يسر “دار غراب للنشر” أن تزف للساحة الثقافية والأكاديمية في مصر والعالم نبأ اتفاقها مع الكاتبين الكبيرين: مصطفى عبدالله وشريف مليكة على نشر كتابهما “نجيب محفوظ شرقًا وغربًا” الذي يقدمان على صفحاته مرجعًا شاملًا في إبداع سيد الرواية العربية من خلال شهادات ودراسات ومقالات وحوارات عدد ممن عرفوا نجيب محفوظ عن قرب، أو توفروا على دراسة مؤلفاته من عرب وأجانب.
وذلك من منطلق مهم وهو أن عميد الرواية العربية نجيب محفوظ لم يكن كاتبًا عاديًّا، بل كان كاتبًا فذًّا، وكان إخلاصه لمحليّته ولقضايا وطنه سبيلًا لانطلاقه عالميًّا، فأصبح أدبه عاكسًا للأدب العربي كافة، وليس الأدب المصري فحسب، وكان ولا يزال أول كاتب عربي يُتوَّج بجائرة نوبل للآداب عام 1988، وهي الجائزة الأكبر والأرقى في العالم.
ويأتي هذا السِّفر التِّذكاري المهم، ليؤكد أن الغياب لم يُفقِد عميد الرواية العربية نجيب محفوظ حضوره وألقه؛ فهو لا يزال بعد مرور خمسة عشر عامًا على وفاته وقرن وعقد على ميلاده، مؤثرًا في الساحتين العربية والعالمية، بدليل حضور أدبه في كبريات جامعات العالم، وإقبال أشهر المترجمين على نقل رواياته وقصصه القصيرة ومسرحياته إلى كثير من اللغات الحيَّة، فضلًا عن الارتفاع اللافت لأرقام مبيعات كتبه حتى اليوم.
وهذا الكتاب يضُم مجموعة من الدراسات والشهادات المهمة التي تدور حول نجيب محفوظ الكاتب والإنسان؛ فيُقدِّم الدكتور صبري حافظ دراسة بانورامية عن حركة ترجمة الأدب العربي إلى لغات العالم، وكيف تغيَّر إيقاعها بفضل تتويج «محفوظ» بجائزة نوبل، ويكتب روجر ألن عن أهمية إبداع محفوظ على المستوى العالمي، وهو يُطلعنا على الرسائل المتبادلة بينهما، بينما يتناول ريموند ستوك تجربته مع ترجمة قصص «محفوظ» القصيرة إلى الإنجليزية، وقد حرصنا على أن ننشـر المقالين في لغتهما الإنجليزية. أما الدكتور حسين حمودة فيتوقف أمام فكرة «العتبة» على المستويين الحَرفِي والمجازي في روايات نجيب محفوظ. وتحت عنوان «المرايا.. رواية سيرذاتيَّة» يأتي بحث الناقد التونسي الدكتور محمد آيت ميهوب، الذي يتتبَّع كيفية تعامل النقاد العرب والأجانب مع عمل واحد من أعمال محفوظ اختلفوا في تصنيفه أجناسيًّا. ويشترك كل من الدكتور أحمد درويش – صاحب مقدمة هذا الكتاب التذكاري – والدكتور أحمد صبرة في تناولين مختلفين لأكثر أعمال «محفوظ» إثارة للجدل «أولاد حارتنا».
وفي المقابل يشترك الدكتور السيد فضل، والدكتورة رشا صالح من منظورَين مختلفَين أيضًا في إضاءة جوانب عمل آخر من أعمال «محفوظ» المثيرة، وهو «رحلة ابن فطومة». ويكتب الدكتور عبدالقادر فيدوح، الناقد والأستاذ الجامعي الجزائري، عن «الملامح الفكرية في روايات نجيب محفوظ»، بينما يطرح الروائي أبو بكر العيادي رؤية خاصة لـ «محفوظ» وأدبه، ويختار الدكتور عبد البديع عبدالله أن يكتب عن «محفوظ» وطفراته الثلاث في الفن، في حين تُحلِّل الدكتورة فوزية العشماوي، الأستاذ بجامعة جنيف، شخصيات «محفوظ» النسائية التي تعكس تطور المرأة المصرية.
