مفارقة متعددة الأضلاع: في يوم اقتحام مكاتبها، وقتل عدد من العاملين فيها، كانت على غلاف أسبوعية “تشارلي” الفرنسية صورة كاريكاتورية لميشيل ويليبيك تسخر منه بعنوان: “سكّير يستمني”. وتصادف في الوقت نفسه الإعلان عن صدور روايته “خضوع” في العاصمة باريس. وفي مساء ذلك اليوم الحزين، عقّب رئيس الوزراء الفرنسي على المجزرة بالقول: “فرنسا ليست ميشيل ويليبيك، ولا عدم التسامح، والخوف، والكراهية”.
ومن مفارقات القدر أن صديقاً مُقرباً للروائي الفرنسي، المثير للجدل، قُتل في الحادثة نفسها. وشاءت الصدف أن أفرغ من قراءة “خضوع”، قبل أربعة أيام، أي في اليوم الذي شهد وقوع ثلاث هجمات إرهابية، على ثلاثة أماكن مختلفة في باريس، وخلّف مئات القتلى والجرحى. وكانت الترجمة الإنكليزية للرواية المذكورة، والمُعتبرة من أكثر الروايات رواجاً في أوروبا، قد صدرت في أواخر الشهر الماضي.
وأذكرُ أن الأيام التي أعقبت مجزرة “تشارلي إيبدو” شهدت تعليقات في منابر إعلامية غربية مُختلفة، وردت فيها الإشارة إلى ويليبيك و”خضوع” كدليل على تنامي الإسلاموفوبيا. وهذا ما أعاد عدد من المُعلقين العرب كتابته بصيغ مختلفة، للتنديد بالغرب، على الرغم من ترجيح احتمال ألا يكون أحد من هؤلاء قد قرأ الرواية المذكورة.
كان يمكن لسلسلة المُفارقات المذكورة، هنا، أن تمر مرور الكرام، ولكن ذلك لم يحدث، وفي عدم حدوثه ما يدل على الأعصاب المشدودة، والعواطف الجيّاشة، في أماكن مختلفة من العالم، وعلى حقيقة أن الأدب، مقروءاً من جانب صيّادين في مياه السياسة العكرة، يمكن أن يكون ضحية، أيضاً. ولنقل إن المياه العكرة ترشح، في كل مكان، في زمن تداخلت واختلطت فيه الأشياء.
فمن الصعب، مثلاً، معرفة لماذا يُراد لرواية من نوع “خضوع” أن تكون دليلاً على الإسلاموفوبيا، فليس فيها ما يدل على كراهية من نوع خاص للإسلام أو المسلمين، إلا إذا قرأنا النص على خلفية تصريحات سابقة لكاتبها، وإلا إذا حوّلنا الإسلاموفوبيا نفسها إلى سلاح للابتزاز السياسي، والعاطفي، والأيديولوجي على طريقة الإسرائيليين، الذين صادروا، واحتكروا، ذكرى وذاكرة العداء للسامية لابتزاز كل مَنْ يغامر بانتقاد الاحتلال، والاستيطان، والتنكيل بالفلسطينيين، وانتهاك القوانين والأعراف الدولية.
فلنقل إن هذا النوع الجديد من السلاح، في يد الإسلاميين، ونسبة لا بأس بها من القوميين و”الليبراليين” واليساريين العرب، الذي أصبح قيد التداول في العالم العربي منذ سنوات قليلة، يُمثل نـزوعاً للصهيَنة (بكل ما يعنيه الأمر من لغة، وتقنيات، وسوق، وعرض وطلب، وحمولة رمزية وسياسية) في الحقل السياسي والثقافي العربيين.
والواقع أن الإسلاميين لا يحتاجون إلى “سلاح جديد” بقدر ما يتعلّق الأمر بكراهية الغرب “الصليبي” للإسلام والمسلمين، فهذه الكراهية ذات أسباب لاهوتية عميقة، وسابقة للأزمنة الحديثة نفسها، ولكنهم بعد أن تعلموا لغة الغرب، وأساليبه الخطابية، يجدون في تعبير الإسلاموفوبيا أداة جديدة ومجدية لضرب الغرب بسلاحه، فإذا احتج هؤلاء اتهموهم بالنفاق، والعنصرية، وانتهاك القيم، والتمييز بين أصحاب دين وآخر.
