أرى أنّ مَن يستطيع أنْ يقدَّمَ دائماً الأفضل إلى ذاته، قادرٌ في الآنِ نفسه على أنْ يكتشفَ أخطاءه هنا وهناك، لأنّه أصبح يعرفُ أنّ الأفضل له، عليه أنْ يأتي به، ولا ينتظره أبداً.
ذلك أنّ مَن ينتظر الأفضل له، فإنّه بالتّأكيد لا يملكه ولا يستطيع أنْ يجده، بينما مَن يسعى إلى الأفضل لذاته، يملكُ أنْ يبدعه، ويملكُ أنْ يأتي به مِن أعماقه ومِن تجربته ومِن إدراكاتهِ ومِن اختياراته ومِن افهاماته. ولذلك يستطيع أنْ يكتشفَ أخطاءه، لأنّه يتطوّر ولأنّه يتقدَّم ولأنّه يتجاوز، ولأنّه معنيٌّ في الأساس بمعرفةِ ما يجعلهُ حرَّاً دائماً في معانيه وفي أفكاره وفي طريقته وأسلوبه.
إنّكَ في تصوّراتكَ حول الحياة، وفي انشغالاتِ تفكيرك، وفي امتدادات تجربتكَ المعرفيّة، هناكَ دائماً شيءٌ ما في تبصَّرات وعيكَ، يدفعكَ إلى أنْ تعرفَ كيفَ عليكَ أنْ تواجه عثراتكَ هنا وهناك! تواجهها، وفي عقلكَ يحاصركَ السؤال الأهم: كيفَ عليكَ أنْ تبتكر مساحتكَ الحرَّة دائماً ؟ تعرفُ إنّكَ دائماً ما تمتلكُ مساحتكَ الحرَّة، ولكن في كلّ جديدٍ من يومكَ تريد أنْ تبتكر مساحةً حرَّة أخرى، لأنّكَ تعرفُ أنْ يومكَ الجديد لا يكونُ جديداً إلاّ حينما ترغبُ في أنْ تراه اليومَ الأفضل في حياتك. وهكذا تمضي وفي رأسك تدور الأفكار والتصوّرات والمعاني، تقتنص منها ما يجعلكَ قريباً جداً من ابتكار مساحتكَ الحرَّة في التفكير والفهم والخَلق.
ذلكَ إنّكَ في انشغالاتكَ التفكيريّة الحرَّة، عادةً ما تريد أنْ تدرك معظم الأشياء، تُدركها، لأنّكَ أحببتَ ما وجدَّتَ نفسك فيه مِن شغف التعلّم ومتعة الخَلق ولذّة الفهم، ومقدار ما تحمله في عقلكَ مِن إدراكٍ تجاه كلّ ما تتعالقُ معه إبداعاً وفهماً وسؤالاً، يساوي مقدار ما في كلّ تلكَ الأشياءِ مِن زخم الفكرة وخصوبة التنوّع ورحابة التغيير، وإنّكَ في هذا المسعى من الإدراك الحرّ. تعرفُ جيّداً إنّ عليكَ دائماً أنْ تحرّر عقلكَ من عقلك، بحيث ألاَّ تجعل شيئاً من خرابِ الأمس يعيش في رأسك، خرابات الانغلاق والتعصَّب والجهل، لأنّكَ أصبحتَ تعي متبصراً ومتفكّراً، أنّ الحقيقة دائماً ما تبقى عرجاء وخرساء وعمياء وبلهاء، في عقول مَن يحسبونَ أنّ الحياة يجبُ أنْ تبقى رهناً لأفكارهم ومعتقداتهم إلى الأبد.
ومَن يدركُ أنّه يسعى دائماً إلى أنْ يعيشَ حرَّاً، يملكُ أيضاً أن يحيا حرَّاً في ذاكرة الغد، وحدهم أولئكَ الذين يدركون حريّتهم وعياً وتخلّقاً في انشغالات الخَلق والمعنى، يدركونَ جيّداً الجدوى مِن وجودهم أحراراً على قيد ذاكرةٍ تمتدُّ إلى ما بعد الغد، حيث الذاكرة هناك تتخلّقُ مجدداً في سؤال الحقيقة، فأنتَ كما أنتَ اليوم تخطو مدركاً في ذاكرتكَ الواعية الحرَّة، تكونُ كما تريد أنْ تكونَ في الغدِ أيضاً شاخصاً في ذاكرةٍ حرَّة، ولذلك تعرفُ أنّكَ ستعيشُ أبداً، لأنّه ليسَ عليكَ أنْ تموتَ خائفاً، ما دمتَ تدركُ من أنّك تعيش حرَّاً، إنّها حريّتكَ التي أدركتَ طويلاً معها وفيها، من إنّها في جوهرها الخلاّق تعني تفكيركَ على نحوٍ حرٍّ ومختلف، ومعها أدركتَ في الوقتِ ذاته، من أنّ معانيكَ منها وفيها تضعكَ طليقاً في آفاقٍ جديدة ومتجددة.