ومن باب التخفيف على القارئ، يعود بنا الأديب أحمد كمال زكي إلى أيام طفولة وشباب نجيب محفوظ، مستدعيًا أحداث المرحلة التي كان فيها عقل «محفوظ» في قدميه! فتحت عنوان مثير هو: «الحرِّيف وأسرع هدَّاف في زمانه!» يكشف لنا عن كثير من المفاجآت التي لا تخطر ببال أحد من قُرَّاء أدب «محفوظ»، حتى إن القارئ ربما يتساءل: وكيف كان الحال إذا لم يتخلَّ محفوظ عن عشق الساحرة المستديرة؟!
وإذا كُنَّا تناولنا نجيب محفوظ الهدَّاف الحرِّيف، فنحن نُقدِّم «محفوظ» السينمائي، كاتب سيناريو عدد من الأفلام السينمائية المميزة، وصاحب أكبر نصيب من الروايات التي أمدَّت شاشة السينما بروايات أُنتجت منها أخلد الأفلام على امتداد تاريخ السينما المصرية، وذلك من خلال الروائي ناصر عراق الذي يكتب عن «العائش في محراب السينما المصرية»، بينما يتأمل الدكتور ماجد موريس إبراهيم «الحِسّ الصوفي عند نجيب محفوظ».
ولا يخلو الكتاب، في أكثر من موضع فيه، من آراء مهمَّة لنجيب محفوظ ذاته، ولعل أهمها تلك التي أدلى بها خلال إقامته بالإسكندرية في شهور الصيف، وظلت تعيش في ذاكرة أصحابها فقط، إلى أن تحمَّس اثنان من المقرَّبين من «محفوظ» – الكاتب الصحفي مصطفى عبدالله والأديب السكندري الراحل محمد الجمل – فأخرجاها من العتمة إلى النور في أكثر من مناسبة لتستقر في شكلها النهائي هنا بين دفتي هذا الكتاب. مع كثير من شهادات مُريدي «محفوظ» وعُشَّاق أدبه وفنِّه ممَّن شدُّوا الرِّحال إلى مجالسه القاهرية المختلفة من مدن وعواصم كثيرة، ولا سيما بعد حصوله على جائزة نوبل، فسجَّلوا لنا شهاداتهم عن «محفوظ» الإنسان، واصفين فيها الأجواء التي كانت تحيط بمجلسه، ومن هؤلاء:
الدكتور شريف مليكة الذي وصفه بـ «صاحب القلم السَّخي»، وسامي البحيري الذي نعته بـ«حضرة المحترم العائش في الحقيقة»، والدكتور محمود الشنواني الذي توصَّل في شهادته إلى «أسرار التركيبة المحفوظية»؛ وثلاثتهم من مريدي الراحل الباقي.. أما الكاتب أحمد فضل شبلول فيتناول قضية الكتابة عند نجيب محفوظ.
وتبقى الصور آثارًا خالدة على جوانب من تاريخ «محفوظ» الباقي على مرِّ الزمن بقاءَ آثار أجداده من المصريين القدماء.
ولأن تأثير نجيب محفوظ وأدبه لم يقتصر على وطنه، بل امتدَّ شرقًا وغربًا، فقد جاء للكتاب تحت عنوان دَّال هو: «نجيب محفوظ.. شرقًا وغربًا»، فما زال نجيب محفوظ يعيش بيننا بآثاره الأدبية الخالدة، وسيظل «عائشًا» بروحه التي تشيع بين أعماله الكثيرة الثرية؛ فمَن أبدع هذا الصرح الأدبي الشامخ، وأسهم في رِفعة شأن الأدب العربي في العالم كله، لا يمكن إلا أن يعيش، حتى لو غيَّبه الموت منذ خمسة عشر عامًا!