ربما ينبغي التصريح بأشياء تبدو ضرورية قبل الكلام عن الحرب في اليمن وعليه. وفي طليعتها عدم التعاطف بالمعنى الشخصي، أو السياسي، مع كل الفاعلين السياسيين هناك. لستُ مع الحوثيين، ولا مع المخلوع صالح، ولا مع عبد ربه منصور هادي، ولا مع إيران، ولا مع السعودية، ولا أعتقد أن طريق الآلام في اليمن قصيرة.
أما إذا دخلنا في صلب الموضوع فلنقل إن المشهد اليمني يحفل بمفارقات كثيرة، وينطوي على احتمال نتائج ينبغي أن تكون متوقعة على الرغم من حقيقة أنها لا تحتل مكانة تُذكر في التغطية الإعلامية والسياسية للحرب.
أهم المفارقات تعددية القوى اليمنية المُشاركة في الحرب، والمستفيدة منها، والمُراهنة عليها، وحقيقة أن لكل منها أجندة خاصة لا تنسجم، بالضرورة، مع أهداف ومصالح بقية القوى، حتى وإن تحالفت معها عند هذا المفترق أو ذاك. فعدو اليوم قد يصبح حليف الغد، والعكس صحيح.
هناك جماعة الحوثيين، التي خاضت، على مدار العقد الماضي، سلسلة حروب مع الدولة اليمنية، لم تُهزم فيها بطريقة نهائية، ولم تندثر، كل ما في الأمر أن الحروب السابقة أسهمت في إنهاك السلطة المركزية، وعمّقت الانقسامات الاجتماعية، والسياسية، والمذهبية، بين اليمنيين. لذا، لن تكون نتائج الحرب الحالية أفضل من سابقاتها، بصرف النظر عن نتائجها الميدانية. ولنلاحظ أن أعداء الأمس هم أنفسهم حلفاء اليوم. فعدو الحوثيين كان الرئيس صالح، وصالح حليفهم في الوقت الحاضر، ولا يهم إلى متى.
وهناك الحراك الجنوبي، أي حاصل جمع خائبي الأمل في الوحدة اليمنية، في ما كان سابقاً دولة مستقلة اسمها اليمن الجنوبي. ولهؤلاء أهداف انفصالية صريحة، فهم لا يريدون البقاء في دولة الوحدة مع الشمال، ولديهم مبررات اجتماعية، وسياسية، وثقافية، كثيرة. وإن كان هؤلاء ضد التمدد الحوثي، اليوم، فهم ضد عودة ما يرونه هيمنة للشماليين على مقدرات الدولة والمجتمع، ولا يندر أن نجد بينهم من يعتقد بإمكانية الاستفادة من الحرب الحالية لفرض استقلال الجنوب كأمر واقع.
وهناك جماعة الإخوان المسلمين، التي تحالفت مع صالح في حربه على الجنوبيين، وتتحالف اليوم مع أعدائه في الحرب عليه، وعلى حلفائه. وهذه الجماعة، التي احترفت نقل البندقية من كتف إلى كتف، كما يُقال في الأدب السياسي، تجد في الحرب الحالية فرصة لتثبيت وجودها كمكوّن رئيس في شرعية ودولة يمن ما بعد الحرب. وهذا لا يحظى بقبول آخرين يشاطرونها الخنادق في الوقت الحالي، لكنهم لا يوافقون على طموحاتها الأيديولوجية والسياسية.
وهناك القاعدة، التي كان أحد ممثليها من أعضاء وفد هادي إلى مؤتمر جنيف، وقد كانت في وقت سابق من حلفاء الرئيس صالح، الذي استخدمها، على مدار سنوات، لمنح كلامه عن “الرقص على رؤوس الثعابين” في اليمن وجاهة البراعة السياسية. القاعدة التي لا تدين بالولاء لأحد لا تقبل بسلطة مركزية قوية في اليمن، ولا بأقل من دولة الشريعة، التي تعني إنشاء إمارة في اليمن على غرار الإمارة الطالبانية في أفغانستان.
وهناك الدواعش، الذين انحدروا من أصلاب القاعدة والإخوان، ويدينون بالولاء في الوقت الحالي لخلافة البغدادي العراقية. وهؤلاء، أيضاً، لن يقبلوا بأقل من دولة الشريعة، على الطريقة الطالبانية، وقد يجدون أنفسهم بحكم الضرورة في خندق واحد مع القاعدة، كما تجد جبهة النصرة السورية نفسها، من وقت إلى آخر، في خندق واحد مع دواعش الخلافة.
والمهم، في هذا كله، أن الإخوان، والقاعدة، والدواعش، بيادق على رقعة شطرنج قبلية وجهوية معقدة تمتاز بتغيّر الانتماءات والولاءات، وبيادق على رقعة شطرنج إقليمية ودولية تمتاز برهانات، ومضاربات، تتجاوز اليمن نفسه. بمعنى آخر: يتمفصل القبلي، مع المذهبي، مع الجهوي، مع الإقليمي، والدولي، في بلورة تشكيلات عِصابية وعُصابية، بتسميات مختلفة، في تشكيل المخيال السياسي لهؤلاء، وفي تحويلهم إلى طرف معطّل لاحتمال قيام سلطة مركزية قوية. وحتى وإذا افترضنا أن تسويات إقليمية ودولية من نوع ما قد تنجح في التوّصل إلى صورة محتملة ليمن ما بعد الحرب (وهذا بعيد الاحتمال) فإن قدرة هؤلاء على تشويه الصورة، وتهديد السلم الأهلي، والدولة المركزية، تظل قائمة.
وإذا يممنا وجوهنا في اتجاه آخر وفكرنا في احتمال أن تنجح قوات هادي في دحر الحوثيين، في كل ربوع اليمن، فهذا لا يعني أكثر من جمر تحت الرماد، وانتظار حرب استنزاف طويلة الأمد، في ظل “مصالحة” سياسية على صفحات الجرائد، وشاشات التلفزيون، فما يفرّق بين مختلف المشاركين في الصراع أكبر بكثير مما يُوّحدهم. وإذا فكرنا في احتمال توقف قوات هادي والمقاومة الشعبية عن الحدود القديمة بين الشمال والجنوب، ففي هذا ما يمثل مقدمة موضوعية للانفصال، وتقسيم الأمر الواقع.
ولنلاحظ، هنا، أن الكلام عن المبادرة الخليجية، ومخرجات الحوار الوطني، والفيدرالية، والمساعدات المالية ليمن ما بعد الحرب، لن يتوقف، وعلينا العيش والتعايش معه لوقت طويل. ومع ذلك، وبقدر ما يتعلّق الأمر باحتمال قيام دولة مركزية موّحدة في اليمن، وإطفاء كل ما اشتعل من حرائق الحرب الأهلية، وما تبقى من جمر تحت الرماد، فإن طريق الآلام اليمنية لا تزال طويلة.
khaderhas1@hotmail.com