شعار نابليون ‘لا قدم ذهبية حمراء ولا قبعة حمراء’ (أي لا أرستقراطي ولا ثوري) يقابله اليوم شعار ماكرون ‘لا يمين، ولا يسار’ مما يشي طموحا بممارسة تمركز سلطوي لإعادة هيبة الدولة وتقليص الانقسامات.
يواصل إيمانويل ماكرون مفاجأة فرنسا والعالم، ويُدهش المتابعين ليس بسرعة صعوده المدوي فحسب، بل في تغييره لقواعد اللعبة واحترام كل وعوده الانتخابية مع الحكومة الأولى في عهده لجهة المناصفة بين اليسار واليمين، وبين الرجال والنساء، وبين المنتخبين وغير المنتخبين. فهل سينجح في تحقيق رهانه على الحد من انقسام الفرنسيين وإشراك الشباب وحصار التطرّف وإنجاز نقلة إصلاحية نوعية تجمع بين الليبرالية ودور الدولة في الرعاية الاجتماعية.
“كل الذين ليسوا على مستوى هذه المهمة التاريخية فليبقوا جالسين، إننا بصدد التقدم إلى الأمام”، هكذا خاطب الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون المرشحين إلى الانتخابات التشريعية القادمة باسم حركته “الجمهورية إلى الأمام”. إنها مغامرة من أجل التجديد والإصلاح وإخراج فرنسا من أزمتها البنيوية. لا يبدو الرهان سهلا، لكن المغامرة محسوبة ويمكن أن تكلل بنتائج إيجابية.
بدأ إيمانويل ماكرون الرئيس الثامن في الجمهورية الفرنسية الخامسة رحلة الألف ميل بخطوة تسلم سلطاته الدستورية من سلفه فرنسوا هولاند. ماكرون الأصغر سنا بين كل رؤساء فرنسا، اخترق الساحة السياسية مثل اختراق جدار الصوت وهو لم يكن يوما في عداد المنتخبين، ولم يبدأ العمل السياسي المباشر إلا في أبريل 2016. بالطبع ساعد على صعود الرئيس الجديد توفر ظروف موضوعية مع انهيار القطبين التقليديين في الحياة السياسية، أي حزب الجمهوريين اليميني والحزب الاشتراكي اليساري، وإزاء المخاوف من مخاطر صعود أقصى اليمين وأقصى اليسار، مما وفر له مساحة للعبور نحو قصر الإيليزيه.
لم يشأ ماكرون ليلة فوزه أن يربط اسمه بساحة الكونكورد التي كانت مكان التجمع الاعتيادي لليمين عندما يفوز، ولا بساحة الباستيل قبلة اليسار. اختار فريقه فسحة برج إيفل لكن بلدية باريس رفضت ذلك حتى تحافظ المساحات الخضراء على رونقها بانتظار فحص اللجنة الأولمبية الدولية ترشيح باريس للعام 2024.
وهكذا لم يعد هناك من فسحة كبرى إلا ساحة اللوفر وهناك برز ماكرون بمشيته المنفردة وكأنه يحاكي سير الإمبراطور الشاب نابليون بونابرت، ولو إنه كان يقلد أيضا الجنرال شارل ديغول أو فرنسوا ميتران. الأهم أنه تذكر وذكّر بتاريخ فرنسا الحافل وأنه ابن مبادئها الرافض للانقسام الدائم فيها ولخطاب العزلة والخوف. عبر خطاب اللوفر أنسى ماكرون ما توجس منه البعض ليلة الدور الأول من طغيان للأمركة في أسلوب ماكرون وحملته.
بعد تذوق طعم النصر بدأت الصعاب لأن الانتخابات التشريعية في الشهر القادم ستكون كناية عن جولة ثالثة من الانتخابات الرئاسية وسيتضح عندها إذا كان الرأي العام سيمنح الرئيس الشاب الفرصة ليحكم البلاد. إنه بالفعل سباق مع الوقت لإنقاذ الجمهورية الخامسة وروح الجمهورية ونهجها من أزمة حكم وإصلاح تواجهها منذ أكثر من عقدين من الزمن. ليس ماكرون مرشح المنظومة كما صوره البعض، لكنه ابن المنظومة الجمهورية ونتاج نظامها التعليمي ومؤسساتها. التحدي كبير أمام الشاب الذي هجر دراسة الفلسفة ليخوض معتركات السياسة والاقتصاد. تكوينه ومساره يشفعان له، لكن اللعبة السياسية لا ترحم وليس أمامه إلا النجاح ولو بشكل نسبي، إنه محكوم بذلك من أجل صورة فرنسا وصورته.