وفي إدراككَ لِوعيكَ، ترى أنّ لا شيءَ في الحياة أكثر جاذبيةٍ مِن وجود عقلٍ واعٍ وحر، يستطيع أنْ يدهشكَ بين الحين والآخر بِومضاته الباهرة، وبِتدفّقاته المفعمة بِجرأة المعاني والأفكار والتجلّيات. لأنّكَ أصبحتَ تعي مدركاً، أنّ مَن يأتي مفعماً بِعقلهِ الحرّ، يستطيع أنْ يأخذكَ جميلاً إلى حقيقتكَ في تخلّقات الوعيّ، وستعرفُ أنّه لن يخذلكَ في رفقةٍ واعية وملهمة وخالقة، وتعرفُ أنّه لم يسبق وأنْ خذلكَ في حوار الشّك والسؤال والفهم والتفكير. ولذلك تعرفُ متبصراً كم هيَ هذه الرفقة ملهمة للإدراك والتّفتح والتفلسف والحقيقة، وأنّكَ في رحابة هذه الرفقة تعرفُ أنّ عليكَ دائماً أنْ تكونَ وفيّاً لحقيقتكَ، وهيَ تضعكَ متفكّراً ومتساءلاً ومستفهماً في تدرَّجات الإدراك، لأنّكَ حينها ستعرفُ أنّكَ تدركُ واعياً ومتنوّراً، كلّ ما كنتَ تريد أنْ تعرفهُ أو تستنطقه أو تعايشه أو ترافقه أو تساءِله أو حتّى أنْ تحاكِمه.
وكم جميلٌ وأنتَ تدركُ واعياً ومتفكّراً، من أنّكَ تريد دائماً أنْ تصلَ إلى أجمل ما في عقلك، لأنّكَ تستطيع أنْ تتحسَّس جميل سعيك وأنتَ في تداعيات الفهم والتفكير، ولكنّكَ في الوقت ذاته، تريد أنْ تعثر على الأجمل ما في عقلك، فالأجمل هو الذي ترى أنّه يتقدَّم بكَ دائماً إلى التغيير والتطوّر، ولكي تصلَ إلى أجمل ما يستطيع عقلك أنْ ينشغل فيه فهماً وتفكّراً واستنطاقاً وتكاملاً، هو معرفتكَ بأنّك تتغيّر وتتطوّر وتتحسَّن، وأنتَ في كلّ ذلك، تسعى متطلّعاً إلى امتلاك مهارة الإبصار، والذي يعني اجمالاً، استنارة العقل في جماليات التغيير، وتفتّحات المعرفة في رحابة الإدراك، واهتداءات القلب في تجلّيات الإحساس، وتساؤلات الوعيّ في امتدادات الذاكرة المعرفية، ورغم ذلك تعرفُ متيقّناً مِن أنّك لستَ الأفضل من غيرك في كلّ شيءٍ، لأنّكَ تدركُ أنّكَ تستطيع أن ترى في الآخرِ دائماً أشياءً من جمال العقل، الآخر الذي تتضافر معه فهماً وتفكيراً ووعياً في تفلسفات الإدراك.
وكم يزيدكَ هذا إدراكاً لِحقيقتك، حين تعي أنّ الحقيقةَ، حقيقة كلّ ما تتعالق معه فهماً وتخلّقاً في تفكيرك وعقلك وشعورك واحساسك وذاكرتك، لن تغمركَ تفاعلاً وتكاملاً، إلاّ حينما تعرفُ أنّ من وراءها ثمة حقيقة أخرى، تتمثّل في تجلّيات الذاكرة المعرفيّة، وهي تتواجد سؤالاً وتفكيراً ونقداً في استنطاقاتك المفعمة بالجديد والمغاير والجرىء، وستدركُ حينها إنّكَ وإنْ امتلكتَ الحقيقة، سيبقى عليكَ أنْ تعرفَ متساءلاً، كيف ستجعلكَ منسجماً في احساسك وإدراكك وفي تبصَّراتكَ التفكيريّة، لأنّك في هذه الحالة، أنتَ معنيٌّ مباشرةً بمعرفة المستوى الذي قد بلغه إدراكك العقليّ في تعالقاتك مع حقيقتك الذاتية، وهو المستوى ذاته الذي تعرفُ من خلاله إنكَ تنسجم وتتكامل مع حقيقتك في الفهم والتفكير والسؤال والخَلق، وستعرفُ إنّكَ وإنْ ظفرتَ على أشياءٍ من حقيقة واحدة، قد تكون كافية لأجمل بداياتك في رحلة الفهم والوعيّ والإدراك.
وحين تدرك، لن تتأخّر عن اكتساب ما يجعلكَ باحثاً عن حقيقتك، وحين تفهم لن تتجاهل جهلك، وحين تفكّر لا تتوقّف عن استجلاء حقيقة ما استطعتَ أنْ تعرفه وأنْ تتعلّمه، ولكنّك في الوقت ذاته تعرفُ أنّ ما يستحقّ أنْ تصلَ إليه وأنتَ في انشغالات تفكّراتكَ، كلّ ما لم تكن على معرفةٍ به مِن قبل، ولكنّكَ أيضاً تعرف أنّ عليك أنْ تتجاوزه، لأنّكَ تعرف أنّ هناك دائماً شيءٌ لم تصل إليه، وشيءٌ يحرّركَ من شيء، وشيءٌ تمضي به إلى أشياءٍ، وأشياء تدلّكَ على شيءٍ، وأنتَ في كلّ هذا المخاض مِن تدفّقات الإدراك والفهم والتفكّر، تعرفُ حرّاً ومتحرراً مِن أنّك لستَ مضطراً أنْ تؤمنَ بشيءٍ، لا تستطيع أن تجد له تفسيراً أو منطقاً أو سبباً أو نتيجة، ولا يقلقكَ في الوقت ذاته أنْ تكونَ وحيداً، لأنّكَ أصبحتَ تعرفُ أنّ عليكَ أنْ تمضي إلى ما تريد من دون أنْ يثنيكَ تردُّدٌ أو تراجع.
ووعيكَ في تفلسفات الإدراك، يخبركَ دائماً أنّ كلّ ما ينمو ويزهو في عقلكَ، فهماً وسؤالاً وتفكّراً وإبداعاً، ستجد له جذوراً في أجمل تجلّياتك الذهنيّة والشعوريّة والتساؤليّة، إنّها جذوركَ في تحوّلات الذاكرة الناطقة والملهمة، لأنّك في امتدادات ذاكرتكَ المعرفيّة الإدراكيّة، دائماً ما ترى أنّ الإثارة تكمنُ في سعيكَ الخلاّق نحو اكتشاف المعاني الحرَّة في كلّ ما لم تستطع أنْ تكتشفه من قبل، وقد لا تصل إلى معانيك الحرَّة في كلّ ما تتعالق معه تفكيراً وسؤالاً، ولكن سعيكَ هذا يجعلكَ قريباً جداً من اخلاصكَ لحريّتك الإدراكيّة، واستنطاقها في كلّ تحوّلٍ أو تغيّرٍ أو تقدَّم، ولذلك لا تتردَّد أو تتراجع أو تنكفىء حين ترى أنّكَ أصبحت تتقدَّمُ فكراً وتنوّراً وإبداعاً في مراحات معانيكَ الحرَّة، وفي تفلسفاتك الإدراكيّة، وحين تصل إلى النهاية، ولا نهاية في سعيك هذا، ستعرفُ أنّكَ كنتَ محقّاً في مثابرتك الفكريّة والذهنيّة، وتدركُ حينها وعيكَ وتبصرُّاتكَ في كلّ تحوّلاتك المعرفيّة والاستنطاقيّة والفلسفية.
ودائماً ما أرى أنّ فعل الإدراك، كَفعل الحريّة، أثمنُ بكثيرٍ من فكرتكَ عنهما، لأنّك في فعل الفعل تدمج النظريّة بالتطبيق والفكرة بالتنفيذ والفلسفة بالواقع، وتحاول دائماً أنْ تردم الفجوة بينهما. بمعنى أنّكَ في كلّ ما تدركه، أنتَ تمارس حريّتك تطبيقاً، تطبيقاً على معرفيّاتك التي تستخلصها بفعل الإدراك والتفكّر، وتطبيقاً أيضاً على علاقتك مع الأفكار والوقائع والأشياء، بحيث ألاَّ تجعلها أنْ تستبدُّ بك أو تتغوّل عليك أو تسير بك إلى الانغلاق والتعصَّب والوهم. وفي كلّ ما تدركه أيضاً، أنتَ تستحضر معانيك الحرَّة في تفكيركَ وفي انشغالاتك الفكريّة، بحيث تصبح معانيك هي مقاصدك في استجلاء حقيقة الأشياء من حولك، وحقيقة ذاتك بذاتك، وحقيقة ذاتك بواقعك الذي تتعالق معه، بحيث يصبح عقلك وتفكيرك، هما أساس حريّتك في الفهم والوعيّ والتبصُّر، ولذلك أحسبُ أنّكَ في أيّ أفقٍ معرفيّ جديدٍ ومتجدد، عادةً ما تراهنُ على قدرتكَ الذاتيّة الإدراكيّة في خلق عوالِمك وآفاقك، وترى تأكيداً أنّه مِن حقّكَ كاملاً، أنْ تجترح من خلالها بدائلكَ المعرفيّة والثقافيّة، وفقاً لِمستوياتك الواعية في التفكير والاختيار والإدراك.
وبذلك أنتَ تتعلّمُ كيف عليك أنْ تبقى مدركاً في واقعك وفي أسلوبكَ وفي مستوياتك، لأنّكَ تتعلّم في الحين ذاته، كيف عليكَ أنْ تحبَّ دائما ما تستطيع أنْ توجده إدراكاً ووعياً وفلسفةً في كلّ ما تتطلّع وتسعى إليه .
Tloo1996@hotmail.com
*كاتب كويتي