أعلن البابا من العراق: “آتيكم حاجاً تائباً لكي ألتمس من الرب المغفرة والمصالحة بعد سنوات الحرب والإرهاب”. جاء حاجاً الى أرض مقدسة، مهد الأديان الإبراهيمية، قائلاً “لتصمت الأسلحة ولنضع حدا لانتشارها هنا وفي كل مكان.. كفى عنفا”. ليعني انتهاء زمن داعش ودولته المزعومة، بانتظار انتهاء عصر ولاية الفقيه وملاليه المستبدة.
للعراق جذور موغلة في القدم. انه بلد عريق. انتبه وأنا اكتب بلد عريق، هل من صلة بين عراق وعريق؟
يكتب علي الوردي، أن العراق كان مهدا لمدنيّة تعد من أقدم المدنيّات البشرية وقد قيل في المأثورات الدينية أن آدم عليه السلام كان مسكنه جنوب العراق؛ وهو مهد أول دولة نشأت في التاريخ.
من العراق انبثقت « اسطورة غلغامش » التي يعيد اليها باحثو الأديان معظم الاساطير الدينية المؤسِّسَة، « الطوفان » مثلاً.. من العراق انبثقت أولى القوانين في العالم: « شرائع حمورابي » التي لا تزال آثارها موجودة في القوانين الحديثة. « المسمارية »، اول لغة مكتوبة، وجدت في العراق. « بابل » التي نزل اليها الرب، كما ورد في التوراة، ليمنع أهلها التحدث بلغة وحيدة. جعلهم يتحدثون لغات شتى، كناية عن رفض الانغلاق لحفظ التنوع. فالعراق منذ بداياته بلد التنوع وموزاييك الأعراق والطوائف المتعايشة.
بالرغم من كورونا، سجل البابا زيارة تاريخية لبلد تاريخي ساهم في تقدم الإنسانية في محطات أساسية. نستخدم في العامية كلمة “يتبَغدَد”، بمعنى يتغنج ويتدلل ويصعب إرضاءه، وهي كلمة منحدرة من بغداد التي كانت عاصمة العالم في مرحلة ما.
ربما لكل ذلك، احتفظتُ لفترة طويلة بصورة الجندي الأميركي الذي يدوس فيها رأس عراقي، بحذائه، في العام 2003. علقت حينها، ان هذا ما ينتج حكم مستبد يدوس الحقوق والكرامات. حكم صدام حسين تسبب أيضاً بتيه الجنود العراقيين في الصحراء حفاةَ بعد أن دحر من الكويت التي غزاها.
لاحقاً، سمح الانسحاب الاميركي من العراق بالتغلغل الإيراني واحتلاله، بواسطة مرتزقته ومشغّليهم، ليفرّق شعبه ويعيث به فساداً. فيسرق ثرواته ويستكمل إفقاره ويغرقه في العنف والمشاكل والأزمات السياسية والاقتصادية فوصلت نسبة الفقر الى 40% من السكان. واستفحل ما عرف باضطهاد الاقليات. وهكذا وجد البابا الكنائس التي زارها في الموصل وفي نينوى وغيرهما لا تزال ركاماً حتى الآن، ولم يحصل سكانها بعد على المساعدات الحكومية لترميم منازلهم واستعادة ممتلكاتهم بعد 3 سنوات من خروج داعش.
جاء البابا ليدعو من بقي منهم للصمود في أرضهم.
حمل البابا، الأنسان قبل أي صفة أخرى، المتواضع الرؤوم، السلام لأرض افتقدته طويلاً، على أمل ان يتحقق. أعاد رسالة التعايش، لمهد الديانات الابراهيمية الثلاث ومسقط رأس أبي الانبياء ابراهيم. جاء العراق بعد ان زار عواصم عدة، من تركيا ألى فلسطين والأردن والمغرب والإمارات، حيث وقع في العام 2019 “باسم الله الذي خلق البشر متساوين”… وثيقة “الأخوة الانسانية من أجل السلام العالمي المشترك” مع شيخ الأزهر أحمد الطيب. جاء مستكملاً مع المرجع السيستاني، في بيته المتواضع في النجف، ما جسدته الرسالة من معاني الرحمة والسلام والعيش المشترك، إلى جانب الحرية والعدل والحوار وحماية دور العبادة.
التقى الرجلان المسنّان المتقشّفان، واحدهما بالأسود والآخر بالابيض، وكأنهما نصفا علامة الزنْ الشهيرة، فاكتملت الدائرة.
البابا، كما السيستاني، يعمل على ترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة القائمة على المساواة والتخلي عن الاستخدام الإقصائي لمصطلح “الأقليات” الذي يحمل في طياته الإحساس بالدونية، ويصادر حقوق المواطنين الدينية والمدنية، لصالح الحماية والاستتباع.
