صدر كتاب بعنوان “تحت جلد المجاهدة: دخول صحافية شابة إلى شبكات التجنيد الداعشية” بالإنكليزية، قبل نحو شهرين، وكان قد نُشر في مطلع العام الحالي بلغته الأصلية، أي الفرنسية، وتزامن صدور الترجمة الإنكليزية مع ترجمة ألمانية، ولن يمر وقت طويل قبل ترجمته إلى لغات أخرى، على الأرجح لن تكون العربية من بينها. فعلاقة العرب بما يجري تحت ثيابهم، وأنوفهم، فقيرة، إذا كنّا نتكلم عن الكتب، وإذا استثنينا الدراسات والمقالات الجادة في صحف ودوريات عربية، وهي قليلة في كل الأحوال.
ولا أريد الاستفاضة في هذا الموضوع، كل ما في الأمر أن موضوع داعش، والدعشنة، وكل ما يدخل في باب الإسلام السياسي، وتجلياته الراديكالية، يحتل حيزاً كبيراً في أسواق النشر الأوروبية، والأميركية.
في أسواق النشر، كما في كل سوق أخرى، قانون العرض والطلب هو السيّد. وإذا كان من تحصيل الحاصل القول إن الطلب في الأسواق المعنية كبير، فإن ملاحقة العرض للطلب، ومحاولة إشباع نهم للمعرفة، أو حب استطلاع لدى جانب قطاعات اجتماعية مختلفة، لا ينجو في حالات بعينها من السلق، والتلفيق.
ومع ذلك ثمة صعوبة في إدراج الكتاب المذكور في قائمة الكتب الرديئة، بل يمكن استخدامه للتدليل على حقيقة أن وجود الطلب يحرّض العارضين على التنويع والابتكار. وبهذا المعنى يندرج الكتاب في قائمة التجارب الشخصية لرجال ونساء حاولوا اختراق عالم الدواعش، وهذه تُضاف إلى محاولات عنيدة لما لا يحصى من أجهزة الأمن الإقليمية والدولية، لاختراق عالم الدواعش، وسبر أغواره، ومن المؤسف أن نتائج محاولات كهذه لا تُعمم، ولا يُنشر منها إلا القليل، وغالباً بعد تقاعد المعنيين، وخروجهم على المعاش.
المهم أن “تحت جلد المجاهدة” يمثل سرداً لتجربة صحافية فرنسية ابتكرت لنفسها شخصية وهمية، على الإنترنت، ودخلت إلى مواقع التواصل الاجتماعية الخاصة بمروجي الدعاية الداعشية، لتجد نفسها، بعد وقت قصير، في علاقة “غرامية” مع داعشي فرنسي من أصل جزائري يقيم في سورية.
ولا أريد الاستفاضة في تفاصيل العلاقة، ومحاولات إقناع “ميلودي” الشخصية الوهمية بضرورة ترك فرنسا “والهجرة” إلى دولة الخلافة، بل التذكير بحقيقة أن قانون العرض والطلب، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالكتابة والكتب، وفي ظل غياب للرقابة، يحرّض على الإبداع. فليس المطلوب أن يكتب كل الناس عن الأصول التنظيمية أو الأيديولوجية للدواعش، وغيرهم، بل المطلوب اكتشاف مداخل جديدة لتناول موضوع بعينه.
ولعل في هذا، أو على الأقل، في جانب منه، ما يفسر فقر سوق، أو أسواق، النشر العربية، فمن ناحية لا توجد في الثقافة العربية تقاليد راسخة لمعرفة واكتشاف العالم القريب والبعيد (الآن، سينقض عليك العربان والعروبيون دفاعاً عن “الأمة”) وتحول الرقابة الذاتية، والعامة، أي التقاليد الداخلية والخارجية للقمع دون الابتكار والإبداع من ناحية ثانية.
يشبه “تحت جلد المجاهدة” رواية بوليسية، ويعتمد عمارة الرواية الكلاسيكية: البداية (تمهيد)، والوسط (تصعيد)، والخاتمة (حل العقدة)، وتقطنه شخصية خيالية واحدة على الأقل، هي ميلودي، ولكن بقية الشخصيات تبدو خيالية، أيضاً، فالكل يعيش باسم مستعار، ولا يفصح عن مكان وجوده الحقيقي، أو تفاصيل حياته الشخصية، وحتى المؤلفة اختارت اسماً مستعاراً “آنا إيريللي”، لتضعه على غلاف الكتاب، خوفاً من انتقام الدواعش.
والمهم، أن الكتاب يسد فجوة لا تتمكن المعالجات السوسيولوجية، والسياسية، والأيديولوجية، من سدها، والمقصود الحياة اليومية للداعشي، وعلاقته بنفسه وبالعالم لا كما تتجلى في أشرطة الدعاية، بل في الأحاديث الحميمة والخاصة، فالداعشي دنيوي تماماً بقدر ما يتعلّق الأمر بمتعه الشخصية، حتى وإن تناقضت مع موانع دينية شائعة ومعروفة، وهو، أيضاً، شديد الالتزام بالمظاهر الخارجية والشكلية للتدين، بصرف النظر عن علاقتها بالواقع. ومسألة الواقع، هذه، إشكالية تجد حلاً مُبتكراً في عالم الدواعش، فكل ما ليس هم يُعامل باعتباره في قائمة الكفّار والمرتدين.
أخيراً، وقد تعرضت لهذا الأمر في مقالة سبقت حول علاقة تركيا الأردوغانية بالظاهرة الداعشية، واستخلصت في حينها أن ثمة أكثر من وجه للشبه بين باكستان في زمن “الجهاد” الأفغاني، وتركيا في زمن الدواعش والنصرة وغيرهم.
في كتاب “تحت جلد المجاهدة” ما يعزز احتمال وجود علاقة من نوع ما بين تركيا الأردوغانية والدواعش. فالعاشق الداعشي يتكلمّ في حواراته اليومية، عبر سكايبي، مع “حبيبته” ميلودي عن مرونة تسم حركة وتحركات الدواعش في تركيا، فمن جماعته في سورية من يذهب إلى بلدات وقرى تركية حدودية لتناول الطعام، والسهر، وهم يفعلون ذلك دون إخفاء هوياتهم التنظيمية والأيديولوجية.
وكذلك الأمر بالنسبة للجرحى في مستشفيات تركية. وبقدر ما يتعلّق الأمر بالمتطوعين الأجانب فهم غالباً ما يجدون أشخاصاً في انتظارهم، في مطار أسطنبول، ويتولى هؤلاء الإشراف على ما تبقى من الرحلة حتى الوصول إلى الأراضي السورية.
هل تحدث أشياء كهذه نتيجة تراخي وغباء أجهزة الأمن الأردوغانية، أم أن الغباء والتراخي سياسة مقصودة تدخل في باب غض الطرف، وفي سياق تفاهمات ضمنية، وخدمات متبادلة؟ سنعرف ذات يوم الحقيقة كاملة، ولكن الإشارات المتوفرة لا تمنح تركيا الأردوغانية ما يكفي من أوراق التوت.
لا يحتاج “تحت جلد المجاهدة” إلى أكثر من يومين من القراءة، ومن المؤكد أن الملل ليس في قائمة المشاعر التي يمكن أن تنتاب القارئ إذا استرق النظر إلى غراميات داعشية.
khaderhas1@hotmail.com