دللت التطورات الأخيرة في أكثر من بلد أفريقي على احتدام الصراعات بين القوى المتنافسة استراتيجيا واقتصاديًا. وفي هذه الحقبة كان من اللافت التراجع الفرنسي في أكثر من موقع، وفي المقابل تأكيد الاختراق الروسي في مسعى استرجاع النفوذ من قبل قوة عائدة.
يتم ذلك وسط تهافت دولي مع تعزيز الوجود الصيني وتآكل وجود القوى الاستعمارية السابقة. ومن الواضح أن المناطق الرخوة والرمادية في القارة السمراء مرشحة للمزيد من النزاعات وستكون الخصومة الروسية – الفرنسية من عناوينها.
بينما أعلنت فرنسا قرار إنهاء عملية “برخان” في منطقة الساحل، وسجلت تراجعاً في غرب أفريقيا معقل النفوذ الفرنسي التاريخي، شهدت باماكو عاصمة مالي مظاهرات تطالب بالتدخل الروسي على منوال ما حصل في جمهورية أفريقيا الوسطى، وكذلك شهدت أديس أبابا عاصمة إثيوبيا مظاهرات رفعت فيها الأعلام الروسية وكانت تستنكر الإدانات الأميركية للعنف في إقليم تيغراي. ويدلل ذلك على أنه في سياق الصراعات بين القوى المتنافسة تبرز المفارقة بين التراجع الفرنسي والاختراق الروسي مما ينبئ باحتدام الصراع بين القوى الاستعمارية القديمة، والقوى المدافعة عن مصالحها والقوى الصاعدة. وحسب الوقائع الميدانية وتقارير موثوقة، أصبحت منطقة غرب أفريقيا معقلاً جديداً للإرهاب ونقطة تمركز لإعادة ترتيب صفوف تنظيمي داعش والقاعدة. وكل ذلك يزيد من صعوبة توقع مآلات هذه الحقبة من صراع الآخرين على أراضي قارة المستقبل وخيراتها.
بالفعل، تعد أفريقيا قارة واعدة نظراً لتنوع مواردها الطبيعية وغناها واحتياطاتها الضخمة من المعادن ومقوماتها البشرية الشابة. ولذلك يزداد الاهتمام بها للحصول على حصة من مواردها أو على نصيب من استثماراتها. وإذا كان هناك تنوع كبير بين القوى المتنازعة، إلا أن الخشية الفرنسية كانت تتعلق بالدور الصيني أساساً وكذلك بأدوار القوى الصاعدة (تركيا وإسرائيل وغيرها) فإذا بالدور الروسي الصاعد يجذب الأضواء، وفي المقابل تزداد المشاعر المعادية للفرنسيين والصورة السلبية للأميركيين في القرن الأفريقي وأماكن أخرى.
هكذا يتعرض نفوذ الدول القوية التي لها مصالح اقتصادية واستراتيجية في أفريقيا للخطر من قبل ضيف روسي مفاجئ وعائد بقوة. اعتمد الكرملين في أفريقيا على جمهورية أفريقيا الوسطى كبوابة للاختراق وتعميم النفوذ، حيث يمكن القول إن موسكو نجحت بإضعاف فرنسا باعتبارها القوة الأجنبية المهيمنة تاريخياً. وفي غضون سنوات قليلة أصبحت هذه البلاد نموذجا للتصدير من حيث إعطاء المثل في السيطرة الأمنية من دون التنبه للمفاهيم الغربية حول حقوق الإنسان، وترافق هذا الإنجاز مع انتزاع مميزات الدور الفرنسي في مجالات تدريب الجيش والحرس الرئاسي وأمن المؤسسات ومناجم الذهب والفضة مقابل حصة من الدخل والمنافع الاقتصادية علما أن الشركات الروسية مهتمة جدا وناشطة في مناجم الألماس والذهب وغيرها من المعادن في أفريقيا، تماما كما فرنسا التي تعتمد كثيرا على اليورانيوم الآتي خصوصا من النيجر.
وفي سياق التنافس الاستراتيجي – الاقتصادي يتوافق خبراء الشأن الأفريقي في بروكسل على وجود “مرتزقة فاغنر في العديد من الدول الأفريقية ومنها ليبيا وأنغولا وغينيا وموزمبيق وجنوب أفريقيا والكونغو” ويلفت هؤلاء النظر إلى توقيع موسكو اتفاقيات تعاون مع حوالي عشرين دولة في القارة. وكما تعتمد روسيا “الحرب الهجينة” من سوريا إلى ليبيا لتدعيم عملياتها العسكرية وما تسمّيه “الاستقرار الاستراتيجي مع بعده الاقتصادي”، تتم في أفريقيا الاستعانة بهذا المبدأ مع نشر قوات شبه عسكرية تحت غطاء شركات أمنية من أجل تدريب الجيوش المحلية وحماية الشخصيات أو حماية مناجم الذهب أو الفضة أو اليورانيوم، ويسهّل ذلك توقيع عقود استغلال الموارد الطبيعية. عبر هذه الأساليب نجحت روسيا في تحجيم الوجود الفرنسي في بانغي. ومن الاختراقات الروسية الأخرى هناك “إشاعات” عن قيام فاغنر بدعم المتمردين التشاديين في مواجهة الجيش التشادي (خلال المعارك سقط الرئيس السابق إدريس ديبي صديق الأميركيين والفرنسيين)، مما يخفي حسب بعض الأوساط قرارا لإحداث تغييرات حاسمة ضد النفوذ الفرنسي.