أما علاقة القوميين، و”الليبراليين” واليساريين العرب، بصرف النظر عن مدى علمانيتهم، فأكثر تعقيداً. فمنهم المناضل الذي يعيد علمَنة الأسباب اللاهوتية القديمة بلغة القومية، وحركات التحرر الوطني، في زمن نزع الاستعمار، ومنهم الشاطر، والطبّاخ “الحريّف”، الذي يجد في “التعددية الثقافية” السائدة في الأكاديميا الغربية، وأوساط الليبراليين، واليساريين الجدد في الغرب، وسيلة للانتماء إلى عالم الغرب نفسه، ونقده في آن. والأسوأ من هؤلاء مَنْ عيّنوا أنفسهم تلاميذ لإدوارد سعيد، ومُفسرين لرسالته، في نقد المركزية الغربية، والعلاقة بين السلطة والمعرفة والإنشاء.
وفي خلفية هذا كله تتيه دلالاً المِنَح والهبات المالية، المُقدمة من ممالك النفط، لجامعات غربية عريقة من طراز أكسفورد وهارفارد والسوربون، وغيرها. وما لا تفعله الدول تتكفل به منح وهبات رجال الأعمال، وشركات النفط، والمصارف الإسلامية، لإنشاء أقسام جديدة للدراسات الإسلامية. المال سلطة، وثمة علاقة بين السلطة والمعرفة والإنشاء، بالتعبير السعيدي نفسه.
كان كل ما تقدّم ضرورياً قبل العودة إلى: “فرنسا ليست ميشيل ويليبيك، ولا عدم التسامح والخوف والكراهية”، وقبل العودة إلى رواية “خضوع” نفسها. وكلا الأمرين، في الواقع، وثيق الصلة بالآخر، وينطوي على قدر مفاجئ من حس المفارقة، وإن يكن بطريقة غير متوقعة، أيضاً.
لا نعرف ما إذا كان رئيس الحكومة الفرنسية قد قرأ الرواية، التي أدان صاحبها، مساء الهجوم على أسبوعية تشارلي، ولكن الإسلاموفوبيا التي حذّر من منتجيها ومستهلكيها في فرنسا والغرب، ليست، بالضرورة، تلك التي تتجلى في أذهان نقّادها العرب من المناضل وصولاً إلى الحريّف.
والأهم، من هذا وذاك، أن منتجي ومستهلكي الإسلاموفوبيا في فرنسا، والغرب عموماً، أقرب في نظرتهم إلى الحياة، والعائلة، والأخلاق، والجنس، والنظام الاجتماعي، والغاية من وجود الإنسان على الأرض، إلى نظرة الإسلاميين أنفسهم، منها إلى نظرة الليبراليين والاشتراكيين واليساريين الجدد في الغرب.
والأهم، مع هذا وذاك، أن أعداء منتجي ومستهلكي الإسلاموفوبيا، في فرنسا والغرب، هم أنفسهم الذين يناصبهم الإسلاميون العداء، وهم المكروهون في الغرب من بني جلدتهم نتيجة ما يُعتبر، في نظر أعدائهم تفريطاً في القيم والتاريخ الغربيين، محاباة للإسلام والمسلمين. فباريس،مثلاً، التي وصفها بيان الدواعش، بعد الهجمات الثلاث الإجرامية الأخيرة، بعاصمة “العهر والفجور” مكروهة، أيضاً، من جانب منتجي ومستهلكي خطاب الإسلاموفوبيا في فرنسا والغرب عموماً (نسبة كبيرة منهم على الأقل). هذا يحتاج إلى المزيد، وهذا ما سنحاول التدليل عليه في الأسبوع القادم، في معرض الكلام عن “خضوع” وصاحبها.
khaderhas1@hotmail.com