يتحدّد مسار التقدم اليوم بمدى “فَهْم” و”استيعاب” و”تمثّل” الحضارة العالمية الراهنة: الحضارة الغربية. قد تبدو هذه العبارة قاسية؛ ناكِئةً للجرح النرجسي النازف في أعماق الذوات الغارقة في أوهامها؛ بقدر ما تبدو ـ في أعين هؤلاء المُتوهِّمين ـ شاطِحةً بمبالغةٍ ذات نَفَسٍ أحَادي. لكنها ـ وفي كل الأحوال ـ تبقى هي الحقيقة المؤلمة التي لا يُؤثِّر التجاهل ولا الإنكار ولا التّنكر في مستوى تحقّقها: مطابقتها للواقع.
يؤكد صموئيل هنتنغتون في كتابه الجدلي (صدام الحضارات) أن مفهوم “الحضارة العالمية” إنتاج مميز للحضارة الغربية. وهذا حَقٌّ وحقيقة، فهي فعلا: عالمية، لا بمستوى عمق هيمنتها، ولا بمستوى شمولية هذه الهيمنة، ولا حتى بمستوى التوافق الطوعي المدفوع بالإغراء التقدمي الباذخ فحسب، وإنما ـ أيضا ـ وبدرجة أهم وأكثر دلالة، لكونها حضارة فريدة/ استثنائية في قدرتها على خلق الإنسان من جديد، خلق “الإنسان الحر” الواعي بحقيقة تحررّه (أي بحتمية أن يكون تحررا مستمرا/ متطورا/ ناميا)؛ من حيث هو واعٍ بِبُعْده الإنساني.
كنتُ دائما ما أكرّر أن الحضارات السابقة على الحضارة الغربية تكتسب صفة “حضارة” على سبيل المجاز؛ لا الحقيقة، بينما الحضارة الحقيقة هي تحديدا: الحضارة الغربية، بل هي “الحضارة” بألف لام التعريف المراد به الحصر. وطبعا، كان كثيرون يغضبون من هذا، لا بدافع استحقاقات التحقيق العلمي، وإنما بدافع استحقاقات ولوازم النضال الإيديولوجي.
الغاضبون من تعريف الحضارة ـ حصرا ـ بحضارة الغرب، كانوا دائما ما يُشِيرون إلى إسهام “الحضارات القديمة”، ودورها الرائد في وضع الخطوات الأولى التي مشى عليها الغرب لاحقا؛ فأسس لحضارته. ومعنى كلامهم الأيديولوجي/ النضالي أن حضارة الغرب مجرد إضافة (ربما عابرة!) على سلسلة طويلة من الحضارات التي تحكي محاولات التحضّر الإنساني، محاولاته التي لا تنتهي في مسار النمو والارتقاء.
ويترتب على هذه “الدعوى النضالية” أن حضارة الغرب ليست “حضارة غرب” يتفرّد الغرب بمجدها، بقدر ما هي “حضارة الجميع”، فمن حق الجميع أن يفتخروا بها؛ حتى وهم يُوسِعونها نقدا وتفنيدا، بل وشَتْما، فضلا عن “الشماتة الحاقدة الحاسدة” بعثراتها العابرة في بعض الأحيان !
في المقابل، كنتُ أرد على هذه الدعوى الإيديولوجية/ النضالية بأن ما قدمته “الحضارات” السابقة ليس أكثر من أبجديّات ساذجة؛ قياسا ما تأسست عليه حضارة الغرب لاحقا. صحيح أن تلك الأبجديات كانت ضرورية في مسيرة التحضّر الإنساني (ولولا اكتشاف الأبجدية لتعذر إنتاج أعظم الكتب، ولكن يبقى النسق العقلي للكتاب العبقري يتجاوز بكثير سذاجة بدايات الأبجدية).
المهم، أن هذه الأبجديات/ هذه البدايات الساذجة، كانت ـ على حد تعبير شيخنا الجاحظ ـ: “معانيَ مطروحة في الطريق”؛ لأكثر من ألف عام. كانت متاحة للجميع، ومَرّ بها أكثرُ هذا الجميع، وكانوا عنها صُمًّا وعُمْيًّا وبُكْمًا؛ ووَحْده الغَرْب قرأ واستوعب وأبدع؛ ليخلق ما هو أكبر وأعظم من “حضارة”، أي ليخلق كَوْنًا/ عالَمًا جديدًا؛ عالما يصبح هو العالم تحديدا، وما سواه هوامش على ضفاف العالم!
