نشرت جريدة الإندبندنت البريطانية في حزيران الماضي مقالة بعنوان “لا نستطيع تدمير الدولة الإسلامية في العراق والشام فلنتعلّم كيف نتعايش معها“، لشخص اسمه ريتشارد باريت، وقد جاءت بمثابة رد على تصريحات لرئيس الوزراء البريطاني يقول فيها إن داعش “أحد أكبر التهديدات التي واجهت العالم حتى الآن”.
ينفي الكاتب أن تكون داعش كذلك، ويرى أن الوضع في سورية والعراق لن يعود إلى ما كان عليه، وأن داعش ستبقى بشكل ما، لذا ينبغي تعلّم طريقة التعايش معها، صحيح أنها عدوانية، ومستبدة، وغير متسامحة، ولكنها تحكم الخاضعين لسلطتها أفضل من حكّامهم السابقين، فالفساد أقل، والعدالة سريعة، ومتساوية، حتى وإن كانت قاسية.
لم أصدّق عيني، وأنا أقرأ هذا الكلام، وبحثت عن صفة السيد باريت أسفل المقالة، فاتضح أنه كان رئيسا لقسم مكافحة الإرهاب في المخابرات البريطانية، وأشتغل تسع سنوات مُنسقاً لفريق الأمم المتحدة المُكلّف بمراقبة الطالبان والقاعدة، ويعمل في الوقت الحاضر نائباً للرئيس في مجموعة صفوان للاستشارات الأمنية. يعني “للأخ” أكثر من باع وذراع في موضوع الإرهاب، ويمكنه، بحكم مؤهلاته وخبرته العملية، “الإفتاء” في ما اختلف الناس عليه. لا بأس.
ومن الواضح أنني لم أكن الوحيد، الذي لم يصدّق عينيه. ففي ردود القرّاء الإنكليز على مقالة السيد باريت (وهي بالعشرات) وصفها البعض بالسخيفة، وسخر البعض الآخر من المصادر التي استقى منها معلوماته، ذكر أحدهم أن في المقالة ما يمثل إهانة لعقل القارئ، وذهب آخر إلى حد تذكير الكاتب بتخاذل أوروبا عشيّة صعود النازي.
تقول بالإنكليزية (I smell a rat) إذا ارتبت في أمر ما. والواقع أن حكاية مجموعة صفوان للاستشارات الأمنية، هي التي أشعلت الضوء الأحمر. ففي العام الماضي قرأتُ كتاباً لأميركي من أصل لبناني، يدعى علي صفوان، عمل في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، وأسهم في التحقيق في حادثة تفجير السفينة الأميركية (كول) في ميناء عدن، التي تبنتها القاعدة. وفي وقت لاحق قرأت أن المذكور أنشأ شركة استشارات أمنية، ويزاول مهنته في قطر. لا بأس.
واتضح، بعد الاطلاع على الصفحة الرسمية لمجموعة صفوان على الإنترنت، أنها تدير أكاديمية قطر الدولية للدراسات الأمنية، في الدوحة، وأنها تقدّم خدماتها للقطاعين الحكومي والخاص في مجالات الأمن القومي، وحماية البنى التحتية والحيوية، وتقييم التهديدات ومكامن الضعف، وتنظم دورات في مجالات من نوع التحقيق، والتحري، والاستخبارات، والأمن الإلكتروني، وفوق هذا وذاك دورات في الأمن الفني، والاستخبارات الثقافية. ولعل من نافلة القول التذكير بحقيقة أنني لم أفهم معنى “الأمن الفني” و”الاستخبارات الثقافية”.
المهم أن “للأخ” باريت، صلة بقطر. وهذه الصلة تستدعي التفكير في أمور من نوع: هل تمثل دعوته لتعلّم كيفية التعايش مع الدواعش موقفاً شخصياً أم تعكس رأي الشركة الأمنية، التي يعمل نائباً لرئيسها؟ وهل يتأثر موقفه العام من قضايا ورزايا المنطقة بمناخ من نوع ما في قطر، أم أن هذا المناخ من صنعه هو وأمثاله، من الخبراء والمستشارين؟ وهل تنحصر دعوة كهذه في اجتهادات شخصية أم تنسحب على مواقف “خبراء” آخرين في أوروبا والولايات المتحدة؟ هذه أسئلة مشروعة، في زمن تفشّت فيه ظاهرة الشركات الأمنية، والجيوش الخاصة، واختلط فيه الحابل بالنابل.
فلنعد إلى حكاية التعايش مع الدواعش. من الواضح أن “الأخ” باريت يريد العنب لا رأس الناطور. فلا تقلقه مذابح التطهير العرقي والديني، ولا يقيم وزناً لحكاية السبي، والرق، وبيع النساء، وتدمير الميراث الحضاري في كل مكان طالته أيدي الدواعش، ولا حتى احتمال أن تصبح أوروبا نفسها في مرمى النيران الداعشية (يذكر في مقالته أن داعش لم ترسل أحداً لارتكاب أعمال إرهابية في بلدان غربية).
وإذا منحناه رفاهية الشك، كما يُقال بالإنكليزية، فلنقل إنه شاطر، وعملي، لم يبلع الكلام عن الفرق بين البربرية والحضارة، ويريد شراء سلامة أوروبا باسترضاء الدواعش (على حساب حاضر ومستقبل العالم العربي، طبعاً) وإذا كنّا لا نعرف عدد الشطّار والعمليين في الغرب، لا ينبغي أن ينتابنا الشك في إمكانية وجودهم في أماكن صنع القرار، أو في قدرتهم على خلق أجواء ومناخات بعينها، توحي بأن الدولة في سورية والعراق قد انتهت، وأن لا وجود للعقلانية في عالم العرب والمسلمين، وأن على الأميركيين والأوروبيين التفكير في سيناريو اليوم التالي.
تُسمع في علاقة “الأخ” باريت بالعالم، وموقفه مما يجري في العالم العربي، أصداء كلام تردد في كتابات مايكل شوير، العميل السابق في السي آي إيه، المختص في شؤون القاعدة، والإسلام. خلاصة شوير، التي كررها في أكثر من كتاب منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أن على أميركا الانسحاب من الشرق الأوسط، والتحصّن وراء حدودها، وليذهب العرب والإسرائيليون إلى الجحيم، فأميركا لا تحتاج الشرق الأوسط، وأمن إسرائيل ليس جزءاً من أمنها القومي، وثقافة العرب وعقليتهم تختلف عن ثقافة وعقلية الغرب، لذا لا فائدة من التفكير في “قيم” الحضارة الغربية، باعتبارها قابلة للتصدير، أو الاستنبات، أو الحماية، في بيئة الشرق الأوسط الإسلامية، الصلبة والقاسية.
وليس ثمة ما يبرر الرد على كلام كهذا، ونقده، ونقضه، للتذكير بحقيقة إسهام الأميركيين، والغرب عموماً، في تدمير العالم العربي، دون إعفاء العرب من المسؤولية، بطبيعة الحال. كل ما في الأمر أن مقالة “الأخ” باريت تبرر القول: I smell a rat
أليس كذلك؟
khaderhas1@hotmail.com