بالرغم من فشل واشنطن في فرض تمديد حظر تصدير السلاح إلى إيران، لم تتمكن طهران من التملص من الضغوط القوية قبل أشهر على موعد انتخاباتها الرئاسية التي ستشكل اختبارا لخلافة المرشد.
تترقب الدوائر الإيرانية الرسمية عن كثب الانتخابات الرئاسية الأميركية وتراهن ضمنًا على فشل الرئيس دونالد ترامب، ولكن عجزها عن مواجهة الأزمة الاقتصادية الحادة لا يثنيها عن التركيز بشكل حثيث على احتواء وقمع احتجاجات شعبية لم يتم إخمادها تماما، وذلك منذ انطلاقها في 2017 ووصولها إلى ذروتها مع “انتفاضة البنزين” في نوفمبر 2019.
وشهد عام 2020 انتكاسات إيرانية متتالية منذ اغتيال الجنرال قاسم سليماني وعدم الرد الموعود عليه، وتداعي الوضعين الاقتصادي والاجتماعي تحت ضغط العقوبات وجائحة كورونا، وكذلك سلسلة الانفجارات والحرائق الغامضة التي استهدفت البرنامجين النووي والصاروخي. وألقى هذا الوضع الكارثي بظله على “النادي الإيراني” في الإقليم من بغداد إلى دمشق وبيروت، حيث حصلت انهيارات اقتصادية لا سابق لها على وقع حراك شعبي في العراق ولبنان، و”قانون قيصر” وسواه من العقوبات.
وبالرغم من فشل واشنطن في فرض تمديد حظر تصدير السلاح إلى إيران، لم تتمكن طهران من التملص من الضغوط القوية قبل أشهر على موعد انتخاباتها الرئاسية التي ستشكل اختبارا لخلافة المرشد ومفتاحا لأي مفاوضات أو مواجهة مع واشنطن.
تبعًا لتسلسل الاحتجاجات منذ أواخر عام 2017، يتضح وجود أزمات هيكلية ومزمنة تندلع بسبب هموم معيشية ومطالب اقتصادية، وسرعان ما تحولت إلى غضب وانتقاد للنظام الحاكم وسياساته التي أدت إلى إفقار الشعب وتبديد ثروته على التدخلات الخارجية. وبالرغم من نجاح القبضة الحديدية أو حجم المساعدات (الدعم والإغاثة يطالان حوالي 75 في المئة من سكان إيران) في احتواء التحركات لا تزال الأسباب قائمة والقمع يؤجل المشكلة لا أكثر ما دامت المظالم لم تعالج والمطالب لم تنفذ. وهكذا عند توافر الشرارة أو الصاعق يمكن لمشاعر الاحتقان أن تنفجر ضد المنظومة الممسكة بالبلاد، ويدلل ذلك على أزمة عميقة لا تتصل فقط بتداعيات الضغط الخارجي، بل ترتبط بالرؤى المتناقضة في سياق النظام، وكذلك بسوء إدارة الشؤون العامة في ظل شح الإمكانات وآثار جائحة كورونا.
حسب لغة الأرقام، يتواصل تراجع الاقتصاد الإيراني، إذ أن معدل النمو خلال الربع الثاني من هذا العام كان سلبيا بنسبة 3.5 في المئة، ووفق صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير الصادر في 19 أكتوبر الحالي تضاعفت ديون الحكومة الإيرانية بنسبة 2.2 في المئة تقريبا في عام 2020 مقارنة بعام 2018. ووصل المبلغ إلى نحو 260 مليار دولار في 2020، وفي نفس الإطار أفادت إحصاءات حكومية بتراجع القدرة الشرائية بنحو الثلث مقارنة بعام 2019، وإذا سلمنا ببعض تقديرات الخبراء التي تفيد بعيْش “80 في المئة من الإيرانيين تحت خط الفقر” وارتفاع معدل البطالة بنسبة 37 في المئة، نفهم جيدا أن الوضع الإيراني قابل للانفجار.
وينعكس هذا التراجع في الداخل على المشروع الإمبراطوري الإيراني وإمكانيات تمويله بسبب ثقل العقوبات الأميركية، وقد أدى ذلك إلى غلبة أكبر للدور الروسي في سوريا، وبروز توازن سلبي مع واشنطن على الساحة العراقية مع وصول مصطفى الكاظمي، وأخيراً طرح مسألة النفوذ الإيراني في لبنان كما طالب الوزير السابق محمد عبدالحميد بيضون (من أركان حركة أمل سابقاً) الذي اقترح “مخاطبة الجزء من الجمهور الشيعي المؤيد لهذا السلاح من خلال مشروع الإمام موسى الصدر الذي يركز على نهائية الوطن والعيش المشترك، وهذا نقيض ما يفعله سلاح حزب الله والمشروع الإيراني، أي مشروع الهلال الفارسي الذي يدمر الأوطان والدول لإلحاقها بهذا المشروع”.
