« في براج، حجزنا ثلاث حجرات متجاورة، بفندق في وسط المدينة. الأسعار كانت زهيدة مقارنة مع فيينا، أو حتى بالمقارنة مع بودابست. اتضح لنا مرة أخرى أنّ سيسي كانت قد زارت هذه المدينة عدة مرات من قبل، فساعدتنا في اختيار الفندق الذي كانت كل حجرة به، عبارة عن غرفة نوم ملحق بها حمام، وعند طرفها ركن صغير به موقد كهربائي وبراد للشاي ومقلاة وحلة طعام، وبضعة أكواب أيضًا، وأطباق، وملاعق، وشوَّك، وسكاكين.
ولكن الأهم كان في دراية سيسي الواسعة بالبلدة.
شرحت لنا خطة للبحث عن كانديد في براج إذ كانت تعرف بدقة، أماكن دور العبادة الشهيرة فيها التي توقعت أن تثير فضوله لزيارتها. كانت المفاجأة في وجود معابد يهودية كثيرة، بالإضافة للكنائس الكاثوليكية والأرثوذوكسية، كما نصحت أيضًا بزيارة “دير بريفنوف الأثري”، تلك الزيارة التي سوف تحمل لنا مفاجأة طريفة.
كالعادة، لم يضيِّع أمير وقتًا طويلًا بالفندق؛ فما إن وضعنا حاجياتنا، حتى ابتلع حبوب دوائه، ثم اتجه نحو حجرة سيسي، وسألها عن أولى الوجهات التي تقترحها لنا. عند بهو الفندق الضيق، أشار الموظف نحو حامل خشبي مرصوصة فوقه خرائط وكتيبات دعائية لمختلف الأماكن السياحية بلغات مختلفة. وبذكاء فتح أمير خريطة المدينة أمام زياد، وطلب منه أن يبحث خلالها عن أقرب الأماكن إلينا بمساعدة سيسي. وبالفعل رفعت سيسي رأسها نحو السقف وكأنها تتلقى وحيًا يأتيها من علٍ، وتحمس زياد، وشرع يضع علامات ودوائر فوق كل الأماكن التي تشير المرأة لأسمائها، حتى امتلأت الخريطة، فأصبحت بمثابة خطة هجومية محكمة الجوانب.
كانت وجهتنا الأولى “كاتدرائية القديس فيتوس” الواقعة في قلب المدينة بوصفها جزءًا من “قلعة براج” حيث كان يتم تتويج البطريرك الجديد. تمشينا إليها عبر “جسر تشارلز” الحجري الشهير، المار فوق نهر “فلتافا” المتناثرة إلى جانبيه مجموعة فريدة البهاء من التماثيل الداكنة. ملأ السائحون المكان، وتناثر إلى جانبيه عازفو الموسيقى، والرسامون، وبائعو التذكارات.
قال لي أمير وهو يشير إلى كل هؤلاء البشر:”أيّ واحد من هؤلاء، يمكن أن يكون كانديد، فكيف يمكنني التعرف عليه؟ أأقف مثلًا في وسط هذا الجسر لأنادي باسمه لعله يستجيب، أم ماذا عساي أن أفعل؟”
هززتُ رأسي، مؤكدًا عجزي عن الإجابة عن تساؤله. استمررنا في التقدم حتى اجتزنا بوابة حجرية عالية، يقف على قمتها مجموعة من الحراس يرتدون أزياء من عصور قديمة بهية الألوان، وهُم يعزفون آلاتهم النحاسية. رغم حيرتي من تساؤل أمير، فإن الجو العام وروعة منظر النهر المنساب تحتنا، والمحاط بالتلال الخضراء، المرشقة بالبيوت الملونة إلى جانب، والقلعة البيضاء الشامخة الهالة إلى الجانب الآخر، جعلانا نشعر كأننا نذوب فوق لوحة للتشيكي “جارو بروتشاسكا”. امتلأت بالنشوى والنشاط، حتى بدا المشوار المفضي إلى القلعة نزهة يسيرة، حتى بالنسبة إلى شيخ مثلي.
وصلنا إلى الكاتدرائية، فوجدناها من التراث القوطي أيضًا، مثل كنيسة سان ماثياس ببودابست، ولكنها أضخم وأفخم بمراحل. سررت لمَّا قرأت في كتيب مصفوف فوق طاولة خشبية بالمدخل، فعلمت بأن القديس فيتوس كان راعيا للفنانين، ونصيرا للراقصين، وواقيا من الرعد، وعقر الكلاب، والإطالة في النوم!
شاركتهم بتلك المعلومة الطريفة فضحكنا، وعلَّق زياد وهو يصفق براحتيه:
“هو راع للفنانين! إذن فلقد اقتربنا خطوة من كانديد، بركاتك يا سان فيتوس!”
فنظر إليه أمير شزرًا، ثم صاح في وجهه قائلًا:
“احترم نفسك يا زياد! أكنت تسامحني لو كنا الآن في داخل ’مسجد الحسين‘ مثلًا، وصفقت مثلك، أو تضاحكت من المتمسحين بسور الضريح؟”
فسارعت أهدّئه قبل أن يتصاعد الموقف، وقلت:
“إنه يمزح يا أمير، ولا يقصد أن يسخر، أو يسيء لأحد!” ثم اعتدلت مواجهًا زياد:
“أليس كذلك يا زياد؟”
وهنا تدخلت سيسي لأول مرة زاعقة:
“ما لعب العيال هذا؟ فليقل ما يشاء، أو يسخر ممن يريد، هل عيَّنك أحد حارسًا للفضيلة هنا؟”
فانبرى أمير مدافعًا:
“أرجوكِ يا سيسي لا تتدخلي، فالموضوع له خلفيات متشابكة هناك، من حيث جئنا!”
فردَّت المرأة على الفور:
“لكنكما هنا الآن! إذا اخترتما العراك، فلترجعا إلى هناك فورًا!”
لهجتها الآمرة فرضت عليهما الصمت.
لكنهما سارا منكسين رأسيهما، فشعرت بالذنب لأنني أنا من أثار الأمر في الأساس بقراءة ما قرأت عن القديس فيتوس.
اقتصر شأن البحث عن كانديد داخل بهو الكنيسة الشاسع، الممتلئ بالسياح، على سيسي الضريرة، وعليَّ أنا الشيخ الذي لا يكاد يتبيّن موقع قدميه. ولم يصادفنا كاهن، أو راهب، أو أي شخص نستطيع أن نستطلع منه، كما حدث معنا من قبل.
في ركن من القاعة، فوجئت بشاب يحتضن فتاة ويضمها إليه بشدة، ثم ما لبث أن شرع يقبّل عنقها، ثم بدأ يلثم شفتيها، وسرعان ما دس يده تحت قميصها تعبث بسخونة وقحة. ارتبكت من المشهد، ولكنني لم أستطع أن أنبه سيسي لتشهده معي، بعد أن انصرف عنا أمير وزياد. تلفتُّ أبحث عن شرطي أو رجل أمن يحرس الكنيسة، ولكنني فشلت. تعجبت من عشرات الزوار من حولي الذين مروا بالمشهد، ولم يتوقفوا، أو يعترضوا ولو للحظة. نبهتني سيسي متسائلة عن سبب توقفي، فهمست في أذنها أصف لها المشهد. لكنها جذبتني من يدي وهي تسرع من خطاها وتقول:
“هلم بنا، هذا الأمر لا يعنينا، ولا شأن لنا به!”
انجررت وراءها في دهشة طفل تسلَّه أمه بعنف، من أمام نافذة غرفة نوم الجيران المطلة على شبَّاكهم.
وجهتنا التالية، كانت نحو كنيسة “سان جورج”؛ وهي كنيسة أثرية، جدرانها حجرية، وسقفها الخشبي يتجوّف عند طرفه البعيد في شكل قباب مزينة برسوم فرسك بديعة. الكنيسة كانت أصغر كثيرًا من كاتدرائية القديس فيتوس، لذلك كان من السهل تفحص وجوه كل الموجودين في بحثنا عن كانديد.
بلغ الصمت بيننا مداه، منذ أن صرخت سيسي في وجه أمير وزياد في البداية، ثم بعد أن جرجرتني إلى خارج الكاتدرائية. بات من الواضح فشلنا في تحقيق مهمتنا، كما افتقدنا لذة رحلتنا وشغفها، حتى وإن لم نتمكن من العثور على كانديد. ما إن خرجنا من الكنيسة، حتى توقفت عن متابعة المسير، واستوقفتهما قائلًا بالعربية حتى لا تفهمني سيسي:
“هل يعجبكما حالنا هذا؟ كأننا نسير في موكب جنائزي، أو نؤدي واجبًا ثقيلًا. ماذا بكما؟ هل سافرنا كل تلك المسافات البعيدة هباء؟ ماذا عن مهمتنا، ألا يمكنك يا زياد أن تتحكم في تعليقاتك ولو قليلًا؟ ألا تقدر أن تتسامح قليلًا يا أمير، وأن تلين حتى ولو تصرف زياد بما لا يليق ـ من وجهة نظرك ـ فربما يكون له رأي آخر؟”
لدهشتي، شعرا بالخجل، فاعتذر الواحد منهما للآخر، بل وتعانقا. استشعرت بأنّ سيسي أدركت كل ما كان بينهما، فتبسمَت، وأكملنا المسير. ثم سألت إن لم نكن قد أحسسنا بالجوع بعد، فتصايحنا ببهجة مصادقين.
كان المساء قد بدأ يميل، فعرجنا إلى حانة ضيقة لتناول طعام العشاء. وجدنا فرقة صغيرة تستعد لأن تعزف، واكتشفنا عزفهم لموسيقى الجاز، بينما أمسينا نتناول طعامنا، مستحسنين مذاقه، وممتدحين أداءهم. وفي مسيرنا نحو الفندق، أعلنت سيسي بأنّ وجهتنا في الغد ستكون نحو الحي اليهودي القديم و”المعبد الإسباني” هناك.
امتعض زياد، ثم عقب قائلًا:
“أرجو أن تعفوني من هذه الزيارة.”
فردت سيسي على الفور في قلق:
“لمَ يا زياد؟ ماذا بك؟ هل تشعر بشيء؟ هل ألم بك مرض؟”
جاوب زياد بعد لحظات من التفكر:
“لا عليكِ يا سيسي! أنا بخير، ولكنني لا أستطيع الدخول إلى معبد يهودي!”
فتساءلت سيسي على الفور:
“ولم لا؟”
“لأسباب دينية!”
“قد أصدقك لو كنت تنشد التعبد فيه، ولكننا نبحث عن كانديد يا صاحبي!”
“أعرف ذلك، ولكنني لا أقدر!”
زفرت سيسي متأففة، ثم أسرعت من خطواتها، يتقدمها طرف عصاها الذي كان يتخبط يمنة ويسرة في عصبية، فسبقتنا بمسافة. ثم تلفتت وقالت:
“أنتم قوم متعبون! صباح الغد، سوف أعود إلى بودابست اللعينة!”
نظرتُ نحو زياد مستعطفًا، فطأطأ من رأسه خجِلًا. لكنه أسرع من خطواته حتى لحق بسيسي، واستوقفها ثم قال:
“حسنٌ يا سيسي، سأصحبكم، ولكني لن أرتدي القبعة اليهودية فوق رأسي!”
فأجابته سيسي:
“وماذا لو أصروا؟”
“لن أدخل إذن!”
“لا أعتقد أن أحدًا سوف يجبرك على ارتداء أية قبعة، وإن كنت لا أفهم ماذا يمكن لقبعة لعينة أن تفعل برأسك، أسوأ من هذا!”