لكن، لا بد أن نتساءل: لماذا أبْصَرَ الغربُ؛ من حيث عَمِي الآخرون؟ لماذا أبدع الغربُ؛ من حيث قلّد وتبلّد وأخلد إلى الأرض الآخرون؟ لماذا نجح نجاحا مبهرا/ استثنائيا بأقصى معاني الاستثناء والفرادة؛ من حيث فشل وانحطّ واضمحلّ الآخرون؟
طبعا، لم يُوجَد الغرب منذ كان على هذه الحال التي جعلت منه اليوم بوصلة الإنسان في كل مكان. يقول صموئيل هنتنغتون: “الغرب كان الغرب لزمن طويل قبل أن يكون عصريا. إن الخصائص الجوهرية للغرب، تلك التي تميزه عن غيره من الحضارات الأخرى، سبقت التحديث في الغرب” (صدام الحضارات، ص149).
إذن، ثمة خصائص كامنة في التكوين الأصلي للغرب، هي ما جعلت الغرب يُبْصِر؛ إذ عَمِي الآخرون، ويُبْدِع؛ إذ تَبلّد الآخرون، وينجح؛ إذ فشل الآخرون. وهذه الخصائص ليست مما خلقتها حضارة الغرب في الغرب لاحقا، بل هي أصيلة سابقة، وبقوة دفعها الإيجابي، تمكّن الغربُ من أن يكون غربا حضاريا على هذا النحو الاستثنائي في التاريخ.
أهم هذه الخصائص ـ كما حدّدها هنتنغتون ـ ما يلي:
1ـ الميراث الكلاسيكي. وَرِثَ الغربُ الفلسفة اليونانية والعقلانية، والقانون الروماني، واللاتينية والمسيحية. صحيح أن الحضارتين: الإسلامية والأرثوذكسية ورثتا عن الكلاسيكية، ولكن ليس بالدرجة التي ورث بها الغرب.
2ـ الكاثوليكية والبروتستانتية: المسيحية الغربية. و”هي تاريخيا أكثر خاصية متفردة وهامة في الحضارة الغربية”، حيث “وُجِد شعور جمعي نامٍ فيما بين الشعوب المسيحية الغربية”، شعور يُميّزهم عن الأتراك والمورسكيين والبيزنطيين وغيرهم.
3ـ اللغات الأوروبية. اللغة تَلي الدين كعامل مميز لشعب عن شعب آخر. و”الغرب يختلف عن الحضارات الأخرى في تعدّد لغاته. اليابانية، والهندية، والماندارينية، والروسية، بل وحتى العربية معروفة بأنها اللغة الأساسية لحضارتها”.
4ـ الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الدنيوية. وكما يقول هنتنغتون: “في الإسلام الله هو القيصر، وفي الصين واليابان قيصر هو الله، وفي الأرثوذكسية الله الشريك الأكبر للقيصر”. بينما الفصل (= ثنائية الديني والدنيوي) كان هو الفصل الدائم في الثقافة الغربية. وبلا شك فإن “الفصل والمصادمات المتكررة بين الكنيسة والدولة التي صنعت الحضارة الغربية وُجِدت كما لم توجد في أي حضارة أخرى. هذا الانقسام في السلطة ساهم إلى حد عظيم في تطور الحرية في الغرب”.
5ـ سيادة القانون. “فكرة مركزية القانون بالنسبة للوجود الحضاري موروثة من الرومان “. فكرة إخضاع القوة الإنسانية لكابح خارجي بقيت سائدة في الثقافة الغربية. وهذا بلا شك وضع الأساس للدستورية وحماية حقوق الإنسان.
6ـ التعددية. “تاريخيا المجتمع الغربي درج على أن يكون إلى درجة كبيرة مجتمعا تعدديا”، و”التعددية التجمعية أكملتها التعددية الطبقية”، إذ توجد “أرستقراطية قوية ومستقلة نسبيا”. وهذا صنع كوابح ضد الشمولية. وكما يذكر دويتش، فإن الشيء المميز للغرب هو “انبثاق واستمرار جماعات مستقلة ومتنوعة ليست مبنية على أساس علاقة الدم والزواج”.
7ـ الكيانات التمثيلية. حيث التعددية الاجتماعية أدّت مبكرا إلى بروز طبقات اجتماعية، مجالس نيابية، مؤسسات لتمثيل الأرستقراطية، ورجال الدين، والتجار، والجماعات الأخرى.. هذه تطوّرت لاحقا إلى مؤسسات الديمقراطية الحديثة.