سواء كان خيارًا واقعيًا أم لا فإن هذا العامل الروسي في مالي أصبح موجوداً في المعادلة السياسية وربما كانت له صلة ببعض تصريحات ماكرون المتوجسة أو بمطالب فرنسا من الانقلابيين
وفي هذا الإطار يصح التساؤل إذا كانت الأحداث المتلاحقة في مالي ستمكن روسيا الاستفادة من الوضع السياسي والأمني المستجد لتقدم نفسها بديلا عن فرنسا خاصة بعد قرار الرئيس ماكرون إنهاء عملية “برخان” بعد ثماني سنوات من الوجود العسكري الفرنسي من دون نتائج حاسمة من الناحية الأمنية. يضاف إلى ذلك السياق السياسي والانقلابان المتعاقبان اللذان شهدتهما البلاد.
والواضح أن موسكو أخذت تحرك بيادقها على رقعة الشطرنج السياسية في باماكو مع التذكير بوجود معاهدة صداقة بين روسيا الاتحادية ومالي. وشهدت العاصمة المالية مظاهرات أواخر مايو للمطالبة بالتدخل الروسي على غرار النهج الروسي من سوريا إلى أفريقيا الوسطى، ويربط البعض هذا الحماس بأن العقيد الشاب أسيمي غوبتا قائد الانقلاب العسكري سبق له تلقي تدريبه العسكري في روسيا، لكن ليس من الأكيد أنه من المعادين لفرنسا بل ربما كان أحد أوراقها الخفية وفقا لأساليب عمل فرنسية قديمة ضمن ما كان يسمى “المربع الفرنكوفوني” وفِي مطلق الأحوال أكد وزير الخارجية الفرنسية ذلك عندما قال “ليس لأن البعض تدربوا في موسكو فهم يتماشون معها الآن”.
بالطبع كل ذلك لا ينفي حنيناً لروسيا من بعض الرأي العام في مالي إحياء لذكرى أيام إنهاء الاستعمار عندما اقتربت البلاد من الاتحاد السوفيتي السابق. الآن، بعد 60 عامًا، تتجه الأعين مرة أخرى إلى الشرق، خاصة أن المعادين للوجود الفرنسي يحبذون احتدام نزاع جيوسياسي في الساحل واختراق روسيا له كما فعلت في أفريقيا الوسطى، لكن ذلك محل تشكيك من قبل أوساط محايدة لأن “اختيار روسيا والابتعاد عن الغرب يعتبر قفزة في المجهول”.
سواء كان خيارًا واقعيًا أم لا، فإن هذا العامل الروسي في مالي (بين الإغراء والجذب والرهان) أصبح موجوداً في المعادلة السياسية. وربما كان له صلة ببعض تصريحات ماكرون المتوجسة أو بمطالب فرنسا من الانقلابيين.
من أجل مواجهة التقدم الروسي وبعد المساعدة الروسية (عبر فاغنر) في الاستيلاء على السلطة في جمهورية أفريقيا الوسطى، قامت فرنسا بسحب جزء من طاقمها العسكري وجمّدت مساعدتها لموازنة أفريقيا الوسطى وعلّقت التعاون العسكري الثنائي وسط اتهام حكومتها بـ”التواطؤ” مع “حملة مناهضة لفرنسا تقودها روسيا”. رغم ذلك، لا ترى باريس ظاهرة مشابهة في الساحل. وفي هذا المجال قال أحد المسؤولين الفرنسيين أنه لا يوجد “حتى الآن خرق كبير” لروسيا في منطقة الساحل! ولكن تسود الشكوك في “الكي دورسيه” (مقر وزارة الخارجية الفرنسية) عن تشجيع أو تزعم روسيا حملة مناهضة لفرنسا في منطقة الساحل من دون تقديم أدلة على ذلك!
في الخلاصة، يدعم الحضور العسكري والأمني الروسي في أفريقيا حزمة من المصالح يتشابك فيها الاقتصاد بتوسيع النفوذ الجيوسياسي. ورغم نجاح روسيا في السنوات الأخيرة في إحداث اختراقات مهمة في القارة فإن المقارنة بمنافسيها توجب عدم تضخيم هذا الاختراق ووضعه في سياق تصاعدي يهدف إلى تمدد خارطة النفوذ والمصالح، وليس على حساب فرنسا حصرا بل على حساب بعض الشركاء وأولهم الصين.