“أرجوكِ يا سيسي! أنا لا أسمح! ثم إنك لا تعرفينني إلى حد كاف حتى تنتقضي خياراتي!”
“أنا لا أنتقضك أنت، بل أفكارك، على كل حال فالمنطق البسيط هو غريمك!”
“وهل يبيح المنطق البسيط لليهود أن يحتلوا أرضي؟”
“آه! اليهود، بل قل الإسرائيليون! لكن الأمر طُرح مرات ومرات على القادة السياسيين دون جدوى! هؤلاء وأولئك السياسيون لا يريدون حل الأزمة، وهم أنفسهم من أحالوا القضية برمتها إلى مناطحة دينية، حتى يكتسب كل طرف أصوات العامة وقلوبهم!”
“هذا رأيك، ولكن لي رأي آخر؛ فهؤلاء اليهود وضعهم الاستعمار ليكونوا شوكة في ظهر العرب على الدوام.”
“لكن بعض هؤلاء اليهود كانوا في فلسطين منذ بداية التاريخ. لكن ما علينا! هل تعتقد بأن امتناعك عن دخول المعبد اليهودي سوف يساهم في حل المشكلة؟”
“بالطبع لا، لكنني أسجل موقفي الرافض للوضع!”
“حسن، وأنا أقول لك إنك بدخولك المعبد قد تجد كانديد؛ النقطة البيضاء الوحيدة في ذلك العالم الشرير، كما يقول أمير، وحينئذ تساهم في الحل بدلًا من أن تشارك في التأزم.”
“إذن سوف أدخل المعبد، وأبحث معكم عن كانديد، ولكنني لن أرتدي القبعة. هذا خياري، وأنا مُصِّر عليه!”
في الصباح توجهنا إلى الحي اليهودي القديم، بعد مسيرة عشر دقائق من الفندق. تجلّى تمثال “فرانز كافكا” البرونزي الجالس فوق بدلة خاوية أمام المعبد، بمثابة إعلان عن دنيوية الزيارة. كانت تلك هي أول مرة أدخل إلى معبد يهودي، أنا أيضًا.
دهشت من تشابه طرازه مع طراز أيّ كنيسة أو جامع بمنطقة وسط البلد بالإسكندرية أو القاهرة، كما كان الطراز العربي الهندسي بنقوشه المتكررة جليًا، فلم أشعر بالغربة داخله كما كنت أتوقع. لم يجبرنا أحد على ارتداء أية قبعة، فلم تثر المسألة من جديد مع زياد.
لم يكن موعدًا للصلاة بالمعبد، لذلك كان كل الموجودين من السياح يطوفون بالمعبد وهم يتأملون جمال جدرانه وأسقفه نصف الدائرية المتعانقة في جمال بديع. كان الرواد أقلّ عددا منهم في الكنائس الأخرى التي زرناها في براج، فتسنى لنا أن نتفحص وجوههم جيدًا، أما سيسي فأطرقت بأذنيها تستمع إلى لغة الزوار. لم تمض سوى لحظات حتى وجدت سيسي ضالتها في شاب يتحدث الألمانية مع امرأة بجواره، فتوقفت. بدأت الحديث بعد أن تعمدت أن تُسقط عصاها أمامه، ثم سألته بالإنجليزية:
“هل تستطيع يا سيدي أن تساعدني في التقاط عصاي؟”
فانحنى وحمل العصاة إليها، ثم رد الشاب بإنجليزية ملفوفة بلكنة قوية:
“بلا شك، ها هي ذي سيدتي!”
سرعان ما التقطت سيسي العصاة، وطرف الحديث بحذق وقالت:
“أنا غريبة عن براج، وأرى أنك غريب مثلي… ها ها… لا أعني كلمة ’أرى‘ حرفيًا، ولكني سمعت لكنتك، فأدركت أنك ربما تكون ألمانيًا أو فرنسيًا، فهل صحّ حدسي؟”
ردّ الشاب بلطف:
“في الحقيقة، أنا فعلًا من أصل ألماني، ولكني عشت بتركيا معظم سني عمري. وأنا ـ أعني نحن ـ بصدد زيارة ألمانيا لتتبع أصول عائلة زوجتي هناك!”