التقيا على عنوان الأخوة الإنسانية وعلى رفض الدولة الدينية لصالح الدولة المدنية التعددية. البابا يمثل المرجع الأعلى لمليار و300 مليون مسيحي في العالم، والسيستاني يمثل المرجع الأعلى للشيعة العرب، ولغير العرب في العالم، الذين لا يعترفون بولاية الفقيه كنوع من حاكم بأمره مطلق الصلاحية، التي ابتدعها الخميني ليتحكم عبرها برقاب الخلق ويغزو بلدانهم ويهدمها على رؤوسهم بأيدي بعض ابنائها.
وهكذا التقى البابا بجناحي الاسلام، السني والشيعي؛ على أمل أن يستكملا اللقاء بينهما في المرحلة القادمة. تمهيداً لمرحلة يعمل فيها جناحا الإسلام معاً لصالح بيئة عربية متصالحة مع نفسها ومتعايشة بسلام مع الدين المسيحي وكافة أديان العالم.
وبحسب مصادر عراقية، كانت الزيارة التي أعادت ألوان البهجة الى العراق، ناجحة بالنسبة للشيعة وللعراق بكافة مكوناته؛ لأنها أشعرت العراقيين ببعض الأمل وأعادت وضع العراق كدولة إلى الخارطة بعد أن دعمتهم أهم شخصية مسيحية.
دعم البابا الشعب العراقي ولم يدعم السلطة، بل انتقد الفساد والسلاح المتفلت. ولم تستطع الحكومة استغلال الزيارة لتحسين صورتها.
وعلى عادته تقبل هدية الشباب للعلم العراقي الذي كان يحمله الشاب يوسف قبل أن يستشهد، وقبّله.
في الناصرية، التي وصلته تقارير عن أحوالها، اتصل بالشعب مباشرة ومع كل الأطراف ما عدا الموالين لإيران، الذين صمتوا وامتنعوا عن الانتقاد. لكن عدم ارتياحهم كان واضحا. فإيران المنزعجة تزجّ بأنفها وتمنّن البابا: “تضحيات” قاسم سليماني سمحت لك بالمجيء!!
يبدو أن البابا يشكل مصدر اطمئنان كي يحمل مظلوميات العراقيين، فكان عتب أحد النواب السنّة انه لم يشر إلى المظلومية الواقعة على السنّة ولم يلتق بممثليهم.
أما في قرقوش أكبر مدينة مسيحية في سهل نينوى حيث مقر النبي إبراهيم في مدينة أور، فقد استقبله السكان بكرنفال من الفرح. الزيارة كانت بلسماً للجراح؛ ومن العوامل المساعدة على اعتبارها تمهيداً ممكناً لبداية جديدة، أنها جاءت على خلفية إرادة شعبية واضحة بالتغيير، خصوصاً من المكون الشبابي الشيعي الذي نزل باكراً ليهتف “إيران برّا، العراق حرا“.
فهل ستحرك زيارة البابا للعراق المكون الشيعي اللبناني ذو الانتماء العربي ليفعّل علاقاته التقليدية مع النجف وللعب دوره في إنقاذ شيعة لبنان من براثن الولي الفقيه الإيرانية، وإعادتهم إلى حضنهم العربي؟
فمرجعية النجف، المتمثلة بالسيستاني، تشدد على أن انتماء الشيعة لا يكون إلا للوطن الذي يعيشون فيه على غرار ما كان يقوله السيد موسى الصدر، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، صاحب نظرية “ولاية الأمة على نفسها” وليس ولاية الفقيه.
وعلى أمل أن تتحقق الظروف التي تسمح بزيارة البابا للبنان، لا بد من الإشارة إلى ثقل غياب المرجعية المسيحية المتمثلة بالبطريك الراعي، التي طالما كانت مرجعية المسيحيين العرب، عن المشاركة الفعالة بالزيارة. هذا مؤشر لمدى التأزم والتدهور الذي بلغته الحالة اللبنانية.
وليس أدل على ذلك من صفاقة رفض السفير الإيراني في لبنان استدعاء وزير الخارجية له، على خلفية التهجم على البطريرك الماروني. فعدا عن أن هذا السلوك يشكل خرقا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية للعام 1961؛ هو إشارة واضحة لعدم اعتراف ايران بالدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية. وهو أمر لم يسبق له ان حصل.
نسي الإيرانيون أن علماء جبل عامل هم من علّموهم التشيّع. وأن هؤلاء العلماء لم ينادوا يوماً بولاية الفقيه! ولا بدولة دينية عابرة للحدود، بل انكفأوا عن الممارسات الإيرانية وعادوا حينها إلى لبنان!!
بانتظار عودة المتفرّسين الجدد.
monafayad@hotmail.com