إن الفِعل الأكثر ثوروية لا يزال توصيف الوضع كما هو جهارة
روزا لوكسمبورغ
المواطن اللبناني عالق منذ عقود بين مشاريع إلهية من جهة ومشاريع عائلية من جهة أخرى. والمشهد الشعبي يزداد طائفية ومذهبية كل يوم. فالسنّة يخشون الشيعة، والشيعة يخشون السنّة، والمسيحيون يخشون الاثنين، والدروز يخشون الجميع. وفجأة، تصعد هذه الهبّة المدنية الواعدة – وهي واعدة فقط حتى الآن – بإعادة العمل السياسي إلى أصوله البديهية، أي تأمين المصالح المعيشية للمواطن.
السلطة في لبنان الآن حائرة، إن لم تكن خائفة. وكلام الرئيس نبيه بري في لحظة تخلٍّ (لولا الطائفية، لَسَحَبونا كلنا من بيوتنا) دليل ساطع على هذا الخوف. فلأول مرة منذ عقود تواجه السلطة معارضة محاسِبة وغير متوقعة. شعبية من تحت. معارضة ومحاسِبة في آن. وهذه ليست المعارضة المهينة لذكاء الناس التي تُمارس من داخل السلطة والتي كان دوماً جوهرها الصراع على توزيع المنافع بين أركان القوى الرئيسة، ولا علاقة لها بتاتاً بمصالح الناس. للتذكير، إن تأمين مصالح المواطن وتحسينها يبقى السبب الأول لوجود السلطة، وهذا ما نَسِيه السياسيون في لبنان منذ زمن، مأخوذين بمصالحهم الخاصة ومطمئنين لرأي عام مدجّن. فحسناً فعلت الانتفاضة الحالية بتذكير السلطة، كل سلطة، بهذا المبدأ البديهي.
من الطبيعي أن يحاول الفرقاء السياسيون استيعاب الانتفاضة لأنهم ليسوا معتادين مواجهة مطالب شعبية، ولا يعرفون فعلاً كيفية مواجهتها. لذلك يطلبون من الناشطين المعترضين اقتراح الحلول. هذه دعوة باطلة ويجب الحذر من الاستجابة لها. فمسؤولية الناشطين والمعترضين تقتضي إظهار الخلل والضغط لإصلاحه وليس اقتراح الحلول إذ إن هذه من مسؤولية أصحاب السلطة. والسلطة التي تعترف بعدم قدرتها على توفير أو تنفيذ الحلول تستقيل. هذا ما يحدث في الأنظمة الديموقراطية. لاحظوا أن عمل الناشطين هو مبدئياً من مسؤولية مجلس النواب، إلا أن مجلس النواب اللبناني يبدو مشغولاً منذ سنوات بأمور أخرى! وليس في الأمر عجب لأن مجلس الوزراء ليس سوى صورة منقّحة عن مجلس النواب. فكيف للسلطة أن تحاسب نفسها؟
بدأت مطالب الانتفاضة تتنوع على الكثير من الجبهات، مما قد يفقدها زخمها وفاعليتها. لذلك
¶ إن التركيز على بضع قضايا معيشية أساسية فقط يعزّز فاعلية المطالب. فإذا كانت مسألة النفايات واضحة وملحّة في هذا المجال، إلا أن إضافة مسائل أخرى سياسية كالانتخابات بالرغم من أهميتها، تحوّل الانتفاضة نحو متاهات معقدة حيث فرص النجاح ضئيلة جداً إن لم تكن معدومة.
¶ إن اختيار قضايا لها علاقة بفريقي 8 و14 آذار سوياً أمر بالغ الأهمية، وإلا سوف تبدو المطالب وكأنها وسائل ضغط مقنّعة يستعملها أحد الفريقين ضد الآخر. وبالفعل، فغالبية الاتهامات بالفساد تطاول مشاريع محسوبة على هذا الفريق أو ذاك ولكن قليلاً ما نسمع اتهامات محددة موجهة إلى الفريقين معاً، مما يحوّل المطالب عن أهدافها الإصلاحية إلى مواجهة سياسية محلية بدون أفق. إن مسألتي النفايات والكهرباء توفّران حالة مناسبة جداً للمجتمع المدني، فهي من الخدمات الأساسية الفاشلة، والهدر فيها كبير بمئات الملايين من الدولارات سنوياً، وكل منها محسوب على فريق سياسي محدد.
¶ إن جمع المعلومات الدقيقة – وهذه متاحة إجمالاً – لدعم الاتهام بالفساد يعطي صدقية موضوعية للمطالب، ويحرج السلطة وقد يجبرها على تحرّك إصلاحي، وهذا هو الهدف. الأرقام والمعلومات الدقيقة توفّر سلاحاً فعّالاً للمعارضة المدنية، بالأخص في بلد كلبنان مستَباح في مجال الخدمات الأساسية. في ما يلي أدناه بعض المعلومات في هذا الصدد.
فلنأخذ قضية النفايات أولاً، وهي بحد ذاتها قضية خطيرة بآثارها اليومية الصحية والبيئية، وبدلالتها على عجز السلطة وفشلها. لذلك يجب الاستمرار بالضغط اليومي من أجل إيجاد الحل والبدء بتنفيذه. لا خيار آخر بالنسبة لملف النفايات الذي لم يجد حلاً حتى الساعة. في هذه الحال، ليس من الضروري جمع الكثير من المعلومات لأنها فاقعة أمامنا بشكل يومي وفي كل المناطق. إلا أنه يجب الطلب من المسؤولين تفاصيل كلفة أي حل مقترح لمقارنة هذه الكلفة بالمعايير الدولية، خصوصاً أن الأرقام المتداولة إعلامياً من قِبل نواب ومسؤولين تظهر أن كلفة طن النفايات بالنسبة لشركة سوكلين تصل إلى ضعفي المعدل العالمي.