لم تكد سيسي أن تتمالك نفسها من السعادة، فنادت أمير بصوت مرتفع، ولم تكن تدرك أننا كنا على بعد بضع خطوات منها. فجاوبها أمير مقتربًا أكثر، ثم وجّه كلامه نحو الشاب، مادًا يمناه مصافحًا:
“أهلا بك، اسمي أمير، وهي سيسي صديقتنا ورفيقة رحلتنا، وهؤلاء هم زياد وعاطف.”
سلم عليه الشاب مبتسمًا وهو يقول:
“مرحبًا، سعدت بمعرفتكم. أتمنى أن تقضوا وقتًا طيبًا في براج. عفوًا فقد كنا في الطريق إلى الخروج، حين وقعت عصا السيدة… سيسي؟”
ترك يد أمير تسقط، وفي لحظة، بينما بقي أمير متسمرًا في مكانه، مذهولًا مما حدث لتوه، كانا قد اختفيا خارج المعبد.
أسرع زياد وراءهما ليقتفي أثرهما، لكنه لم يفلح، إذ تبخرا وسط غابة من السائحين. وبالرغم من عدو زياد في مختلف الاتجاهات، فقد عاد بعد نحو عشرين دقيقة لاهثًا، ولكن خالي الوفاض.
حملنا الوجوم إلى الخارج، وجلسنا صامتين في حديقة جميلة، إلى جانب من ميدان مبلط واسع.
بالقرب منا كان هناك تجمع لبعض الشباب حول رجل يعزف الجيتار. ثم صاروا يغنون معه. أصواتهم المرتفعة، ومرحهم المغالي، كانت تشي بمفعول أكواب البيرة التي يحملونها في أياديهم.
منعتنا جلبتهم من أن نتمكن من الكلام ـ مجرد الكلام ـ حول ما حدث لنا لتوّه، فكففنا عن المحاولة. لكنّ سيسي لم تطق كل ذلك الصمت، فتمردت عليه قائلة بعصبية:
“هيا بنا نذهب إلى أيّ مكان آخر يمكننا أن نتحدث فيه، أكاد أن أنفجر!”
اتخذنا طريقًا جانبيًّا متفرعًا من الميدان الواسع، أفضى بنا إلى شارع واسع في منطقة سكنية، ذات بنايات تعود إلى العشرينيات، ولكنها حديثة الترميم ـ فيما بدا ـ ذات ألوان “باستيل” خلابة. هناك عثرنا على مقهى هادئ، فدخلنا وطلبنا قهوة وبعض الفطائر، وتسنى لنا أخيرًا أن نتحادث. بادر أمير قائلًا:
“لا شك عندي في أنه كانديد، والمرأة القبيحة بجواره لم تكن سوى ليدي كوناجوند!” نظر نحونا متأملًا وقع كلماته، ثم أضاف: “ملمس كفه في يدي، بارد، وصلد، كأنه مزيف… كأنه مصنوع من الشمع!”
تحمست سيسي، فقالت على الفور:
“وصوته النحاسي، الفارغ كأنه يتكلم من أعماق بئر بعيدة!”
عقَّب زياد مؤكدًا:
“اذا لم يكونا هما أنفسهما، فهي مصادفة؛ لا يمكن أن تقابلها إلا في الأفلام المصرية القديمة، مثل ’أبو حلموس‘ للريحاني.”
فعلقت سيسي:
“ماذا تعني كلمات هالموس وريهاني، ما هذه الألغاز التي تتفوّه بها يا زياد؟”
فجاوبها أمير باقتضاب:
“لا عليكِ يا سيسي، فهو يستظرف!”
