوتًا من أمير أو زياد لوقت لا بأس به، وتخشى من أن يكونا قد انصرفا. تلفت هنا وهناك، ولكني لم ألحظ أيًّا منهما بالفعل. وقفت، وأمسكت بيد سيسي، وتوجهنا إلى حيث احتشد كثيرون إلى يسار المذبح. تقدمنا ببطء حتى وصلنا، فشاهدت صندوقًا زجاجيًا، كمثل تابوت، مسجى بداخله جسد القديسة كاثرين لابوري، كما كتب بحروف ذهبية من تحته. لم أدر إن كان ذاك جسدًا محنطًا، أم تمثالًا من الشمع، متقن الصنع. أعترف بأن مشهد الجسد المسجى لم يؤثر فيّ، إذ كنت قد اعتدتُ رؤية المومياوات ـ وهي أقدم كثيرًا ـ بالمتحف المصري، الذي زرته كثيرًا خلال سفراتي المتكررة ـ وغالبًا ما كانت بصحبة الدكتور رمزي ـ إلى القاهرة.
لمحت أمير جالسًا القرفصاء في ركن الكنيسة، إلى يسار الصندوق الزجاجي. كان يبكي. ملت إلى أذن سيسي، فأخبرتها، ثم تركتها عني، وتوجهت نحوه بمفردي.
انحنيت فوق رأسه، وربتُّ برفق فوق شعره، فوجل، ورفع رأسه بغتة، وهو يمسح دمعه بكفيه.
سألته مترفقًا بحاله:
“ماذا بك يا أمير يا بني؟”
أجابني وهو ينهض واقفًا:
“لست أدري، لمَ ذكَّرتني هذه المرأة بأمي ’ماريا‘ رحمها الله! ربما كانت تشبهها، لست أدري، فلقد رحلت عني منذ زمن بعيد جدًا، كنت ما أزال بالمدرسة بعد، ومع ذلك أفتقدها بشدة إلى اليوم!”
وسرعان ما تمالك نفسه، ثم عدنا إلى حيث تركتُ سيسي. استفسر أمير عن زياد، فتلفتت سيسي بنظارتها السوداء حول أرجاء الكنيسة، ثم قالت:
“في الحقيقة، لست أراه في أيّ موضع!”
انفجرنا في ضحكات بريئة، كتمناها بصعوبة احترامًا لرهبة المكان وسكونه، ولخشوع المصلين. لكنّ أمير عاد فسألها:
“هلاّ بحثت لنا عن كانديد كذلك!”
فكررت سيسي نفس حركتها التمثيلية، ثم أشارت وعقَّبت:
“ثمة شخصً هناك يشبهه، ولكنني لست متأكدة من أنه هو!”
فتطلعنا بتلقائية إلى حيث كانت تشير، ومن المثير للعجب، أن وقف شاب يصلي هناك، قريب الشبه من كانديد، حتى أنّ أمير همَّ بأن يذهب إليه فعلًا، ولكنه أدرك حين أمعن فيه النظر، أنه لم يكن هو.
أما زياد، فكان قد اختفى كعادته!
خرجنا من صحن الكنيسة إلى الخارج، حتى يتسنى لنا الكلام. قلتُ على الفور:
“أنا متعجب جدًا أننا لم نلتق كانديد هنا. كل توقعاتي باءت بالفشل!”
فعقَّب أمير:
“وأنا مثلك… ولكن أين اختفى زياد؟ فلا أثر لفتيات باريس الفاتنات هنا، حيث كل رواد الدير من المسنين، وذوي الحاجة إلى المعجزات!”
علَّقت سيسي قائلة:
“ومن ذا الذي لا يحتاج إلى معجزة يا أمير، ألم يقل يسوع ’من كان منكم بلا خطية، فليرمها أوّلا بحجر‘؟”
فرد أمير:
“لكن معظمنا لا يدرك ذلك يا سيسي. كل منا يشير نحو الآخر ويدعو إلى رجمه، كما فعل اليهود بالمرأة الزانية، فلقد أتوا بها ليسوع ليمتحنوه أمام الشعب الذي كان قد تجمع حوله!”
ما كان مني إلا أن قلتُ:
“يا إلهي! ما كل هذا الجدل الروحي! هل حدث كل هذا لمجرد مكوثكما لنصف ساعة بكنيسة الدير؟ يا لها من معجزة بحق!”
ما إن انتهيت، حتى حدثت معجزة أخرى، إذ ظهر زياد مهرولًا نحونا، وهو يقول وأنفاسه المتهدجة تعلو وتهبط:
“لقد رأيته… كان واقفًا يتحدث مع راهبة عند مدخل الكنيسة… التفتُّ باحثًا عن أيّ منكم، بلا طائل… فاقتربت منه لأتأكد من أنه كانديد حقًا… لكنه ـ أظنه ـ لمحني… فسارع بإنهاء حديثه معها، وتركها ثم اختفى… لكنني لم أدعه يذهب، فأسرعت أتعقبه… وبالفعل رأيته في الفناء هذا، وكان متجهًا ناحية الشارع الرئيسي… سارعت نحوه لألحق به… انعطف يمينًا، وأنا وراءه… كان يتلفت خلفه مرَّات، بينما يعجَّل من خطاه، وكأنه يحرص على ألا ألحق به… لكنني لم أيأس، بل وكدت أن أعدو عقبه… لكنه لمّا عاين إصراري، أشار إلى سيارة أجرة، ثم قفز بداخلها، واختفى… لست أدري السبب، ولكن كانديد لا يرغب في أن نعثر عليه… صرت واثقًا من هذا!”
قلت له:
“اهدأ الآن، واسكن. لقد فعلت كل ما في قدرتك!”
أما أمير فجذبه من ساعده وهو يقول:
“لابد أن نجد تلك الراهبة التي كان يتحدث معها كانديد، هيا بنا إلى الكنيسة من جديد، قبل أن تختفي هي الأخرى!”
استجاب له زياد، فتركانا واقفين عند منتصف الباحة المؤدية إلى الكنيسة. ولم أشأ أن أجرجر سيسي وراءهما إلى داخل الكنيسة من جديد. وبالفعل، لم تمرّ سوى بضع دقائق حتى عادا متهللين، وصاح أمير فينا:
“وجدها زياد! وأكدت الراهبة حديث كانديد إليها. بل وسألها عما حدث في ’نيس‘ وعن هؤلاء الفرنسيين العرب. فقالت إنهم مسلمون، لكنهم يكرهوننا لأننا مسيحيون! فسألها بدوره ما إذا كانت هي تحبهم، فأجابته بأنها لا تكرههم. ثم ما كان من كانديد إلا أن تساءل عن المؤمنين بحق! فجاوبته متلعثمة ـ إذ بدا وكأنه في عجلة من أمره ـ بأن بإمكانه أن يذهب ليبحث عنهم في الفاتيكان!”
قهقهت سيسي عندما أتمّ زياد كلامه، أما عن نفسي، فلقد تحيرت فعلًا من ردة فعلها، إذ كنت آمل في أن نعثر على كانديد هنا في باريس.
في واقع الأمر، بتّ أشتاق إلى بلدي مصر، وإلى الإسكندرية بصفة خاصة بالطبع. بل حتى شقتنا الصغيرة، وسريري حننت إليهما. لقد طال أمد ترحالنا، فجبنا بلادًا شتى، وأنا رجل شيخ، ومن الصعب عليَّ الاستمرار هكذا، إلى الأبد. نعم أقول إلى الأبد، إذ ـ كما قال زياد قبل قليل ـ دأب كانديد على الفرار منا. أنا لا أدَّعي فهم إصراره على الإفلات منَّا، وكأننا نضمر له شرًا. وعلى فرض أنه كان يعمد إلى ترك رسالة وراءه، تدعونا إلى معرفة خطوته التالية، فأنا لم يبق لديَّ جلد لمواصلة الرحلة الدهرية. لكن، هل يتعمد كانديد الهروب منا بحق؟ أبَعد ما حدث بالأمس في “نيس”، يستطيع أحدٌ أن يأمن إلى سلامته، خاصة حين يجد عملاقًا مثل زياد، ذا ملامح شرقية، يتتبعه وهو يخرج من حضن كنيسة في دير للراهبات، ثم يصر على ملاحقته، بل والعدو خلفه حين يحاول الإفلات منه؟ ثم إنه لم يتعرف ولا شك على زياد، ولم يربط بينه وبين أمير مثلًا، لأنه لم يسلّم عليه يدًا بيد، أو يتحدث إليه مثلما فعل مع سيسي. كما أنه لا يُعقل أن يتهرب منا، من ناحية، ثم يصر ـ في الوقت ذاته ـ على ترك خيط لنا، من أجل اللحاق به.