ثانياً، ملف الكهرباء. تمعّنوا في المعلومات التالية. في السنوات الأربع الأخيرة، تمّ تحويل ما معدله ملياري دولار سنوياً من الموازنة إلى شركة كهرباء لبنان. وهذا المبلغ يمثّل أكثر من 60% من عجز الموازنة خلال الفترة نفسها. أي أن مؤسسة عامة واحدة فقط هي مسؤولة عن أكثر من 60% من عجز الموازنة! إنما المشكلة الكبرى ليست هنا أو في أن هذه المبالغ الضخمة لم تحسّن شيئاً في قطاع الكهرباء. المشكلة هي في أن هذه المبالغ الضخمة تُدفع بدون أسئلة، ولمؤسسة عامة بدون حسابات! فآخر حسابات مدقّقة لشركة كهرباء لبنان كانت حسب علمنا لعام 2007، وقد أورد المدقّقون في تقريرهم ملاحظات فريدة من نوعها إذ تشير إلى وضع مالي مريب حيث العديد من حسابات الشركة يشوبها الغموض. ما هي ردّة الفعل الرسمية؟ كانت ولا تزال: لا شيء. وكأنهم لا يريدون أن يعرفوا، أو أنهم يعرفون…
هناك مسألة بحاجة إلى انتباه خاص من قِبل المعارضة المدنية ولا أحد يعيرها أي اهتمام. إنها مسألة، وإن كانت أقل وضوحاً ومباشرة في طبيعتها من قضيتي النفايات والكهرباء، إلا أنها تحمل آثاراً ومخاطر أكبر وأوسع وقعاً بكثير. إنها قضية الدين العام بحجمه المرتفع الاستثنائي، والتي لم تحظَ حتى الآن بأي نقاش في مجلس النواب أو في مجلس الوزراء. وما من موازنة تضبط الإنفاق الرسمي منذ العام 2005. عملياً، إن لامبالاة المسؤولين تجاه الوضع المالي المتردي هي لامبالاة منطقية لأن أي انهيار نقدي أو اقتصادي لن يؤثر في حساباتهم المصرفية في الخارج. وحتى ذلك الوقت، فالدين العام في ازدياد مطرد، والقطاع العام يتوسّع إنفاقاً وتوظيفاً ليس لمصالح عامة بل لمصالح فردية سياسية بحتة، والوضع المالي يتجه نحو الحائط.
في السياق نفسه، إن سياسة مصرف لبنان هي أكثر ضبابية من السياسة المالية للحكومة، وتزيد بشكل كبير وملموس من مخاطر الإنفاق الحكومي بدون حساب. فمنذ العام 2002 لا ينشر مصرف لبنان حساب الأرباح والخسائر، كما يتوجب عليه قانوناً، لكي لا يظهر خسائره الناتجة عن الفوائد السخية التي يدفعها على استدانته من المصارف. كما لا تُنشر أرقام عن نسبة الفوائد التي يدفعها مصرف لبنان على غالبية ديونه من المصارف، وهي ديون توازي أكثر من 73 مليار دولار حسب ميزانيته في آخر آب 2015. ولم تتم مساءلة مصرف لبنان بتاتاً من قِبل مجلس النواب منذ أوائل التسعينات من القرن الماضي. لا رقابة ولا مساءلة على الإطلاق. وللتذكير، فإن مصرف لبنان مؤسسة عامة وليس خاصة.
إن صمت السلطات التشريعية والتنفيذية، وبالأخص الإعلام المرئي والمكتوب الغائب تماماً عن هذه المواضيع المالية والنقدية الخطيرة، يضع على المعارضة المدنية مسؤولية فعلاً كبيرة بأن تقوم بدور رقابي ترفض المؤسسات الرسمية القيام بها، وذلك في مسألة تحمل مخاطر أكبر بكثير مما يعتقد الناس.
لن يكون إصلاح في لبنان! هذا مؤكد. فالنظام التوافقي اللبناني هو توافق على تقاسم المنافع، حيث المنفعة خاصة والكلفة عامة. ولم يعد في لبنان أنظمة رقابية فعّالة إذ تمّ شلّها، ولم يعد من أنظمة أخرى رادعة، إعلامية أو مدنية، إذ تمّ احتواء معظمها. لم يعد هناك من حافز للإصلاح. لذلك نجد أن أياً من الأحزاب أو المجموعات السياسية لم يقترح منذ زمن، لا بل أبداً، برنامجاً بتوجهات محددة سياسية واجتماعية واقتصادية. ولا أي حزب أو مجموعة سياسية أو نقابة عمالية بتاتاً. أما الأتباع فيتبعون الشعارات كالعادة.
إن الانتفاضة المدنية القائمة تحمل وعد تأسيس أرضية للعمل السياسي على المستوى الوطني. فإذا فعلت يكون إنجازها تاريخياً. المشكلة السياسية الأولى في لبنان لا تكمن في طبيعة هذا النظام القائم، بطائفيته ومذهبيته وفساده. المشكلة السياسية الأولى هي في غياب القوة أو التجمع السياسي الذي يطرح البديل الوطني ويناضل من أجله. والنضال في سبيل تأمين المصالح المعيشية الأساسية للناس التي ذكرنا أعلاه تؤمن بداية ممتازة على هذا الطريق. وإلا، فإن الشباب والشابات المشاركين في الانتفاضة المدنية سينتقلون سريعاً من ساحات الاعتراض إلى طوابير طلب التأشيرات أمام السفارات. لهم الخيار.
“النهار“