يكشف تجدّد رفض الفلسطينيين الامر الواقع الذي تسعى إسرائيل الى فرضه في القدس أمورا عدّة. في مقدّم هذه الامور، بعيدا عن المزايدات والشعارات الفارغة وصواريخ “حماس” المضحكة المبكية، أنّ الشعب الفلسطيني موجود ولا يزال يقاوم. ليس في استطاعة ايّ جهة الغاء الشعب الفلسطيني. هذه باختصار عبارة تختزل كلّ ما جرى وما زال يجري، خصوصا في القدس.
ما تشهده القدس من دفاع للمواطنين الفلسطينيين عن بيوتهم وارضهم في حي الشيخ جراح يؤكّد الحاجة الى تسوية سياسية تأخذ في الاعتبار حقوق شعب موجود على خريطة الشرق الأوسط. لا بدّ في نهاية المطاف من خيار الدولتين مع ما يعنيه ذلك من قيام دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقيّة المحتلّة في العام 1967.
كشف الفلسطينيون الذين هبّوا لنصرة حيّ الشيخ جرّاح والقدس بمقدساتها المسيحية والاسلاميّة كلّ من ادّعى المتاجرة بقضيتهم. كشفوا قبل كلّ شيء السلطة الوطنيّة الفلسطينية التي تذرّع رئيسها محمود عبّاس (أبو مازن) بالقدس من اجل تأجيل الانتخابات الفلسطينية الى اجل غير مسمّى. تغطّى بالقدس لتأجيل الانتخابات بعد رفض إسرائيل مشاركة اهل المدينة فيها. يبدو ان إسرائيل صارت تقرّر هل تجري انتخابات فلسطينية ام المطلوب تأجيل مثل هذه الانتخابات. هذه هي نقطة الضعف الرئيسية في منطق السلطة الوطنيّة. كلّ ما في الامر ان “أبو مازن” اكتشف ان “فتح” لن تفوز في الانتخابات وان لائحة “فتح” ستواجه منافسة من لائحتين فتحاويتين أيضا هما لائحة ناصر القدوة ولائحة محمّد دحلان.
كشفت القدس “حماس” التي اخذت قطاع غزّة رهينة. وحوّلته سجنا في الهواء الطلق لمليوني فلسطيني. سارعت “حماس” الى نجدة إسرائيل وذلك باطلاق صواريخ من غزّة. لا نفع لهذه الصواريخ في الوقت الحاضر سوى خدمة إسرائيل التي تبحث عن عدوّ خارجي تبرر به سياسة الاستيطان وسياسة الاستيلاء على الأراضي والممتلكات الفلسطينية في القدس.
تسعى “حماس” الى استغلال الثورة الشعبيّة على الاحتلال في القدس كي تؤكّد انّها موجودة. نعم إن “حماس”، التي تنتمي الى التنظيم الدولي للاخوان المسلمين، موجودة. لكنّها موجودة لانّ كلّ ما فعلته منذ تأسيسها صبّ في خدمة اليمين الإسرائيلي.
كشفت القدس أيضا ايران التي تحتفل سنويّا بـ”يوم القدس”. لم تستطع ايران في يوم من الايّام تقديم خدمة الى القدس والى الفلسطينيين باستثناء التهديد بإزالة الكيان الصهيوني في دقائق. كلّ ما فعلته “الجمهوريّة الاسلاميّة” هو اطلاق الشعارات والمزايدة على العرب. كلّ ما فعلته عمليا هو محاربة ياسر عرفات عن طريق “حماس” والعمليات الانتحارية التي نفّذتها في مرحلة معيّنة بهدف واضح كل الوضوح هو اخذ إسرائيل الى اليمين اكثر. ليس صدفة انّ بنيامين نتانياهو في موقع رئيس الوزراء منذ 12 عاما… ولا قضيّة لديه سوى القضاء نهائيا على خيار الدولتين!