ومع كل ذلك، قررت أن أعود إلى مصر.
ولكن، ماذا عن أمير؟ وكيف يتقبل فكرة تخلفي عن مصاحبته. لقد اعترف لي في أول الأمر بالإسكندرية، بأنني الوحيد القادر على مساعدته في العثور على كانديد، وإنقاذ هذا العالم من شروره. ثم إنه وزياد لا يتفقان إلا نادرًا، ولولا تدخلي في معظم الأحيان، لتعاركا ثم انفصلا منذ كنا في بانكوك. كما أني لا أشك لحظة، في أنه سوف ينهار نفسيًا ـ على الأقل ـ إذا ما واجهته برغبتي في العودة.
وفي النهاية، كيف يتأتى لي أن أرحل من هنا بمفردي، وهل أجرؤ أن أطلب من أمير أن يبتاع لي تذكرة سفر، حتى يتسنى لي أن أعود إلى الإسكندرية، بينما يواصل هو بحثه عن كانديد بمفرده؟ وهل يقبل أن يكافئني على خيانة العهد الذي قطعته على نفسي، يوم وافقت على اصطحابه في تلك الرحلة، أم إنها كانت مجرد رحلة للسياحة والاستجمام، واليوم حان الوقت للعودة؟
ثم ماذا عن سيسي؛ تلك المرأة الضريرة، التي تعاني الوحدة، وتهرب من صلف وإذلال أغلى الناس وأقربهم إليها، إنها تحتاج إلى معونتي في كل لحظة. صحيح أنها عاشت حياتها بطولها، دون اللجوء إلى خدماتي، ولكن أية حياة كانت تعيشها تلك المسكينة؟ بين الظلام الأبدي الذي سجنت بين جدرانه، والابن العاق الذي يهينها ويضربها من أجل المخدر اللعين! لا شك في أنها تبدو أكثر سعادة الآن، مقارنة بالحال التي وجدناها عليها في ذلك اليوم القريب البعيد، أمام الفندق ببودابست. ثم إنني بدأت أكنّ لها مشاعر دافئة، لم أتخيل أني قادر على أن أكنّها لأيّ إنسان، منذ رحيل ثريا. فماذا يصير من أمرها، إذا ما قررت فجأة أن أتركها وأذهب؟ ولأيّ سبب، وبأيّ مبرر؟ وهل يكفي “الحنين” عذرًا؟
عدنا إلى الفندق، بالرغم من أن النهار لم يكن قد انتصف بعد. التزم كل منا صمتا مريبا، وعمّت المكان غمامة حزينة، كأننا نشارك في عزاء عزيز علينا.
ما إن دلفنا عبر البوابة، حتى لاقانا السيد عدنان الأخضر بفرحة، متناقضة مع الوجوم الذي كان قد استقبلنا به عند الصباح؛ حتى أنه دار حول مكتب الاستقبال قائلًا بالفرنسية:
“أين كنتم يا أصدقائي؟ وماذا عن هاتفك يا زياد، لقد اتصلت بك نحو خمس مرات دون جدوى!”
فأجابه زياد:
“كنا في زيارة دير الراهبات بشارع ’دو باك‘، وبالفعل ماتت بطارية تليفوني، إذ لم أشحنه ليلة أمس! ولكن لماذا حاولت…”
قاطعه عدنان بقوله:
“قبل نحو نصف ساعة، وبينما كنت أصلي صلاة العصر، هنا خلف المكتب…” وأشار بيده إلى المكان، ثم أكمل بعجالة: “إذا بشاب يقف أمام المكتب، ثم ينحني من فوقه ليتابعني في سجودي وقيامي، حتى انتهيت. سألني الشاب عما كنت أفعله، فارتبت منه، وخاصة بعد ما حدث بالأمس في ’نيس‘، فقلت له كنت أصَلِّي!” سكت برهة ليلتقط أنفاسه، ثم أكمل بالانفعال نفسه: “سألني الشاب عن ديانتي، فزاد شكي إذ لا يمكن ألا يكون قد رأى مسلمًا يصلِّي من قبل! لكني أجبته بهدوء: مسلم. لكنه قال كالمعتذر بأنه كان صديقًا لدرويش مسلم من الأناضول لعدة سنوات، ولم يشاهده يصلِّي مثلي مطلقًا!” تبادل عدنان نظرات تعجب مع زياد، ثم استمر: “قلت له إني لست أعرف السبب، فسألني عندها عن السيد أمير!” وهنا اتجه السيد عدنان الأخضر نحو أمير، موجهًا حديثه إليه: “قلت له إنكم خرجتم منذ الصباح، فسألني إن كنت أعرف رقم هاتفك، فأجبته لا، بل صديقه السيد زياد، فطلب مني أن أحاول أن أطلبك.” ثم استدار ناحية زياد، وأكمل: “بالطبع لم تردّ، فحثني أن أحاول عدة مرات، ثم في نهاية الأمر، طلب مني أن أعيره ورقة وقلما، وترك لكم هذه الرسالة.” سحب ورقة من درج أمامه، وأعطاها لأمير.
أخذ أمير الورقة، وقام هو وزياد بترجمة حديث السيد عدنان الأخضر، بينما كنا نتجه إلى بهو الفندق، حيث جلسنا حول أمير، الذي بدأ في ترجمة الرسالة المكتوبة بالفرنسية فوق الورقة:
“أصدقائي الأعزاء، كم كنت أودّ لقاءكم هنا في باريس، لكنني للأسف لم أتمكن من ذلك. على أيِّ حال، فأنا أدعوكم للقائي بعد غد في ’الكابيلا سيستينا‘ بالفاتيكان في روما. لكنني أنصحكم بألا تتركوا باريس قبل قضاء يومٍ بمتحف اللوفر… إمضاء… كانديد!”
رفع أمير عينيه البنيّتين نحونا وهو يكاد أن يدمع من شدة التأثر، وسأل:
“وما هي تلك ’الكابيلا سيستينا‘ يا ترى؟”
فأسرعت سيسي تجيبه بالإنجليزية المصحوبة باللكنة المجرية:
“هي الـ ’سيستين شابل‘ الكائنة في المقر البابوي في روما!”
فعلقتُ أنا:
“إذن فكيف لنا أن ندخل إلى المقر البابوي، وذلك المكان؟”
فرد زياد ضاحكًا:
“يا سيد عاطف ’سيستين شابل‘ هو متحف عام بداخل الفاتيكان. ألم تسمع بلوحة “الخلق” لمايكل أنجلو التي رسمها بسقفها؟”
“نعم… نعم… بالطبع أعرفها، ولكني لم أدرك الاسم، لأوّل وهلة.”
وهنا توتر أمير، وارتبك، فاندفع يقول مدافعًا عني:
“وأنت يا زياد، ألم تسمع عن اللياقة، ألم تتعلم آداب الحديث مع من هم أكبر منك سنًا ومقامًا؟ وهب أنه لا يعرف اسم المكان، فأيّ عيب في ذلك؟، ’سيستين شابل‘ أو الكابيلا سيستينا‘ ليست بالأسماء الدارجة عندنا… سيستين شابل… كابيللا سيستينا… سيستين شابل… كابيللا سيستينا… سيستينا… سيستينا… ستينا… تينا… تينا…تينا…”
ثم بدأ يتلعثم، وانطلقت الكلمات تتواتر من فمه كالرصاصات، وبتلقائية رفع الورقة نحو ثغره محاولًا أن يكتم تلك الكلمات، وبطريقة ما، أن يكبتها ويعيق خروجها المخزي، فصار يكمش الورقة ويحشرها حشرًا داخل فيه. وفي لمح البصر، هببت نحوه محتضنًا إياه، وأقمته معتذرا لسيسي وزياد. أخرجت الورقة برفق من فمه، إذ خشيت أن تخنقه، ثم صعدنا معًا إلى غرفتنا بالطابق الثاني، حيث هدأت من روعه. أعطيته حبة من دوائه، وجرعة ماء، ثم أجلسته فوق السرير أوّلًا، وبعد لحظات رفعت رجليه، وطلبت منه أن يستلقي، ويغمض عينيه. ثم بدأ يهدأ بالتدريج، فانتظمت أنفاسه، حتى بدا لي وكأنه نام. أمضيت الليلة بطولها عند حافة سريره، أرقبه. لم يستفق من جديد، وتمثلت صورة طفل، أو طيف ملاك فوق وجهه، بينما ظللت أتابع كل خلجة من خلجاته. أخيرًا، ومع الساعات الأولى من الفجر، تملك مني التعب، فنمت.