فامتعض زياد، وتأهب للذود عن نفسه، لكنني قاطعته قائلًا:
“أهم إنجاز هو أننا رأيناه! نعم، لقد بتنا نعرف شكله، ونستطيع أن نميّزه الآن في أيّ شارع كان، أو بداخل أيّ كنيسة أو معبد!”
مصمص زياد بشفتيه ثم عقب مطأطئ الرأس:
“ولكن، ما أدرانا أنه سوف يواصل زيارة المعابد والكنائس من جديد؟ فربما تكون رحلته إلى ألمانيا من أجل الاستقرار بها وسط عائلة زوجته ليدي كوناجوند، أو من تبقى منهم على قيد الحياة إلى اليوم!”
ساد بعض الصمت، فقلتُ متفلسفًا:
“يقولون إن المجرم لا بدّ من أن يترك وراءه أثرًا ما، حتى ولو كان لا إراديًّا، وكأنه يتعمد أن يعثر عليه الشرطي في النهاية، حتى يتمكن من القبض عليه. في رأيي إنّ كانديد يقصد أن يَلقى أناسًا في طريقه، يفسر لهم خطوته المقبلة، وهو يعي أهمية تلك الإشارات بالنسبة إلينا. إنه يريدنا أن نتتبعه بدون شك. أضحيتُ الآن متأكدًا من ذلك!”
قالت سيسي مؤيدة، بنبرة ملؤها التفاؤل:
“أنا مع الأستاذ عاطف في رأيه. وحسب ما نعرف فإن كانديد لا بدّ يعتزم التوجه إلى مقاطعة “ويستفاليا” في غرب ألمانيا، حيث القصر الذي نشأ به، ووقع في غرام ليدي كوناجوند بين جنباته، وإن كنا ندرك بالطبع أنّ هذا القصر قد دمّر بالكامل حسب الرواية. لكني على أيّ حال أدعوكم لزيارة ’دير بريفنوف الأثري‘ اليوم، وقبل أن نغادر براج.”
بالفعل، استقللنا حافلة إلى الدير الأثري، أخذتنا إلى الشارع المؤدي إلى بوابة الدير، التي كانت تقع أعلى تل غير بسيط، اضطررنا إلى تسلقه سيرًا على الأقدام حتى بلغناها.
كنتُ ألتقط أنفاسي في مشقة حين وصلنا، ولكني سعدت بوجود مطعم صغير إلى يسار المدخل، عرجنا عليه وجلسنا، وطلبت لنا سيسي أربعة أكواب من البيرة المحلية التي قالت إن رهبان الدير كانوا يخمرونها بالدير، وبثمن بيعها للزوار، باتوا يأتون بدخل يعين الدير على الوفاء بمصروفاته. وإحقاقًا للحق كانت البيرة في “دير بريفنوف” الأثري من أطيب ما شربت في حياتي.
لم يعلق زياد ـ أو بالأحرى ـ لم يحاول أن يسخر من صنع الرهبان للخمر داخل الدير.
لكن، وعلى العكس تمامًا، فقد بدأت سيسي تعزف، كما فتح أمير كراسته وشرع يرسم بورتريهات للسياح، ولأحد الرهبان الذي كان يقوم بالخدمة في المطعم الصغير.
وفي المساء لبثت ساهرًا نحو ساعة، بعد أن نام أمير، لأدوِّن كل ما مر بنا في كراستي الزرقاء.
وبالفعل في صباح اليوم التالي، استقللنا القطار، متجهين إلى “شتاينهايم” في “مقاطعة ويستفاليا” بالشمال الغربي لألمانيا.
*الدكتور شريف مليكة، شاعر وكاتب وطبيب مصري من مواليد 1958، يقيم في الولايات المتحدة. يكتب في الشعر والقصص القصيرة والروايات. وله حتى الآن أربع دواوين شعرية بالعامية المصرية، وثلاث مجموعات قصصية، وسبع روايات أحدثها رواية “دعوة فرح” الصادرة عن دار العين للنشر في عام 2019.