كشفت القدس إسرائيل حيث فراغ سياسي لا سابق له. لا همّ لدى الأحزاب الإسرائيلية، في معظمها، سوى التخلّص من “بيبي” الذي ضاقت أكثرية الاسرائيليين ذرعا به. يؤكّد ذلك تفضيل اليميني المتطرّف نافتالي بينيت التعاون مع الوسطي يائير لابيد على التعاون مع نتانياهو من اجل تشكيل حكومة جديدة. لا وجود في إسرائيل، التي أجريت فيها أربع انتخابات في سنتين، لقيادة سياسيّة قادرة على اتخاذ قرار في شأن التسوية مع الفلسطينيين. لا يوجد، الى الآن، سياسي إسرائيلي يمتلك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بان الشعب الفلسطيني لن يختفي من الوجود بين ليلة وضحاها وانّ لديه حقوقه “غير القابلة للتصرّف” باعتراف الأمم المتحدة.
الأكيد ان لا وقت للإدارة الأميركية الجديدة للاهتمام بالشأن الفلسطيني – الإسرائيلي. لم تقل الإدارة يوما بلسان ايّ مسؤول فيها انّ هناك اولويّة لهذا الشأن. الإدارة منشغلة حاليا بامور أخرى، بينها ايران والصين وروسيا ، والاهمّ من ذلك كلّه الوضع الداخلي في الولايات المتحدة. من دون تحسّن الاقتصاد خلال اشهر ومن دون تقدّم كبير في مواجهة “كوفيد – 19” وآثاره ستخسر الإدارة مجلسي الكونغرس في انتخابات لا يفصل عنها سوى سنة ونصف سنة. هذا معناه ان إدارة بايدن ستتحوّل الى بطة عرجاء لا اكثر. وهذا ما يشغل بال الرئيس الأميركي قبل ايّ شيء آخر.
ثمّة من سيسأل اين العرب؟ هناك عرب تستخدمهم ايران للمتاجرة بالقضيّة الفلسطينية تحت شعار “المقاومة والممانعة”. على رأس هؤلاء النظام السوري الذي لا يريد الاعتراف بانّه انتهى وسيبقى يمارس هوايته المفضّلة، أي إعطاء كل التبريرات كي يكون الاحتلال الإسرائيلي للجولان ابديّا. وهناك عرب آخرون صادقون. ليس بين هؤلاء العرب من يريد بيع الفلسطينيين اوهاما… باستثناء أدوات ايران المنتشرة بشكل ميليشيات مذهبيّة في كلّ انحاء المشرق العربي وصولا الى اليمن!
من يسأل اين العرب، عليه ان يسأل نفسه اوّلا هل تركت ايران أي دولة عربيّة تهتم بفلسطين بعدما افلتت ميليشياتها في المنطقة؟ لا توجد فضيحة اكبر من فضيحة ابتزاز المملكة العربيّة السعوديّة عن طريق اليمن وصواريخ الحوثيين… والسعي الى اسقاط الحكومة العراقيّة برئاسة مصطفى الكاظمي عن طريق اغتيالات تنفّذها مجموعات ذات انتماءات معروفة كما حصل أخيرا في كربلاء.
ليس امام الفلسطينيين سوى اخذ امورهم بيدهم. وهذا ما فعلوه. لا خيار آخر امامهم بعد انكشاف الأمور إقليميا ودوليا وحتّى في الداخل الفلسطيني.
في نهاية المطاف، لا بدّ ان يأتي اليوم الذي سيتوجب فيه على إسرائيل مواجهة الحقيقة، بما في ذلك ان القدس الشرقيّة محتلّة وانّ الاحتلال لا يمكن ان يستمرّ الى الابد. ما الذي يمكن لاسرائيل عمله، بكلّ جبروتها، في مواجهة ما يصل الى ثمانية ملايين فلسطيني بين البحر والنهر، بين البحر المتوسّط ووادي الأردن، هذا عدا الفلسطينيين المنتشرين في مختلف انحاء العالم؟
عاجلا ام آجلا، لا مفرّ من أصوات عاقلة إسرائيل نفسها، أصوات تعترف بانّ لا مفرّ من التعاطي مع الواقع وانّ القدس العربيّة كشفت الجميع. كشفت انّها مدينة محتلّة تمتلك من يدافع عنها ومن يضع حدّا لجنون استمرّ طويلا، جنون غذّاه التطرف داخل إسرائيل وخارجها، أي ما يسمّى حلف المتطرّفين في المنطقة!