بالفعل، استجبنا لنصيحة كانديد، فقضينا يومًا كاملًا بمتحف اللوفر، بعد أن ودَّعنا السيد عدنان الأخضر، عند صباح اليوم التالي.
استقبلتنا ساحة المتحف أوّلًا بالهرم الزجاجي الأشهر. في الداخل تجولنا في رحلة عبر الزمن، متتبعين فنون الإنسانية منذ أصولها المصرية عند ضفتي النيل، مرورًا بالحضارات السومرية، والبابلية، والفارسية، حتى الحقبة الإغريقية، ثم الرومانية، وحتى الإسلامية. ثم طالعتنا فنون القرون الوسطى في أوروبا، فشهدنا لوحة “الموناليزا” لليوناردو دافنشي، التي فوجئت بصغر حجمها. ولكنني انبهرت بلوحات رافاييل، ومايكل أنجلو. ثم تتبعنا الفنانين الفرنسيين من أمثال دافيد، ولوحته الشهيرة “تتويج نابوليون”، ودي لا كروا، ولوحة الثورة الفرنسية المعروفة “الحرية تقود الشعب”. تبين لي عند نهاية اليوم، كم كانت نصيحة كانديد ثمينة، فما كان ينبغي لرحلة باريس أن تكتمل دون زيارة اللوفر.
بعد أن خرجنا من المتحف، ورغم الإحساس بالتعب الذي تملك مني، فإن أمير وسيسي قررا تقديم وصلة من فنونهما، في مقابل بضع قطع معدنية من فئة اليورو، تصلصل في صندوق الكمان المفتوح! لكنّ جوًّا حزينًا كان قد ساد جراء ما حدث في “نيس”، فلم يتحمس السياح لاعتبار فنّ أمير، ولا عزف سيسي، فلم يجمعا إلا القليل من المال.
ومع حلول المساء، اتجهنا نحو محطة القطار لنستعد للسفر إلى روما. لكننا فوجئنا بكم من رجال الشرطة، يتفحصون أوراق المسافرين بدقة وحزم. كان ذلك بالطبع من تبعات ما حدث في “نيس” فتفهمنا الأمر من جهتنا، إلا ـ بالطبع ـ زياد الذي شرع يتذمر بسبب خوفه من أن يفوتنا القطار. تدخلتُ على الفور، فأمرته في حسم بأن يصمت، فانصاع.
حين تفحص الشرطي جوازات سفرنا ـ في ما عدا سيسي ـ أدرك أننا شرق أوسطيون، وجئنا من تركيا، قبل أن نذهب إلى شرق آسيا، ونصل بعدها إلى عدة دول أوروبية، خلال مدة وجيزة، فطلب منا بكل أدب أن ننتحي جانبا حتى حضرت شرطية أخرى يبدو أنها كانت رئيسته. سألتنا عن سر ترحالنا المريب هذا. ردّ أمير نيابة عن ثلاثتنا، فاختار أن يصارحها بحقيقة رحلتنا، كما هي. آثر ألا يسعى لاختلاق حكاية، قد تبدو أكثر منطقية، لئلا يتلعثم أحدنا فنثير شكوكًا حولنا، نحن في غنى عنها. بالطبع بدت الدهشة على وجه الشرطية، لكنها ارتأت صدقه رغم غرابة ما كان يبوح به. لكن بسبب تدافع الناس وكثافة الزحام ورائنا، وربما لتقدمنا في العمر أيضا، سيسي وأنا، لعل ذلك كله هو الذي جعل الشرطية ترد جوازات السفر وتدعونا للمرور، متمنية لنا بابتسامة مصطنعة ـ لكن لطيفة ـ سفرة سعيدة.