8ـ الفردانية. العديد من الخصائص السابقة ساهمت في انبثاق إحساس بالفردية وتقاليد الحقوق والحريات الفردية متفردة بين المجتمعات المتحضرة. وبحق، “الفردية تظل العلامة المميزة للغرب بين حضارات القرن العشرين”.
هذه أهم الخصائص التي أسهمت في تشكّل الغرب الحديث، ومن ثم تشكّل “الحضارة العالمية” الراهنة. ويؤكد صموئيل هنتنغتون أن هذه الخصائص لم تكن دائما سائدة في الغرب، ولا أنها ـ أو شيئا منها ـ لم تظهر في الحضارات الأخرى، فبعضها كان موجودا في بعض “الحضارات” السابقة. لكن، الجمع بين هذه الخصائص، وامتزاجها وتفاعلها، كان هو الذي أعطى الغرب الخاصية المتفردة التي ميزته عن الآخرين.
هنا، نجد أننا ـ كعرب/ كمسلمين ـ يفتقر تراثنا أشد الافتقار لكثير من هذه الخصائص؛ فكيف بها جميعا ! مما يعني أن “الإيديولوجيا الأصولية”، سواء الدينية أو القوموية، لن تستطيع أن تجتاز بشعوبها القنطرة الفاصلة ما بين “عالم التخلف” و”عالم التقدم”؛ إذ ليس في “الأصالة” و”التراث”..إلخ المقولات الشعارتية الجوفاء، ما يمكن أن يمدّ الإنسان العربي/ الإنسان المسلم اليوم بعناصر التحضر الإيجابي، أي بما يجعله قادرا على الانتماء إلى الحضارة العالمية: حضارة الإنسان.
إن الحضارة الاستثنائية الناتجة عن مجمل هذه الخصائص، وعن تفاعلها التاريخي الطويل، أصبحت تُمَثّل تركيبا حَيويًّا متماسكا، في لحظة دائمة مستمرة من الاشتغال والتطور المتراكم. وأي محاولة للاستثمار في بعض نتائج هذا التطور؛ دون تمثّله في تركيبته الحيوية، ستنتهي بصاحبها إلى الفشل التام، بل وربما إلى الفشل الكارثي.
إن “الموقف الرفضي” من الحضارة الغربية ـ بصورتها المتكاملة التي تعكسها هذه الخصائص ـ هو موقف كارثي، كما هو أيضا حال “القبول المشروط” الذي يتضمن التحلّل من أهم القيم المتضمنة الأخلاقية والمؤسساتية/ الإدارية في هذه الخصائص.
لقد اختارت اليابان قديما الموقف الرفضي. فمنذ اتصالاتها الأولى عام 1542م بالغرب وحتى عام 1868م (أكثر من ثلاثة قرون)، وهي تنتهج الموقف الرفضي الكاره للغرب والمستريب بالغرب، وبالتالي، الرافض للغرب. وعندما أيقنت أن العلمَ مصدر قوة، وأن الغرب هو مصدر هذا العلم، انتهجت “القبول المشروط”، قبول العلم/ التقنية، ورفض القيم المُؤسِّسة؛ فكانت الكارثة التي تصاعدت في سلسلة حروب، حتى انفجرت بأبشع صورها عام 1945م على رؤوس اليابانيين. حينئذ ـ وحينئذٍ فقط! ـ فهم اليابانيون الدرس جيدا، ومنذ ذلك اليوم حاولوا ـ قدر المستطاع ـ تَمثّل الحضارة الغربية في قيمها المؤسِّسة؛ فتحوّلوا إلى “خَلْق آخَر” مُخْتَلِفٍ عن أسلافهم الغابرين.
إذن، إذا كانت كارثية الموقف الرفضي أصبحت من البديهيات التي ليست محلَّ خِلاف، فإن القبول المشروط/ الانتقاء ليس إلا إحلالا للكارثة بالتدريج/ بالتقسيط؛ لتتحوّل الكارثة إلى دمارٍ شامل، يُعطي أعظم وأقسى الدروس بثمنٍ باهظٍ، أو ـوهو الأخطرـ إلى واقعةِ بناءٍ مُنْتِجٍ لِدَمارٍ مستمرٍ؛ بدل الكارثة المدمرة (= الدرس باهظ الثمن) التي رغم قسوتها؛ تطرح خيارَ الاستئناف من جديد.