ومن الدلائل المستجدة على هامش المناورة الخارجي الضيق لطهران، يسجل الموقف الإيراني المتغير إزاء النزاع في ناغورني قره باغ، إذ خلافاً للموقف الداعم لأرمينيا كما حصل في المواجهات السابقة، تؤيد إيران مطالبة أذربيجان باسترداد الإقليم المتنازع عليه ليس لتسجيل تناغم مع تركيا أو للتفتيش عن تعارض مع روسيا بل لسبب داخلي في المقام الأول مراعاة للمكون الأذري الذي يعتبر من أكبر المكونات غير الفارسية في البلاد. ويسري هذا الهم الداخلي على أولوية منع تجدد الاحتجاجات على نطاق واسع. ومن اللافت بالنسبة إلى المراقبين مطالعة خلاصات تقرير حديث في دورية “آفاق أمنية” الصادرة عن جامعة الإمام الحسين التابعة للحرس الثوري إذ نوقشت الأساليب والتكتيكات المتبعة لقمع الاحتجاجات في السنوات الثلاث الأخيرة (التي سقط خلالها 250 قتيلاً في عام 2019 حسب السلطات و1500 حسب المعارضين). تقر الدراسة بفقدان مقلق للسيطرة والرقابة المسبقة على الإضرابات والتجمعات والعرائض بسبب قوة وسائل التواصل الاجتماعي، وينطبق ذلك على الترويج لعدم ارتداء النساء للحجاب حسب الإرشادات، والاضطرابات الاجتماعية، والمعارضة المدنية، التي أخذت “تستهدف جميع القيم ومعايير الجمهورية الإسلامية”.
وتعترف الدراسة، بعد مقدمة طويلة تهدف إلى تعريف وشرح أشكال وجذور الأعمال الجماعية “التخريبية”، بأن “رجال الدين والأساتذة والشخصيات المعروفة في إيران لم يعد لديهم أي سلطة في نظر الناس، مثلما كان الحال في الثمانينات”. بعد ذلك، تبحث الدراسة مسألة قوة الشبكات الاجتماعية وقدرتها على التعبئة العامة في إيران، وتعرض ضمنيًا احتجاجات نوفمبر 2019 كنتيجة لأداء هذه الشبكات. وسلطت هذه الدراسة الضوء على العوامل الرئيسية للاحتجاجات مدعية أنها كانت ناجمة عن “الميل إلى انتشار الطوائف الباطنية والتصوف” وزيادة المطالب المتعلقة بالهوية والنزعة العرقية و”التغيرات الناشئة المتزايدة في صفوف الشبيبة عبر التفتيش عن الفرص والابتعاد عن التدين”. ومن أبرز الخلاصات الاستنتاج بأن “تطور التفتيش عن انتماء للهوية وخصوصيات وأنماط حياة جديدة قد زاد من انعدام الثقة في النظام السياسي”.
انطلاقا من ذلك تخشى القيادة الإيرانية من مخاطر هذا المناخ وإمكانية التحول من تحرك النقابات العمالية والقوى السياسية المتخفية إلى العمل الجماعي ومن ثم إلى التهديدات الأمنية، مما سيعقد عملية السيطرة على الوضع.
بناء على المعطيات الواردة أعلاه يتسرب أن الحرس الثوري قرر الدخول في معركة “المنافسة للسيطرة على أفكار وعقول الناس” استناداً إلى السيطرة الناعمة عبر استخدام معدات الشرطة غير الفتاكة والقوية، مثل أسلحة الردع وأدوات الشرطة الحديثة. إذًا هناك خشية فعلية من آثار العنف الدموي كما حصل في نوفمبر 2019، ولم تنجم عنه تهدئة فعلية وحوار بنّاء، وكان لجائحة كورونا دور في إخماد التحركات.
بانتظار استحقاقات كثيرة يبدو المشهد الإيراني مليئا بالتحديات وإمكانيات التغيير؛ ومهما كان لاعب الشطرنج ماهرًا ومهما كان حائك السجاد متمتّعًا بالصبر، فإن مرحلة ما بعد سليماني التي دشنت حقبة النكسات وتراجع المشروع الإمبراطوري، يبدو أنها ستتواصل وتعمق الأزمة البنيوية لنظام ولاية الفقيه.