أقرأ، عادة، أكثر من كتاب في وقت واحد. وهذا ما كان عليه الحال، على مدار أسبوعين أنفقتهما في قراءة “في طريق الأذى: من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش” ليسري فودة (2015)، و”اللعبة القبيحة: المؤامرة القطرية لشراء كأس العالم” لهايدي بلاك وجوناثان كالفيرت (2015). ترافق صدور الأوّل في شباط الماضي، مع معرض الكتاب في القاهرة، أما الثاني فصدر بالإنكليزية قبل ثلاثة أسابيع.
بين الكتابين قاسم مشترك. فكلاهما في الظاهر ينتمي إلى جنس الصحافة الاستقصائية. بيد أن هذا القاسم يظل شكلياً إلى حد بعيد. فبينما ينتمي الثاني إلى جنس الصحافة الاستقصائية شكلاً ومضموناً، ينتمي الأوّل إلى نوع من الفهلوة، العلامة الفارقة “للجزيرة” القطرية، التي كان صاحب الكتاب من نجومها، قبل اكتشافه (وباعترافه) أن القناة انتهكت المعايير الأخلاقية والمهنية، وأصبحت (مع غزو العراق) جزءاً من مشروع يستهدف العالم العربي (لم يوضح، للأسف، طبيعة المشروع، ولا كيف انتُهكت المعايير الأخلاقية والمهنية).
المهم، فلنتكلّم عن الكتاب الثاني، قبل العودة إلى فودة. يعرف القاصي والداني أن حصول قطر على حق تنظيم المونديال في العام 2022 أصاب ما لا يحصى من محبي كرة القدم، والمراقبين السياسيين (وغيرهم) بالدهشة. والمهم، أيضاً، الإحساس بوجود “لعبة قبيحة” من نوع ما. كان التفسير المقبول من جانب كثيرين أن قطر دفعت أمولاً طائلة لشراء أصوات وذمم. أدى التحقيق في هذا الأمر، حتى الآن، إلى إعفاء الملياردير القطري محمد بن همّام من رئاسة الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، ومن عضويته في المجلس التنفيذي للاتحاد العالمي لكرة القدم.
ومع ذلك، ظل التحقيق في هذا الأمر يعاني من فجوات كثيرة. وهذا بالتحديد ما حاولت بلاك وزميلها كالفيرت توضيحه، والتحقق منه، وكتابة ما يشبه لائحة اتهام تدين قطر، وتبرهن على حقيقة أنها حصلت على حق استضافة المونديال بطرق غير مشروعة.
للتدليل على هذا الاتهام، قام الكاتبان بمراجعة كافة المراسلات السرية لأعضاء المجلس التنفيذي للفيفا، ومراسلات الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، وحسابات بن همّام المصرفية، وتحويلاته المالية، وتابعوا يوماً بيوم، على مدار سنوات، السباق المحموم لتمكين قطر من تحقيق هدفها، حتى قبل الإعلان عنه بطريقة رسمية.
ولا مبالغة في القول إن إعداد لائحة اتهام كهذه يشبه رواية بوليسية، ومغامرة حقيقية، قام بها صحافيان يعملان في الصنداي تايمز البريطانية، وكان عليهما التسلل إلى حسابات مصرفية، والتلصص على مراسلات إلكترونية، وقراءة كل ما رافق موضوع المونديال من سجال على مدار سنوات. وبما أن توجيه اتهام من هذا النوع قد يُجابه برفع شكاوى في محاكم دولية، فقد حرص الكاتبان على توثيق المعلومات باليوم والتاريخ، وأحياناً، بالساعة. وليس من قبيل المجازفة القول إن الكتاب قد روجع من جانب محامين وخبراء قانونيين قبل نشره.
وعند هذه النقطة نعود إلى فودة، الذي نشر كتاباً يصف في نصفه كيف التقى بالقائد العسكري لتنظيم القاعدة في باكستان، وحصل منه على اعتراف بمسؤولية القاعدة عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر في ذكراها الأولى. وهذا، في الواقع، لا ينتمي إلى باب الاستقصاء، بل باب الدعاية للقاعدة وتسويقها في المنابر الإعلامية، وهي الجائعة لهذا النوع من الدعاية والتسويق.
ثمة حكاية وثيقة الصلة بهذا الموضوع كشفها رون سوسكيند في كتابة “مبدأ الواحد بالمائة” في العام 2006، حول كيفية حصول وكالة المخابرات الأميركية على معلومات حول خالد شيخ محمد، ومكان وجوده، بعد عودة فودة من باكستان. ذكر سوسكند أن الأميركيين حصلوا على المعلومات عن طريق اتصال هاتفي بين حاكم قطر، في ذلك الوقت، وجورج تينيت، مدير السي آي إيه.
وقد أعاد فودة سرد هذه الحكاية في كتابة، وأضاف عليها كيف التقى بالحاكم القطري في لندن، وحاول الأخير إقناعه بدفع مبلغ المليون دولار، التي طلبها بعض الوسطاء، مقابل إيصال المقابلات المصوّرة، التي أجراها فودة في باكستان. ومن سوء الحظ أنه لم يحلل هذا الطلب، ولم يستفض حتى في الكلام عن ذلك الاتصال الهاتفي، ودوافعه، ودلالاته. وهذا مفهوم من جانب من يمشي على بيض.
المهم أن الجزء الثاني يتمثل في رحلة استمرت ثلاثة أيام، عبر خلالها الحدود السورية إلى العراق، عن طريق بعض المهربين، للالتقاء بممثلي فصائل “المقاومة العراقية” وهم إسلاميون، طبعاً. فلا شيء يشغل بال فودة وفؤاده أكثر من الجهاديين الإسلاميين. وقد انتهت الرحلة بالفشل، لأنه أصر على العودة قبل الوصول إلى بغداد، وحدث أن اعتقله السوريون على الحدود, استفاض في الكلام عن هذا الموضوع.
في الحالتين (القاعدة في باكستان) والقاعدة والدواعش (في العراق) لا أدري أين الاستقصاء. كان من الممكن أن يكون عمله استقصائياً لو كانت “القاعدة” قد أنكرت صلتها بالحادث عشر من سبتمبر، وبرهن في مغامرته الباكستانية على حقيقة أنها الفاعل. وكان يمكن للمغامرة العراقية أن تكون استقصائية لو حاولت النفاذ إلى عالم القاعدة والدواعش في العراق، مواردهم المالية والبشرية واستراتيجيتهم.
أسوأ ما في الأمر، “الفلاش باك” الذي يسترجع من خلاله، وفي سياق المغامرة العراقية، أحاديث ومعلومات عن إسلاميين قاعديين ودواعش في سورية ولبنان، وفي مخيمات الفلسطينيين، هناك، للإيحاء بأن هؤلاء هم الفتيل الذي سيشعل برميل البارود. وفي الأثناء يزودنا بصور شخصية، ورسالة كتبها أحد مجرمي القاعدة في الشيشان، وخرائط للرحلة العراقية. كتاب بلاك وكالفيرت صحافة استقصائية، وكتاب فودة “سيما أونطة”.
khaderhas1@hotmail.com