نجح إيمانويل ماكرون في الاختبار الأول إذ أتى بحكومة وحدة وطنية تجمع أغلب الأطياف السياسية والمستقلين والتكنوقراط، وفِي ذلك سابقة لم تحصل حتى عند فرض الناخبين للتعايش على فرنسوا ميتران وجاك شيراك، وأبعد ما ذهب إليه الرؤساء السابقون كان تطعيم حكومة يمينية بوجوه يسارية أو العكس. اللافت هذه المرة ملاحظة إدراك يتنامى بضرورة العمل المشترك للإنقاذ في تجاوز للعصبية الحزبية والانتماء الأيديولوجي كي ينجح الوسطي ماكرون ورئيس وزرائه الشاب إدوار فيليب الآتي من صفوف حزب الجمهوريين والمقرب من رئيس الوزراء الأسبق آلان جوبيه (لم يسمع فيليب نصيحة الأخير بعدم قبول عرض ماكرون وفضل التجرؤ). وكان معبرا قول القطب اليميني المنافس في الانتخابات التمهيدية ووزير الاقتصاد والمالية الجديد برونو لومير “فرنسا أهم كثيرا من الأحزاب والانتماءات”.
جمعت التركيبة الحكومية بين خبرات متراكمة لسياسيين مخضرمين وعناصر شابة من النساء والرجال. بالطبع جرى توزيع المكافآت وأولها على جيرار كولوم عمدة مدينة ليون وأول قطب اشتراكي أيد ترشيح ماكرون إذ تقلد وزارة الداخلية، وآلت وزارة الخارجية إلى وزير الدفاع السابق جان إيف لودريان الاشتراكي المترسّخ في بريتانيا غرب فرنسا، أما فرنسوا بايرو قطب الوسط فأصبح وزيرا للعدل.
وفي سعي للتوازن أتت وزيرة الدفاع سيلفي غولار من الوسط والوزراء المعنيون بالاقتصاد من اليمين. وجرى اختيار الناشط والإعلامي البيئي نيكولا هيلو ليكون وزير البيئة وتحول الطاقة، بيد أن الأهم في هذه الخلطة الوزارية كما في الأكثرية المفترضة في البرلمان القادم وجود رأس واحد هو الرئيس ماكرون، وعدا حقبة الجنرال ديغول لم نلحظ بروز توجه نحو حكم شخصي ومتجانس.
تقودنا مرحلة بدايات ماكرون وتشكيل حكومة فيليب إلى تلمس مغامرة فيها إعادة تأسيس للجمهورية الخامسة، تشبه مرحلة الحكم القنصلي بعد الثورة الفرنسية، إذ تبوأ يومها جنرال شاب يدعى بونابرت مقاليد الأمور ولَم يكن عنده تجربة سياسية، واعتمد على تركيبة متناثرة من البيض والزرق ومن الجبال والسهول وتمكن من تمرير إصلاحاته.
واليوم وكأن التاريخ يعيد نفسه حيث كان شعار نابليون “لا قدم ذهبية حمراء ولا قبعة حمراء” (أي لا أرستقراطي ولا ثوري) يقابله شعار ماكرون “لا يمين، ولا يسار” مما يشي طموحا بممارسة تمركز سلطوي لإعادة هيبة الدولة وتقليص الانقسامات ووضع أسس لنظام فيه مساواة وهرمية. تتوقف المقارنة بين الماكرونية والبونابرتية لأن ماكرون ليس القنصل الذي سيتحول إلى إمبراطور. لكن من الواضح أنه سيستند إلى صلاحيات الملك الجمهوري الممنوحة له حسب دستور 1958، لكي تنجح مغامرته في التجديد والاستقرار وسط أوروبا قلقة ونظام عالمي مضطرب.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب