مقابل النهوض العسكري الروسي الفعلي والاستعراضي والميزانية الدفاعية الكبرى، يستمر التقليص بشكل ملحوظ في حجم القدرات العسكرية لجيش صاحبة الجلالة.
لفت النظر في ردود الفعل الدولية على الحملة الجوية الروسية في سوريا ارتفاع نبرة لندن، وأعقب تشكيك الحكومة البريطانية بجدية استهداف “داعش” إبداء موسكو لقلقها من تقارير إعلامية أشارت إلى أن بريطانيا سمحت لطائراتها باستهداف مقاتلات روسية في سماء سوريا مما استدعى نفيا رسميا في لندن.
بيد أنه لا يمكن إخفاء اختبار القوة بين الجانبين، وما يثبت ذلك الإشارات البريطانية الصريحة بعد التدخل الروسي في سوريا، عن إمكانية نشر صواريخ نووية أميركية في أراضيها على خلفية تنامي التوتر في العلاقات مع روسيا. وتبع ذلك قرار المملكة المتحدة إرسال قوات تابعة لها إلى دول “البلطيق” لإحباط استفزازات محتملة من جانب روسيا في إطار تعزيز التواجد العسكري لحلف “الناتو” بالقرب من حدود روسيا.
هكذا ترتفع وتيرة الحرب الكلامية والتهديدات العسكرية المباشرة العلنية بين روسيا والغرب، مما يعيد إلى الأذهان أجواء “الحرب الباردة”، وكما في كل منعطف تاريخي حساس، تبرز أدوار مميزة لأسد التاج البريطاني وللدب الروسي. منذ “اللعبة الكبرى” في القرن التاسع عشر بين الإمبراطوريتين الإنكليزية والروسية في آسيا، إلى الحرب العالمية الثانية، كانت الحرب الخفية والعلنية أو التعاون المرحلي من سمات علاقات البلدين. ومن يعود إلى أرشيف الجاسوسية وتاريخ الاستعمار والنزاعات، يجد الجاسوس المزدوج البريطاني – الروسي كيم فيلبي الذي طبع الحرب الباردة وأنهى حياته في موسكو، ويتذكر والده جون فيلبي (1885 – 1960)، المستشرق والدبلوماسي والجاسوس، الذي كان أكبر منافس للكولونيل لورانس وكان للاثنين أدوارهما عند آل سعود والهاشميين. وفي مجال اختراع الكيانات ورسم الحدود لم تكن روسيا القيصرية بعيدة، وكان الاتحاد السوفييتي أول دولة تعترف بالدولة السعودية.
إبان وجود “الباب العالي” وبعد انهيار السلطنة العثمانية، تقاطعت لندن وموسكو وتنافستا في أكثر من مكان في المشرق، وكانت فرنسا حاضرة بقوة في لعبة توزيع الحصص والنفوذ. لكن في الخليج وجواره كانت اللعبة محصورة، أو محتدمة، بين لندن وموسكو.
في إيران كان لافتا أن الشاه رضا بهلوي قرر في عام 1935، بناء على نصيحة بريطانية، تغيير اسم مملكة فارس واعتماد اسم إيران كي يكون هناك إنصاف لكل المكونات العرقية. خلال الحرب العالمية الثانية بدا أن خطوط السكك الحديدية الإيرانية هي أفضل الطرق لتوصيل الإمدادات داخل العمق السوفييتي القادمة من الخليج، وبالفعل قامت بريطانيا والاتحاد السوفييتي بالضغط على إيران والشاه من أجل العدول عن محاباته لألمانيا. وهذا الوضع، بالإضافة إلى أهمية موقع إيران الإستراتيجي، دفع بريطانيا والاتحاد السوفييتي إلى غزو إيران في الخامس والعشرين من أغسطس عام 1941.
في أوروبا كانت التوازنات دقيقة وهشة، إذ انطوى اتفاق ميونيخ في 29 سبتمبر 1938، بين الفوهرر أدولف هتلر والإنكليزي آرثر نيفيل تشامبرلين والفرنسي إدوارد دالادييه والدوتشي بينيتو موسوليني على نقل مقاطعة السوديت إلى ألمانيا وبداية استسلام أمام النازية، ولازم ذلك مباركة غير مباشرة من جوزيف ستالين الذي انبرى للعمل مع الألمان في بولندا. إزاء كل ذلك كانت صرخة ونستون تشرشل “لقد اخترتم تفادي الحرب مع تحمل وصمة العار، لكن سيتملككم الخزي وستواجهون الحرب”، وصحت النبوءة وكانت الحرب وكان بعدها تقاسم العالم بين روزفلت وستالين وتشرشل وديغول.
بيد أن الثعلب البريطاني والخطيب الشهير تشرشل الذي كان أول من بدأ الحرب الباردة كانت له افتراضات أخرى حول روسيا وبلاد السوفييت، إذ قال “خطف ستالين روسيا الدولة الزراعية وحوّلها إلى بلاد نووية ومصدر للخام” وتوقع أنه “خلال جيلين سيصاب الروس بانحطاط ولن يستطيعوا حتى استخراج الخام. شعبهم سيبدأ بالانقراض، أما دكتاتوريوهم وخدمهم فسيشترون منا سلع الرفاهية”، وأكمل تشرشل “يكفي أن نوقف التمدد السوفييتي حتى يدمر الروس أنفسهم دون أن نفعل نحن أي شيء”.
وبالفعل إذا راقبنا مرحلة ما بعد نهاية الحرب الباردة وحقبة بوريس يلتسين، لكنا أعطينا الصواب لتوقعات صاحب القبعة الشهيرة والغليون المشتعل. لكن وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين أنقذ روسيا، ولو لفترة معينة، من الانحدار نحو الانحطاط، وأعاد موسكو إلى قلب اللعبة الدولية في مواجهة لندن وغيرها من اللاعبين.
مع بدء العودة الروسية إلى الساحة في مرحلة 2006 – 2008 كانت هناك عودة إلى حكايات جيمس بوند وتحليق الطائرات والضربات الخاطفة من هنا أو هناك، ومن أبرز ما تحفظه الذاكرة مصرع العميل الروسي السابق ألكسندر ليتفيننكو في لندن في عملية منسوبة للجهاز الأمني الروسي. وخلال المجابهة حول أوكرانيا منذ 2013 أو في موضوع توسيع حلف شمال الأطلسي نحو شرق أوروبا ووسطها كانت لندن على الخط الأول. وفي هذا السياق تحديدا أكد وزير الدفاع البريطاني، مايكل فيلون، أن عدد تحليقات قاذفات القنابل الروسية في المجال الجوي الدولي قرب بريطانيا بلغ “أعلى معدل منذ الحرب الباردة”. وفوق البلطيق كما فوق البحر الأسود يزداد التوتر بين المقاتلات الروسية والأطلسية وكذلك بين القطع البحرية في المياه.
في هذا الجو المحموم يأتي التدخل الروسي في سوريا ليزيد من التوتر عمليا إلى حد أن العديد من الأوساط المعنية في لندن وباريس وبروكسيل تقول إن “الحرب الباردة الفعلية” التي تدور على الأرض السورية هي بين موسكو وبعض أوروبا (باريس ولندن)، إذ أن قوى المعارضة السورية التي تسعى موسكو لهزيمتها دعما لبشار الأسد، هي قوى “مقربة من الأوروبيين”. وفي موضوع المنطقة الآمنة قرب الحدود التركية، والتي أتت موسكو لمنع قيامها كانت مواقف لندن وباريس حولها تتلاقى مع أنقرة خلافا للموقف الأميركي الحذر.
لم يسلم كاميرون بالخروج من المعادلة السورية، وهذه المرة سيسعى لانتزاع موافقة مجلس العموم كي يشارك في الحملة ضد “داعش” وينتظر ألا يخذله التصويت كما حصل في سبتمبر 2013.
في مطلق الأحوال في مقابل النهوض العسكري الروسي الفعلي والاستعراضي والميزانية الدفاعية الكبرى، يستمر التقليص بشكل ملحوظ في حجم القدرات العسكرية لجيش صاحبة الجلالة، إلى حد أن البحرية الملكية نفذت عملياتها العسكرية في ليبيا من دون حاملة طائرات. وهذا يعني تراجع القدر النسبي من الاستقلالية والتعويل على التحالف مع واشنطن. بالرغم من ذلك، لا تتصور لندن نفسها غائبة عن الإسهام في صياغة المعالم الجديدة للمشرق في إطار اللعبة الكبرى الحالية، بحيث أنها لن تتخلى عن دورها في حماية الأردن أو إبقاء ما تيسر من دور داخل الدول أو عند المكونات المشرقية من أكراد وغيرهم.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك باريس`